هذا العام يصادف مرور ثلاثة قرون على مولد علم من أعلام عصر الأنوار، الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو (1713- 1784) صاحب الموسوعة الشهيرة، وأحد رواد الفن الروائي في القرن الثامن عشر. وقد شهدت فرنسا صدور عدة مصنفات تتناول فكره وتستقرئ آثاره، إلى جانب تنظيم ندوات وملتقيات على مدار العام في الجامعات والمنتديات الثقافية في كثير من المدن الفرنسية، وخاصة مدينة لانغر مسقط رأسه، في مقاطعة مارن العليا. منذ قرن، كان ديدرو موضع خلاف حاد بين أنصار يريدون نقل جثمانه إلى "البنتيون" – حيث يرقد "الخالدون" الذين تركوا بصمة لا تمّحي، وقدموا لوطنهم فرنسا جليل الأعمال في شتى المجالات الثقافية والسياسية والعلمية والاجتماعية...، مثل زولا وفولتير وهوغو ومونيه – وخصوم يرفضون ذلك بدعوى أنه مجرد مشاكس لا غاية له سوى تقسيم البلاد، وأن ما تركه ليس أكثر من دعوة إلى الفوضى. وما ذلك إلا صدى للمواقف المتصارعة التي رافقت مسيرته منذ صدور "أفكار فلسفية"، فقد حمل كتابه ذاك من الأفكار الجريئة ونقد الأديان السماوية والمعتقدات ما دفع برلمان باريس إلى مصادرته وحرقه بقرار مؤرخ في 7 يوليو 1746 بدعوى أنه "يقدم للأنفس القلقة سموم أكثر الآراء إجراما وعبثية... ويضع الأديان في نفس المرتبة تقريبا، ثم ينكرها جميعا." ولم يزد نشره قصة ماجنة هي "الجواهر المفضوحة"، وخصوصا "رسالة عن العميان إلى المبصرين" التي استوحاها من فلسفة مادية ممعنة في الإلحاد، إلا في تأليب موقف الكنيسة ضده، إذ حوكم بتهمة الكفر وسجن ثلاثة أشهر زاره خلالها صديقه روسو. بعد خروجه من السجن، هجر الأعمال التي تعتبرها الرقابة "خطرة"، ونذر أعواما من حياته ( من 1751 إلى 1772) لإعداد "الموسوعة" التي تعتبر من أهم آثار فلاسفة الأنوار ، وهي "كنز′′ كما يقول ديدرو نفسه، أراد أن يتغذى منه الجميع وينتفعوا بما فيه للتحرر من الأفكار المسبقة للمعارف الخاطئة، وممارسة الفكر النقدي وبلوغ سنّ الرشد. وقد استفاد في إنجازها من "مقالة في الاستحقاق والفضيلة" لأنطوني أشلي وكوبر شافتسبوري، و"التاريخ اليوناني" للعالم الإنجليزي تيمبل ستانيان، و"قاموس الطب والجراحة والكيمياء وعلم النبات والصيدلة وعلم التشريح وتاريخ الطبيعة" لروبرت جيمس، مثلما استعان بحوالي مائة وأربعين مساهما، من بينهم روسو وفولتير ومونتسكيو وبوفّون ولوي دي جوكور، وخصوصا دالمبير الذي كان عضوا بأكاديمية العلوم. وقد صاغها على نحو يشبه إلى حدّ كبير ما نشهده اليوم على الشبكة الإلكترونية، حيث الرابط يحيل على الرابط، في مسعى جاد لتثبيت المعارف. حتى ذلك الوقت، كانت حياة ديدرو مضطربة لا يقرّ لها قرار، فقد رفض في صغره الالتحاق بالسلك الكهنوتي، مثلما رفض في شبابه دراسة الحقوق بعد انتقاله إلى باريس وحصوله على أستاذية في الفنون، إذ كان يوثر عليها الفلسفة والرياضيات واللغات والأدب اليوناني – اللاتيني، مما دفع أباه إلى قطع إنفاقه عليه، فأصبح الفتى ديدرو معدما يعيش عيشة المهمشين ويقبل كل ما يعرض عليه لضمان قوته، خصوصا بعد زواجه من امرأة من أسرة فقيرة أنجبت له أربعة أطفال لم تعش منهم سوى طفلة. تقلب في مهن كثيرة : محرر وثائق، مدرس خصوصي، ممثل هاو... ولما أتقن اللغة الإنجليزية اشتغل بالترجمة، وهي التي فتحت أمامه فكرة "الموسوعة". ولكن جهوده لم تقتصر عليها، فقد ترك إلى جانبها آثارا هامة في الفلسفة مثل " تفنيد هلفيتوس′′ والعلوم ك" رسائل في مختلف مواضيع الرياضيات"، والمسرح ك "اللقيط" و"ربّ الأسرة"، والنقد الفني مثل "خطاب في شعرية الدراما"، و"مفارقة حول الممثل"، والأدب الروائي مثل روايتي "جاك القدَري" و"الراهبة"، فضلا عن مصنّفاته في التربية والسياسة والمحاورات، وكلها تؤلف بينها فكرة واحدة : "تعلّم بصورة أشمل وأفضل، تكُنْ أكثر حرية وسعادة." وقد شكلت أفكاره الفلسفية والسياسية منطلقا لجدل واسع حول مفهوم الإيمان والطبيعة، ومهدت للثورة الفرنسية، إذ كان يدعو مع لفيف من زملائه الموسوعيين إلى أولوية الصالح العام في وضع القوانين السياسية والقضائية والمدنية، ولو أنه عدّل منها قليلا وقبل بفكرة الحاكم ذي السلطة المطلقة إذا حكم بالعدل. ومن مظاهر الاحتفال بعيد مولد ديدرو إعادة طبع أعماله متفرقة أو كاملة، وصدور عدد خاص لمجلة "لير" الشهرية، ومجموعة من الكتب القيمة لباحثين ومؤرخين ونقاد جامعيين، نذكر من بينها "سعادة التفكير" لجاك أتالي، و"ديدرو فيلسوفا" لكولاس دوفلو، و"المناضل من أجل الحرية" لغرهارد ستنغر، و" شيطان ذو شجون" لجان ستاروبنسكي، الذي يتحدث عن الأنسية الحاضرة في كل الأجناس التي خاض غمارها، حيث يخالط العلم الصدفة والضرورات. يقول : كلنا نذكر بداية روايته الفلسفية "جاك القدري" : " كيف التقوا ؟ صدفة، مثل كل الناس. ما اسمهم؟ ماذا يهمك ؟ من أين جاؤوا ؟ من أقرب مكان. إلى أين يمضون ؟ وهل نعلم إلى أين نمضي ؟" كل ديدرو تلخصه تلك الكلمات.