إن العاصمة تعز بالنسبة لي ولجيلي في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي تعد من أهم المراحل العمرية والتعليمية التي غيرت مجرى حياتي. كما تعد تعز من أهم المدن اليمنية التي وطأتها قدماي بعد قيام ثورة 26 سبتمبر وبالتحديد بعد عام 1967م حينما وضعت الحرب الأهلية أوزارها والانتصار على فلول الإمامة والمرتزقة في حصار العاصمة صنعاء لمدة 70 يوما وكانت العاصمة صنعاء محاصرة والكل يتصارع ويتسابق على الاستيلاء والسيطرة عليها خاصة القوى المضادة للثورة , كانت مدينة تعز تقوم مقام العاصمة الثانية وكانت تمتلك كل مقومات العاصمة فإذاعة تعز كانت موجودة وتؤدي دورها الإعلامي المميز لمواجهة أعداء الثورة وكانت في كثير من الأحيان تنظم وترتبط بإذاعة صنعاء لبث البرامج المشتركة لتصل إلى أكبر مساحة في اليمن . وكانت الصحف الحكومية والأهلية تصدر في تعز كصحافة حرة وتنويرية وكان غالبية الشعراء والأدباء والمثقفين والفنانين يقيمون في مدينة تعز وكان معظمهم من أنحاء كثيرة من اليمن ؛ وقد انطلقت إبداعاتهم من تعز, وأذكر على سبيل المثال الشاعر الكبير عبد الله عبد الوهاب نعمان والشاعر الكبير علي بن علي صبره, ومن الفنانين الذين عاشوا في تعز أيضا و أبدعوا فيها وهم الفنان الكبير المبدع أيوب طارش وعبسي والفنان الكبير علي بن علي الآنسي والفنان علي عبد الله السمة وغيرهم من الفنانين والأدباء والكتاب والشعراء الذين ملأوا الساحة اليمنية غناء وطربا وشعرا وأدبا وأناشيد وطنية بديعة . ومن تعز انطلقت الثقافة وانطلق الفن وانطلق التعليم بصورة مكثفة لم يسبق له مثيل, وقد استقبلت مدينة تعز عشرات الآلاف من طلبة العلم والمعرفة من كل بقاع اليمن للالتحاق بالتعليم الأساسي والثانوي بعد حرمان وجهل خيم على اليمن عشرات السنين لينهلوا من منابع العلم والمعرفة في مدارس تعز, ومن تعز أيضا انطلقت قوافل الشباب من خريجي الثانوية العامة إلى دول العالم للالتحاق بالجامعات المختلفة عربية وأجنبية للحصول على مؤهلات جامعية عليا في شتى علوم وفنون المعرفة حيث شكل هؤلاء الخريجون البذرة الأولى والنواة الطيبة والخيرة في رفد قطاعات الدولة وأجهزتها المختلفة ودعمها بالكوادر الشبابية المؤهلة لتغطي النقص وتسد العجز في الوظائف الإدارية والمالية والاقتصادية والتخصصات الطبية والتعليمية والسياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها من التخصصات المطلوبة. وقد انطلق أبناء وشباب تعز من الخريجين إلى كل محافظات الجمهورية كمعلمين وأطباء وإداريين ومهندسين زراعيين, حيث كانت اليمن كلها تعاني من النقص الشديد في الكوادر الجامعية المؤهلة فنجد أبناء تعز في صعدة وفي مأرب والجوف وفي عمران وذمار وفي حجة والحديدة وفي صنعاء وفي إب. وهكذا كان دور أبناء تعز مؤثرا تأثيرا بالغا في المساهمة في رفع مستوى أبناء الشعب ثقافيا واقتصاديا وتعليميا وطبيا وصحيا وبناءا وتعميرا وثقافة . وكانت مدينة تعز هي المدينة المسالمة والتي شهدت نهضة معمارية بديعة قل أن تتكرر في أية مدينة يمنية أخرى من حيث طابعها المعماري المميز والأصيل وباتت تحتل الأولوية في التعليم وفي التجارة وفي الصناعة وفي الرياضة وفي الريادة وغيرها من علامات النهوض الحضاري. وقد بذل المغتربون اليمنيون في الخارج من أبناء محافظتي تعزوإب أموالا طائلة للنهوض بتعز وتعميرها وأصبحت تعز قبلة للزائرين والمقيمين الذين أحبوها وأحبوا الإقامة فيها وتعايشوا فيها سالمين مسالمين آمنين ومتحابين وتربطهم علاقات حميمة أكيدة لا عنصرية فيها ولا قبلية ولا عصبية ولا مذهبية فهم يعيشون كنسيج اجتماعي واحد . ولكن ماذا جرى يا تعز بعد أحداث عامي 2011م و 2012م . بالطبع كان أبناء تعز أول من سارع وبادر إلى الخروج إلى الساحات والشوارع للتظاهر والاعتصام تحت شعار أسقاط النظام, وكانوا يظنون أنهم بهذا الخروج الشبابي والنسائي الكثيف أنهم سيغيرون وجه اليمن وأنهم سينعمون بالرفاهية والحرية المطلقة والتغيير إلى الأفضل, وقد حصل في تعز ما حصل وقتل من قتل وتشرد من تشرد ودمرت المنازل والمتاجر وهدمت الشوارع والمباني وتوقفت المشاريع التنموية وسقط مئات الشباب بين قتلى وجرى, وقد انتهت تلك الأحداث المؤسفة والدامية بالصلح بين السلطة والمعارضة والأحتكام إلى العقل والمنطق, طالما لم تستطع حروب الشوارع والمتارس من حسم الموقف لصالح طرف معين, وكانوا يظنون أنهم سيعيشون ربيعا أفضل من ربيعهم وصيفا أخف وأجمل من صيفهم الحار, وشتاء معتدلا أفضل من شتائهم البارد والمصحوب بالرياح الشديدة . وهكذا ظنوا, وكانوا يعيشون في أمن وأمان وسكينة وسلام ولكن هم الذين سمحوا وأعطوا وأتاحوا الفرصة للجحافل القبلية المسلحة المتعطشة للدماء والدمار والنهب أن يغزوا مدينة تعز لمناصرة الشباب المطالبين بإسقاط النظام . ولكن ماذا بعد سقوط النظام لقد سقطت مدينة تعز بأيدي المسلحين من خارج المدينة وأصبحت تعز مرتعا لهم وباتت مصدر قلق أمني ومذهبي وطائفي وقبلي ووطأت أقدام القاعدة والحوثيين والتكفيريين والمخربين مدينة تعز إضافة إلى المليشيات المسلحة المدعومة من قبل بعض الأحزاب المتطرفة. إن أبناء مدينة تعز يعرفون جيدا إلى أين ينتمي هؤلاء المسلحون ومن يحركهم ومن يوجههم وما الهدف من ذلك ؛ المهم أن تعز الآن تحتضر وتُسلب منها إرادتها وحريتها وتنتهك كرامتها وتهان ثقافتها وتسامحها, ويُسلب منها أمنها وأمانها وسكينتها وتجرد من هويتها . وأضحت تعز مصدر خوف وقلق ورعب لمن يسكنها أو يزورها نتيجة لما لحق بتعز من إهانات ودمار وتدمير وطغيان القطعان المسلحة على المشهد اليومي في تعز, فهم يغتالون ويقتلون وينهبون ويتقطعون ويتفيدون ويدوسون على كرامة أبناء تعز بقلوب باردة, فهم يسرحون ويمرحون ويتجولون في الشوارع مدججين بالأسلحة المختلفة ولا أحد يستطيع مجرد سؤال أحدهم من أنت وماذا تريد ومن تتبع, وقد أختلط الحابل بالنابل في تعز, يقول المثل من طلب الكل فقد الكل فأبناء تعز قد خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بسقوط النظام والدولة والجيش والأمن والفساد معا, وفي النهاية فقدوا الكل وسقطت تعز ولم يسقط الفساد. فوا أسفاه عليك يا تعز العز…؟ [email protected]