من أخطر الحروب تلك التي تستهدف عقول البشر، تبدأ بالتشويش ثم تصيبها في قناعاتها لصرف الأنظار عن حدث ما أو تسعى لتغيير وجهات النظر باتجاه واقع غير موجود أصلا وليس إلا وهما تم تجسيده وتدافع عنه حتى يصبح حقيقة. صناعة الكذب مورست على مدار عقود في حالات الطوارئ والحروب بالاستعانة بالإذاعات والمنشورات، لكنها لم تصل الى درجة أن تتفشى كمرض مزمن مثلما يحدث الآن في ظل انقسامات طولية وعرضية سواء في فضاء النخب السياسية أم عند عامة الناس. "اكذب ثم أكذب حتى تصدق نفسك ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون، ثم اكذب حتى يكذب الآخرون لتنقلب الأكاذيب إلى حقائق"، والعودة للبداية من جديد، تلك أصبحت قاعدة معتمدة لدى كثيرين، وأصبحت هواية قبل أن تتحول لعادة. ما أتاح ممارسة تلك المحرمات مواقع التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" و"التويتر" التي أصبحت ساحة حرة للكذب وتلفيق الأقاويل ومن لم يمارس ذلك فهو يساهم بنشرها وترويجها والأمران سيان. تلك المواقع الافتراضية جسدت ذلك الافتراض وشيدت قصورا من وهم، بدءا من بناء مزرعة سعيدة مرورا بعواطف لا تكلف الكثير وبخاصة أنها تمارس من خلف ستار إلى صناعة محترفة لأنباء تمس حياة البشر تفيض بمعلومات عن أنواع الأسلحة وأشكال الحروب المرتقبة. يبدو في الوهلة الأولى أن يكون صحيا الاختلاف في وجهات النظر والانقسام تجاه قضايا الإقليم لاعتبارات وتوجهات متنوعة، لكن الأمر بلغ مرحلة الإهانة والاساءة والتخوين والتكفير. حتى الدين من ناحية عقائدية لم يسلم من تلك الغوغاء، وصار سهلا نشر فتوى لم ينطقها أحد أو الجدال في ثوابت راسخة لم يستطع علماء الغرب أن يحرفوا حرفا واحدا منها إما شكلا أو مضمونا. أما فبركات مقاطع الفيديو والتلاعب بالصور واختراق الحسابات فأصبحت إضافات نوعية لتلك الصناعة، ولم لا.. إن كانت البرامج جاهزة أو كلمات الشعر والأقوال المأثورة في تناول اليد. الكارثة تكمن في خوض نخب الإعلام التجربة فأعجبها ممارسة ذلك، إن لم يكن لمصلحة أو منفعة فهو يأتي في سياق السير مع الجماعة، وهو ما دفع الإعلام ليسأل نفسه بنفسه ولماذا أكون صادقا والجميع يكذب؟ وبدلا من الغاية الاساسية التي أنشئت لأجلها تلك المواقع "التواصل الاجتماعي"، يفترض أن تستبدل ب"التحايل الجماعي" فالكل يسعى الى اثبات وجهة نظره حتى لو كانت خاطئة ويجير كل ما هو متاح لفرض الفكرة ثم تسويقها وجلب الدعم اللازم. لا أفهم لماذا تصرون على مصادرة آخر ما نملك.. إنسانيتنا.