في العام 1982 قصفت القوات الإسرائيلية بيروت. في تلك الساعات السوداء هتف وزير الدفاع الإسرائيلي: عندما قصفت مخبأ ياسر عرفات أحسستُ أني أقصف مخبأ هتلر نفسه. انتهت الحرب بشروط قاسية أدّت في النهاية إلى خروج الرجال الفلسطيينين الشجعان بالطريقة نفسها التي غادر بها اليهود ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية. الفرق الوحيد والجوهري: أن الدول الغربيّة وصفت خروج اليهود بالخروج التوراتي (الأكسيدوس) الثاني، وأسمت محرقتهم في ألمانيا بالهولوكوست، أو الأضحية المقدّسة. كما والتزمت بدولة يهودية أعلن عنها بعد انتهاء الحرب بثلاثة أعوام فقط. في الجانب الفلسطيني، وصفت حكومات عربية خروج المناضلين الفلسطينيين من لبنان بأنه "خروج أشبه بهروب النعاج، أو الأبقار". أما التزامها تجاه هؤلاء الحقيقيين فلم يكُن سوى فقرة من لعبة الغمّيضة (اختبأ وابحث) التي ستتكشّف فيما بعد على نحوٍ مثيرٍ للرّعب والاشمئزاز. ومنذ ذلك الحين، وإلى الأبد ويوم، لن يحصل الفلسطينيون على دولتهم التي يرونها خلف ظهورهم. كما أن المؤكّد أن الدول العربية، غير الديموقراطية وبالتالي: غير الدستورية، ستعمل جاهدةً على تحقيق هذه الفرضية. هكذا هي الصورة: رفضت دول الخليج العربية المنقوعة مالاً وبترولاً مجتمعة استقبال مناضل فلسطيني واحد، أو حتى لاجئة واحدة، ولم يحدث بالمطلق العريض أن استقبلت أي منفي أو مشرّد فلسطيني منذ قيام إسرائيل، وتقريباً حتى قيام الساعة. الذين دخلوا الإمارات، على سبيل المثال، كانوا مجرّد عمالة محترفة أو غير محترفة، مثل باقي البشر الأسيويين والأفارقة العرب، وها هي الإمارات الآن تطرد في عامٍ واحد أكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني من أولئك الذين اقتربت سنوات إقامتهم من 30 عاما. أما العِراق فقد استقدم مجموعة فلسطينية مسلّحة أراد أن يوظفها في صراعاته الدموية المحضة، أن يشغّلها كبندقية عابرة للحدود. ولم يمض عامٌ واحد على اختفاء النظام العراقي العروبي القاتل حتى كانت إيران – التي تدافع عن الفلسطينيين في لبنان وغزة- تذبحهم في كل أرجاء العراق. وفي تونس، نام الهجير الفلسطيني في انتظار أن تفعل الاستخبارات الأميركية فعلها المكتوب في التاريخ: اغتيالات في وضح النهار، وفي سواد الليل، على مسمع من الدولة المضيفة ومرأى من مقر جامعة الدول العربيّة القريبة من المخيم الفلسطيني بآنئذٍ. لا يزال الفلسطينيون يغنّون لتونس، وهم يكتمون بداخلهم حقائق بائسة، حول تجربة تونس، لا تمت إلى الأغنية بصلة. مكان بعيد هو الذي احتضن الفلسطينيين، وآواهم وأعاد أجيالهم الجديدة إلى حقول العلم والمعارف. إنها أوروبا، الكافرة والزنديقة والصليبية، التي فعلت ما لم تفعله مكةالمكرمة والنجف الأشرف والأزهر الشريف. على الأقل: إنه لأمرٌ يمكن أن يغفر خطيئة أوروبا التاريخية. إنها قصة محضة الألم و الحزن. وأخيراً وصلت طلائع الشرفاء إلى صنعاء وعدن. استقبل النقيضان اليمنيّان، في الشمال والجنوب، تلك الطلائع في احتفاليات بدت وكأنها صادقة وجليلة، قبل أن يتكشف الأمر بعد أكثر من عقدين من الزمن أن المبالغة في الحفاوة كانت إلى حدٍّ كبير إحدى تكتيكات الصّراع بين الطرفين عبر ادعاء أخلاقي، وعروبي، غير قابل للحياة الطويلة. تعالوا نقترب من هذه التناقضات المستعصية: قبل أكثر من عام تحدّث الفندم يحيى محمد عبد الله صالح لصحيفة الوسط عن أمنيته العظمى (تحرير أرض فلسطين من النهر إلى البحر). وبموازاته لا يفتأ الشيخ حميد الأحمر يشير إلى فلسطين باعتِبارها حبّة القلب. حتى أنه ورث أباه في مؤسسة القدس العالمية، التي من المفترض أنها وضعت على عاتِقها الحق الفلسطيني. والحق الفلسطيني شيءٌ آخر لا علاقة له بالحديث عن الحق الفلسطيني. في فيلم أميركي بديع تتحدث فتاة عن شاب شرق أوسطي أعجبت به في مقهى البلدة. وعندما تصفُه لأبيها، ضابط الاستخبارات الكبير، فإنها لا تتذكر سوى عبارة واحدة: لقد قال لي إن بلادي ليست أرضاً، إنها ناسٌ فقط. من الفم الناعم لتلك الممثلة الأميركية التقط التعريف: إن فلسطين، التي نزعم كلنا وقوعنا في غرامها، ليست أرضاً، إنها الناس. يستمر خيط التناقضات: تعيش فلسطين، يسقط الفلسطينيون. وفي المحصلة: نعم، ستعيش فلسطين لليهود، وسيسقط الفلسطينيون. يضغط المعتدلون العرب، وكلهم معدّلون بلا استثناء، على المفاوض الفلسطيني للتنازل عن حق العودة. يقابل الأمر هوى ماديّ لدى المفاوض فيهوي إلى طاولة الحوار بائعاً آخر ما تبقى لديه من أوراق الضغط: دعونا لا نتحدث عن حق العودة، فيهز الإسرائيليون رؤوسهم. هكذا: من حاصل 33 مادة في بيان التأسيس بالنسبة لحركة التحرر الفلسطينية (فتح) لم يبق من ذلك البيان سوى 5 مواد فقط لم يطلها الحذف أو التحوير. وبالرغم من استجابة المفاوض الفلسطيني لفكرة حذف حق العودة، فإن العرب جميعهم يحشرون الفلسطينيين في كنتونات قاتلة، يحرمونهم من أبسط الحقوق التي تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. أما التبرير الأخلاقي فجاهز تماماً: لكي لا ينسى الفلسطينيون أرضهم التاريخية. بمعنى: أرضهم التي يطالب كل العرب بحذفها من أوراق التفاوض تحت مسمى " إلغاء الفكرة غير العملية لحق العودة"! في صنعاء، نزل المناضل الفلسطيني عقب حرب لبنان تضلله قصيدة درويش "في مديح الظل العالي"، وهو يصف العرب بالمنافقين والجبناء والكلاب. نعم، نزل أحمد العربي، ذو الأسوار العالية، وجرى خلفه حصاره استجابة لنداء درويش: أنا أحمد العربي، فليأتِ الحصار. جسدي هو الأسوار، فليأت الحصار. سكن الشرفاء في مدينة حدّة، بوسط صنعاء. في النصف الأول من عقد الثمانينات لم تكن حدّه كما هي عليه الآن. أعني: أعيد توزيعها على المتوحّشين حتى أنها وصلت إلى صورة كاريكاتورية مذهلة. فثّمة أحياء ممتدة ومتلاصقة لا تجد فيها مسجداً للصلاة، إذ مَن ذلك الذي، من سكان حدّة، سوف يتبرع بشبرٍ واحدٍ لله. هذه صورة كاريكاتورية شديدة التجديف، يقولها الواقع بملء فمه. أما الصورة الأكثر نضجاً للقصة فجاءت هذه المرّة من الجبل المطل على حدّه: فج عطّان. يجري تحويل الجبل، الآن، عبر شركة قطرية إلى متنزه، ومدينة سكنية، بتكلفة 600 مليون دولار. حظ الفلسطيني لا يلائمه لوقت طويل، هكذا يتصادف أن يتقابل مدخل تلال الريان (القطرية) ومدخل "السكن الفلسطيني الفقير". إن السكن الفلسطيني، الغارق في الزبالة والمجاري المفتوحة على الشارع والظلام الجزئي والكلّي والفقر المرعب؛ هذا الأبارتهايد الذي لا يوجد له نظير في حياة عرب إسرائيل، يوجد في بلد الإيمان على نحوٍ لا يترك فرصة للجدال حول الإيمان والحكمة! أبارتهايد كارثي سيشوّه مدخل تلال الريان السكنية، ويستحسن أن يُتعامل معه على عجَل. هزّ الرجال الكبار رؤوسهم، وكأنّي بأول أسرة فلسطينية نازحة تقترب من باب السكن صافقة باب منزلها الخشبي خلفها وإلى الأبد. ينتظرها في الخارج شتات جديد، وبحرٌّ من التيه ليس له ساحِل. مستفعلٌ فاعلٌ، مستفعلٌ فاعل! لا يحب الفلسطينيون هذا الربط، بين سكنهم وبين تلال الريّان، إيثاراً لسلامة القلب وربما سلامة الجسد. ومع ذلك: فقد تسلّموا توجيهات نهائية بمغادرة هذا السكن الذي نزلوا فيه قبل ربع قرن. لم يخبرهم أحدٌ إلى أين الوجهة، لكنهم يتذكّرون أن الفندم يحيى صالح وعدهم ب 17 ألف دولار لكل أسرة تملك منزلاً. لم يصل الأمر، رغم قسوته وضراوته، إلى مسامع الشيخ حميد الأحمر ومؤسسة القدس العالمية. مثلاً: يعلم الفندم يحيى أن هذا المبلغ يساوي تماماً إيجار شقة جديدة لمدة ثلاث سنوات وحسب، وبعدها سيكون على كل أسرة فلسطينية أن تفترش الشارِع، في ذاكرتها بطولات حرب لبنان ومذكّرات الفدائي في صحيحه الأوّل، وعلى قلبها ينام ظلام القرون. أما حميد الأحمر، وبالرغم من أنه لم يسمع بالأمر، فإنه لن يفعل للفلسطينيين ما كان أبوه سيفعله بكل تأكيد. لن يقول، وهذا مجرد مثال: سأقدم مائة شقة سكنية جاهزة، من شقق بنك سبأ السكنية، لمائة أسرة فلسطينية بمبلغ 17 ألف دولار عن كل شقة. الأمر ليس فيه تعقيد، لكن لأن الحفاوة العذبة التي قدمت للفلسطينيين في يوم ما كانت إحدى تكتيكات الحرب الباردة بين الشمال والجنوب، ولأن الدافع الديماغوجي اختفى تقريباً في هذه اللحظة، لذا فما على الفلسطيني سوى أن يتدبر أمرَه بظفره وجلْدِه معاً. الفندم يحيى يصلي لأجل فلسطين، والشيخ حميد يصوم لأجل فلسطين. ولا أدري ما إذا كان هنالك شخص ثالث في اليمن يحج لأجلها، ورابع يكمل بقية الركنين. لكن ما أعلمه يقيناً: مائة أسرة فلسطينية أهينت بصورة بالغة القسوة لا تتناسب بالمطلق مع الكرم والأخلاق اليمنية، مع تاريخ البلدة الطيبة. يتذكر قاطنو المخيم (السكن) الفلسطيني أن السيد الرئيس زارهم في أواخر التسعينات، وتحدث إلى كبار مناضليهم، خصوصاً أولئك الذين لا يزالون يحتفظون بصورهم الفوتوغرافية وهم يدبِكون "والساعد يشبك ساعد" مع المناضلة العظيمة الشهيدة الفلسطينية دلال المغربي، في ساعة من النهار قبل أن يتوجهوا إلى صدر العدو ببنادقهم الروسية الجسورة. قال لهم الرئيس آنئذٍ: إن السكن الفلسطيني خطٌّ أحمر، وأنهم في ضيافته الشخصية بلا شروط ولا مدد زمنية. وغضب بصورة لافتة، هكذا يروون، حين علم أن بعض اليمنيين اشتروا بيوتاً في هذا السكن من فلسطينيين هاجروا إلى دول أخرى. أخبرهم الرئيس أن هذا السكن فلسطيني محض، وأن عليه أن يبقى هكذا، برعايته الشخصية وضيافته الأخوية. كانوا يدفعون رسوماً رمزية للشركة الكويتية، التي يُقال إنها مالكة أرض السكن. ومنذ العام 1994 غيّرت الشركة رقم حسابها في عملية فُهِمت أنها إشارة إلى عزم الشركة تغيير قواعد اللعب. منذ تلك اللحظة عاش الفلسطينيون قصة مختلفة: يختفي عاملو الزبالة لعدة أيام حتى تتكدس الزبالة وتسد الأنوف والقلوب. تنقطع الكهرباء ليومين وربما أكثر. وفي مرة يهجم بعض رجال القبائل على مبنى المستشفى الموجود في دائرة السكن الفلسطيني ويصرّون على أنهم أصحاب ملكية، وهكذا يقيمون ببنادقهم وعتادهم العسكري لمدة عام كامل في غرف المستشفى وفنائه، قبل أن تأتيهم أوامر بالمغادرة. يفهم الفلسطينيون الأمر باعتباره عملية " تطفيش" لأهل السكن، أو ضغطاً يوميّاً يقصد إلى إفهامهم أن بقاءهم في السكن غير ممكن بعد الآن، وأن أي حياة خارج السكن، مهما بلغت قسوتها، لهي أحسن حالاً من بقائهم فيه. من الذي يفعل كل هذا تجاههم؟ يرفضون الإدلاء بأي افتراض، ناهيك عن الإجابة، شراءً لراحة البال، وخوفاً من المجهول، والمجهولين. يا لها من ضيافة يا يمن الإيمان! تتعاظم المأساة حتى الذروة: قرار طرد الفلسطينيين أصبح نهائياً وحاسماً، خاصة بعد أن انسحب قسم الشرطة من أمام السكن تاركاً أمر حراسة السكن ومحاصرته لقوة أمنية خاصة يُقال إنها تتبع الشركة الكويتية المالكة للسكن. وعندما يغادِرون، بلا وجهة، سيكون من المناسب جدّاً أن نكتب هذا المانشيت: نزوح جماعي لمائة أسرة من المخيم الفلسطيني في صنعاء، برعاية جميعة كنعان لفلسطين، ومؤسسة الأقصى العالمية! وهلمجرّاً، وبرّا.