الكذب صفة قبيحة ومن المعيب أن تلتصق بالشخص, وإن من يلازم الكذب قد أضر نفسه وخسر ثقة كل من حوله, والكذب لا يمكن أن يفرض نفسه علينا بل إن المحيط الذي نعيش فيه قد يساهم في اجتذاب بذوره وغرسها فينا لتنمو بعد ذلك وتكبر وتتعاظم تدريجياً وفي كل مرحلة عمرية نصل إليها، وطبعاً أقصد هنا بالمحيط البيئة الأسرية.. فالأب الذي يجبر ابنه على الكذب كأن يقول له مثلاً إذا جاء فلان يسأل عني فقل له بأني غير موجود, وهنا تبدأ بذرة الكذب بالانتقال إلى ذوات الأبناء لتنمو وتترعرع فيها وتكون النتيجة “أبناء كاذبين” لدرجة أن البعض منهم قد أصبحوا محترفين في ابتداع أساليب الكذب، وعندما كبروا أصبحوا معروفين بين الناس بأنهم أكذب من لمعان السراب ومن سحاب تموز. والغريب أن أهل الكذب اليوم قد طوروا الكذب وصنفوه وأطلقوا عليه مسميات عدة كالكذب الأبيض والكذب الأسود وكذب المزاح والدعابة وكذب الترهيب وكذبة إبريل.. وطبعاً مهما اختلفت المسميات، فإن الكذب يظل كذباً ونتائجه ضارة، وأبسط مثال على ذلك قصة ذلك الراعي الذي أراد أن يكذب على سكان قريته بقصد الدعابة والمزاح معهم، فإذا به يسعى مهرولاً إلى قريته رافعاً صوته يشكو من أن الذئاب سوف تأكل غنمه، فهرول الجميع لنجدة غنمه، وعندما وصلوا إلى المرعى لم يجدوا الذئاب, وهكذا ظل الراعي يمازح سكان قريته وكانوا في كل مرة يكتشفون بأن الراعي لايزال يكذب عليهم, ولكن في المرة الأخيرة بالفعل حضرت الذئاب وهاجمت غنم الراعي الذي هرول مسرعاً إلى قريته طالباً من سكانها الغوث وإنقاذ غنمه من الذئاب ولكنهم هذه المرة لم يعيروه أي اهتمام، وعندما تأكد الراعي المنكوب بأنه لا أمل من الاستجابة لنجدته عاد إلى غنمه فلم يجد منها سوى العظام فحزن عليها وقال صارخاً: الذئاب لم تأكل أغنامي، بل الكذب هو من أكلها. إن قصة هذا الراعي ذكرتني بموقف حدث لاثنين من الأصدقاء، وذلك عندما كانا يدرسان في إحدى المدارس الريفية والتي وجدوها تعاني من عجز كبير في المدرسين فتحملا على عاتقهما مسئولية تغطية هذا العجز.. فلقد ظلا ولمدة أربعة أشهر متواصلة يؤديان عملهما دون كللٍ أو مللٍ.. وفجأة حل بهما اشتياق شديد لزيارة أسرتيهما في المدينة فقال أحدهما للآخر: لماذا لا نتقدم للمدير بطلب إجازة لمدة يومين؟ فقال له صاحبه: مستحيل أن يوافق مدير المدرسة على طلبنا، إلا إذا أثبتنا له بأننا بالفعل مرضى كأن نقول له بأننا نعاني من الضراس “تورم يظهر في أسفل الذقن ويسببه تسوس في الأسنان”.. وحتى نؤكد للمدير بأننا مرضى فلابد لنا أن نذهب إلى تلك الشجرة الشوكية “القصاص” والواقعة في الوادي ويوجد فيها عش كبير تسكنه حشرات الدبابير ومن ثم نقوم بإمساك واحدة منها ونضعها في أسفل الوجه ونضغط عليها حتى تلسعنا وبعدها سوف يصير خدانا متورمين وكأننا مصابان بالضراس. بعد ذلك اتفق الاثنان على تنفيذ هذه الفكرة وذهبا إلى عش الدبابير.. وفي أثناء قيامهما بمحاولة الإمساك بأحدهما إذا بالدبابير تشن هجوماً مباغتاً عليهما وتشبعهما لسعات متتالية فتورم وجهاهما وأصبحا يشبهان إنسان دول شرق آسيا.. وبعد انتصار الدبابير عليهما ذهب الاثنان إلى مدير المدرسة وطلب منه الموافقة على الإجازة فنظر إليهما فضحك حتى كاد أن يسقط على الأرض وعندما شبع من الضحكات قال لهما : لستما مصابين بالضراس وإنما بلسعات الدبابير ولو أنكما صدقتما معي منذ البداية لمنحتكما الإجازة.. فقال له أحدهما: المعذرة منك فقد أنسانا اشتياقنا لأسرنا ذلك القول المأثور لعمر «رضي الله عنه» “عليك بالصدق وإن قتلك”. إذن لماذا نكذب ؟ ونحن نعلم بأن الكذب هو رأس المآثم, وعموده البهتان, وأن الموت مع الصدق خير من الحياة مع الكذب .. لذا فإنني أنصح كل كاذب بأن يخلع عنه ثوب الكذب .. واستشعار عظمة الصدق في قول النبي “صلى الله عليه وسلم”: “إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار.. وتحروا الصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة”.