رغم أن حركة يونيو التصحيحية (الانقلاب الأبيض) الذي ارتقى بموجبه إبراهيم الحمدي إلى سدة الرئاسة في (ج.ع.ي)، أضحت ذكرى رهينة لمربعات النسيان في الذاكرة الشعبية لقاطني الجغرافية اليمنية، إلا أن سيرة قائد الحركة ما تزال حاضرة في بقايا الذاكرة الشعبية، إذ لم يُفلح داء الإجهاد الذي أصابها في إلحاق تلك السيرة بمربعات النسيان رغم مضي ثلاثة عقود زمنية ونصف على المشهد المأساوي الذي فاضت فيه روح صاحب السيرة الى بارئها. ثمة تساؤل جاد يفرض ذاته بصورة دورية كلما عادت ذكرى الرجل إلى الألسن، مؤداه: ما هو السر الكامن وراء احتفاظ الذاكرة الشعبية بسيرة هذا القائد دون غيره من حكام الجمهورية الشطرية السابقة؟! وهو تساؤل يدفعنا لنسق تسلسلي من العلامات الاستفهامية أبرزها: هل لطريقة اغتياله الآثمة دور في الحضور الطاغي لذكراه لدى العامة؟ أم أن إنجازاته هي السبب؟ وماذا عن أسلوبه في إدارة شؤون الحكم والدولة، هل يعد دافعاً لتأصيل تلك الذكرى؟ سيرة مضيئة كثير من العامة يجهلون ما ترمز إليه حركة يونيو التصحيحية ومغزاها وأهداف قيامها، غير أن قطاعاً واسعاً منهم يدركون رمزية ودلالة ال 13 من يونيو ليس باعتباره يوماً استهلت فيه تلك الحركة، وإنما كونه شهد وصول الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي إلى رأس الهرم السلطوي الأعلى كقائد للجيش ورئيس للجمهورية.. لهذا ولغيره لم يكن ال13 من يونيو 2009، يوماً عادياً (من حيث قضايا النقاش) لكثير من اليمنيين وبالأخص أولئك الذين عاصروا حقبة الحمدي، إذ انساق الغالبية خلف نداءات الخوض في تفاصيل السيرة الحمدية الحافلة بالمحطات المضيئة.. صراع من أجل الدولة ربما لن نجانب منطق الصواب إن زعمنا بأن المشروع السياسي للحمدي يتصدر موقعاً متقدماً في تراتبية الأسباب التي أسهمت في تخليد ذكراه لدى العامة.. فالرجل لم يكن سلطوياً انتهازيا باحثاً عن تكوين ثروة أو الاستمرار في سلطة، بقدر ما كان بناء الدولة وتعزيز قوتها هاجسه وحلمه، بالتوازي مع رغبة يقينية في تحقيق تطلعات المسحوقين من أبناء الوطن في العدالة والاجتماعية والمساواة.. ثمة من يرى إن الخطوات الإزاحية التي أقدم عليها الحمدي مقصياً بها المشائخ والشخصيات النافذة ليست سوى تأكيد على نزعته نحو الفردية ورغبته في انتهاج الديكتاتورية عبر إبعاد المنافسين. انتفاء موضوعية الرأي السابق له ما يبرره، فلو كان الحمدي باحثاً عن سلطة لما سعى لإقصاء المشائخ وذوي النفوذ بل كان سيستخدمهم درعاً واقياً وبطانة تساعد على البقاء في السدة أكبر وقت ممكن. من مبررات عدم الموضوعية أيضاً، أن الخطوات الإزاحية لذوي النفوذ والمشائخ جاءت تتويجاً لاستنتاجات معمقة خلاصتها تنص على أن تحقيق العدالة الاجتماعية وتطبيق القانون على الجميع وبناء دولة النظام لا يمكن أن يحدث في وجود لفيف من مراكز القوى الانتهازية المتحكمة في مسارات السلطة واتجاهات الثروة، إذ لا مناص من التضحية بمراكز النفوذ تلك، ما دام بناء الدولة هو الهدف والغاية. ثالث مبررات انتفاء الموضوعية، أن المروجين لذلك الرأي هم خصوم الرجل الذين استغلوا ثقته بهم واستعانوا بأموال الشقيقة الكبرى للخلاص منه والعودة الى مواقع نفوذهم المسلوبة. اغتيال مشروع الدولة لعلنا لن نبالغ أن قطعنا جازمين بأن مشروع بناء دولة النظام والقانون في شمال الوطن سابقاً خضع لعملية اغتيال كتلك التي حدثت لحياة الحمدي.. ذلك أن رحيل الرجل بعملية قتل إجرامية غادرة، أعاد إنتاج تلك المراكز النفوذية التي أحكمت قبضتها، وحولت أفراد الشعب إلى قطعان من العبيد مسلوبي الإرادة خاضعين لسلطة ذوي النفوذ من المشائخ والعسكر. لقد أُجهض مشروع دولة العدالة والمساواة، لصالح تحالف "عسقبلي" استطاع أن يستأنف مسيرته المظفرة حتى يومنا هذا الذي غدا فيه الحديث عن محاسبة فاسد او الاقتصاص من ظالم وصاحب نفوذ، ضرباً من المستحيلات. هراء وشائعات وأحذية! عقب نجاح قوى الظلام في إزهاق روح الحمدي، بدا الغضب يلف ربوع الجمهورية الشطرية، وبصورة لم يجد معها القتلة والمجرمون سوى إباحة الطعن في جثمان المغدور عبر الترويج لشائعات كثيرة.. فعلى صعيد الحكم أخذوا يتهمونه بالدموية والتعطش لسفك دماء المعارضين والمناوئين وإعداد قوائم بمشائخ اليمن ووجهائها لتصفيتهم.. أما على الصعيد الشخصي انبرى الأفاقون لترويج حكايات وقصص وروايات حوّلت الحمدي إلى شهريار وزير نساء وعربيد وسكير ...الخ. لكن هيهات أن تنطلي الحيلة، فحاسة التمييز بين النقائض التي اتقدت في عقول اليمنيين، أبت تصديق كل هذا الهراء، لينقلب سحر الشائعات فوق القتلة الذين تلقت رؤوسهم ضربات بالأحذية من أيدي عامة الشعب الغاضب على رحيل قائده..
تأسيس المؤتمر الشعبي العام لم يكن هدف بناء دولة العدالة والمساواة هو المشروع السياسي الوحيد، إذ كان إبراهيم الحمدي يسعى لتأسيس حزب سياسي شعبي يقود دفة الدولة تماماً مثلما كان الحزب الاشتراكي يدير الدولة محققاً لشعب الجنوب عدالة ومساواة.. فكرة المؤتمر الشعبي العام، ليست من بنات أفكار علي عبدالله صالح، كما يدعي البعض، بل هي نتاج لمشروع كان الحمدي يتطلع إلى إنجازه.. أيها السادة، لا تستغربوا كثيراً، إنها الحقيقة التي يمكن التأكد منها بالرجوع لإرشيف خطابات الحمدي التي كشف في أحدها عن عزمه المُضي في تأسيس مؤتمر شعبي عام لقيادة البلاد.. بعبارة أخرى، يمكن القول إن إبراهيم الحمدي كان يملك مشروعاً سياسياً شبة مكتمل ورؤية حقيقية لإدارة شؤون الحكم والدولة في مرحلة ما بعد إزاحة مراكز القوى.
بين صالح والحمدي ليس من المنطق في شيء الاكتفاء بالأسطر السالفة كتبرير لخلود ذكرى الحمدي في الذاكرة الشعبية، فالربط بين عهد الحمدي وعصرنا الراهن، يُعد مسبباً رئيسياً ودافعاً يجعل الناس بطريقة لا شعورية يمارسون طقوس الترحم على الرئيس العادل إبراهيم الحمدي. إذ أن إجراء مقارنة بين واقع اليوم وعهد الحمدي، يكشف بجلاء مدى البون الشاسع بين العهدين.. ففي عهد الحمدي كان القانون يسري على المسؤولين والمشائخ قبل غيرهم من عامة الشعب، وهنا لعل البعض لازالوا يتذكرون ما حل بمحافظ الحديدة سنان أبو لحوم الذي أُقصي آنذاك من منصبه بسبب امتلاكه لبرج في الحديدة! كذلك الحال بما حدث لشيخ الجعاشن الذي أمر الحمدي باعتقاله والتحقيق معه بعد أن تضاعف حجم شكاوى المواطنين من ظلمه. في واقعنا الراهن، أضحى القانون سيفاً مسلطاً على رقاب المستضعفين، وغدا من المستحيل مجرد التفكير في إحالة محافظ إلى التحقيق بتهمة الاعتداء على صحفي، وحتى لو صدر الأمر بالتحقيق فالرئيس القائد كفيل بفرملته وتحويله إلى مجرد حبر على الورق مع وقف التنفيذ..!! ذلك مع محافظ، فكيف الحال مع النافذين الكبار الذين يعبثون بحياة الناس وكرامتهم دون حسيب أو رقيب! وهنا نتساءل: أليس في المقارنة السابقة ما يكفي لقياس الفرق بين عهد العدالة والمساواة والحداثة والمدنية وعهد الظلم والقهر والعسقبلية ! لغير المقتنعين نقول: حاولوا استكمال تلك المقارنة بأمثلة أخرى لتكتشفوا الفرق بين العهدين والرئيسين وتبلغوا بالتالي أعتاب السبب الرئيسي وراء تخليد الحمدي في ذاكرة أبناء الشعب. وماذا بعد؟ عقب أن أضيف شبح التشطير إلى مآسينا المتمثلة في غياب العدالة وتفشي الظلم وتدهور الاقتصاد وشيوع الفساد والتضييق على الصحافة نتساءل ببراءة: ألم يحن الوقت لقيام حركة تصحيحية تُعيد الأمور إلى نصابها وبصورة تُنسي الشعب عدالة إبراهيم الحمدي؟ مجرد تساؤل ليس أكثر.