(1) لايبدو ان رشاد العليمي، رئيس اللجان المتخصصة في اليمن، سينجو هذه المرة من مساعي التقليص الرامية الى تحجيم نفوذه المتنامي، ووضع حد لما يصفه منتقدوه بالإحتكار الدائم للعديد من الملفات السلطوية المحلية..
فالرجل الذي تجاوز حتى الآن مساحات شاسعة من حقول الالغام المزروعة في الهرم الاعلى ببراعة واحترافية، بات يجد صعوبة في استئناف المسير بذات الايقاع الاحترافي لمسببات عديدة..
اقترابه الجدلي من منبع السلطات، قيامه بدور الناظم بين المنبع وأجزاء من فروعه، وجوده الدائم في العناوين الرئيسية لأبرز الملفات، الاتساع الاضطرادي لدائرة الممتعضين، اربعة مانشيتات بتفاصيل لا متناهية، تجسد مقترباً لفهم دوافع التحجيم التي تحاول بنسق عبثي الاحاطة بالرجل..
الامعان في بعض التفاصيل المتشعبة للمانشيتات الآنف ذكرها، يُظهر الرجل –على سبيل التشبية المجازي- كما لو أنه لاعب سيرك يحاول اجتياز حبل موصول بين دعامتين بالتوازي مع حمله لعصا طويلة تحولت مع استهلاك الجهد والوقت من أداة اتزان الى عبء مضاعف، ليبدو الرجل كمن يقاوم مآل السقوط بصمود مدهش..!
غير انه في الواقع لن يسقط إلا في حالة واحدة، نتيجة تتعارض مع المنطق، يمكن الوصول إليها باستكمال الامعان فيما تبقى من تفاصيل، إذ ثمة خيوط لامرئية تعين الرجل على حفظ توازنه وتساعده –إلى حد ما- على استئناف المسير رغم كل المشقة والأعباء الظاهرة..
لو أراد المتحكم في الخيوط اللامرئية، له ان يسقط فقطعاً سيسقط، حالة وحيدة لايبدو أنها ستحدث لاسيما مع نجاح لاعب السيرك في اشباع رغبة المتحكم الجامحة في التلاعب وصناعة الخداع على طريقة نيرون الذي يشعل الحرائق متهماً الآخرين بإشعالها بموازاة ارغامهم على اطفائها او الاحتراق معها..!
هذا بالطبع لا يعني انعدام الفرصة امام الممتعضين لتخليق حالة أخرى يمكن ان تؤدي لنتيجة السقوط المأمولة، إدراكهم لمسببات قوة العليمي دفعهم للتعاطي مع الامر بثلاثة انساق مختلفة تحقق في النهاية ما يصبون إليه..
محاولات تقطيع الخيوط الحافظة للتوازن، ممارسة كل ما هو متاح من ضغوط ممكنه على المتحكم، المساهمة في إطالة العصا والسعي لارتخاء الحبل، انساق يعول الممتعضون عليها كثيراً لانتاج النهاية المرجوة..
(2) مؤخراً لم يعد رشاد العليمي إذن، بالنسبة لرموز التوريث وأعني بهم فتيان الأسرة الحاكمة، تلك الشخصية المقربة والمدعومة، إذ تحول بقدرة المتحكم، الى باعث على القلق ومعكر لصفو السلطة المطلقة التي يمارسها الفتيان على طريقة البلايستيشن..
حتى عهد قريب، جسد العليمي بالنسبة إليهم، ورقة جوكر قادرة على تغيير التموضعات واحداث التقلبات الاستثنائية في مجرى اللعبة..
اجادته الدائمة للظهور في دور (كبش الفداء) لتبرئه الفتيان من تبعات أعمالهم، مثلت دافعاً اضافياً لتقريبه ودعمه وتنمية نفوذه خلال مراحل فائتة..
لكن، كيف تحول الرجل من ورقة جوكر بالنسبة للفتيان الى باعث على القلق، علامة استفهامية الاجابة عنها تتطلب مروراً تمهيدياً سريعاً يحدد موقعه بالضبط من صناعة القرار في الملفات التي يرأسها..
(3) فحتى وإن بدا الرجل ممسكاً بزمام القرار في الملفات المتعددة التي يحتكر إدارتها، غير أنه وفق شواهد كثيرة، امساك مرتبط بتقلبات الطقس بين القصر الرئاسي وقصور الأولاد..
ممارسته لسلطة اتخاذ القرار في اللجنة الأمنية العليا التي يرأسها مثلاً، لايمكن لها الحدوث إلا إذا كان الانزعاج هو العنوان الذي يربط علاقة الرئيس والاولاد..
بتعبير آخر: إن كان الرئيس منزعجاً من تصرفات الأولاد وعبثهم بالملف الأمني، يصبح العليمي رئيساً أمنياً بتخويل رئاسي حقيقي يمنحه القدرة على تجاوز مرحلة صناعة القرارات الى منزلة انفاذها، والعكس مع النقيض، إذ لو كان الرئيس راضياً اعن أداء الأولاد وأجهزتهم فليس في وسع العليمي –حتى لو صنع قراراً بذكائه- ان يدخله حيز التنفيذ العملي..
لايبدو الأمر مختلفاً أيضاً فيما يتعلق بباقي الملفات، فسلطة العليمي في ملف الحكم المحلي هي الأخرى مرهونة بأمرين، أولهما: تقلبات الطقس في القصر الرئاسي نفسه، وثانيهما: علاقة الرئيس بالأولاد بين الرضا والانزعاج..!
ربما كان ملف الصحافة الذي يديره العليمي ظاهرياً، بوصفه رئيساً للجنة الاعلامية العليا، يحظى ببعض الاختلاف، فسلطة العليمي في تقرير شؤون الملف ليست مرهونة بتأرجح العلاقة وتقلبات الطقس فحسب، إذ أحياناً ما تكون مرتبطة بمدى التوافق بين اعضاء اللجنة الذين يملكون وضعاً نفوذياً موازياً للعليمي في الاتجاهين (نفوذ مستمد من الأولاد، ونفوذ مستمد من الرئيس..!)
في ملف خليجي 20 الذي يرأس العليمي لجنته العليا، تبدو الأمور أكثر وضوحاً، فدور العليمي فيه مقتصر على المشاركة بصنع القرارات وبحث آلية تنفيذها، فالعميد احمد نجل الرئيس، أضحى هو المتصرف الحقيقي بالشارد والوارد، لدرجة انه تخطى لجنة المناقصات فيما يتعلق ببناء فندق الإيواء الذي جرى اسناد مهمة بنائه الى احدى الشركات المقربة من الحاشية الاحمدية..
(4) لنعد الى حيث كانت البداية، إذ كان الرئيس يراقب أداءه بعين الحصيف، ويقيّم نقلاته وتحركاته في الملفات الممسك بزمامها، لقد وجد فيه احدى الضالات المفقودة، ليغدو العليمي بين ليلة وضحاها محط استقطاب رئاسي ويتحول من قاسم مشترك بين الرئيس والأولاد كشخصية تحظى بدعم متوازن من الطرفين، إلى احد رجال (الإصطفاء) الرئاسي..!
ورغم ان الرجل سعى للمحافظة على روابط الثقة والاخلاص للأولاد، إلا ان مسببات الاصطفاء الرئاسي، لم تعد تساعده على إبقاء تلك الروابط بمعزل عن عوامل التعرية وتقلبات المناخ والامزجه والاهواء..
مراقبة أداء الأولاد، مهمة سرعان ما توسعت بالتقادم لتشمل التدخل في بعض أعمالهم وصلاحياتهم، ببساطة: لقد عبر العليمي إلى منزلة رجال الاصطفاء الرئاسي عبر بوابة (الأولاد) بوصفها قناة التوصيل الوحيدة التي لم تطلها يد الإغلاق، غير انه بعد العبور تحول إلى احد المشرفين على القناة المراقبين لأداء القائمين عليها..!
يريد الرئيس دائماً ان يؤكد للأولاد أنه –رغم كل ألاعيبهم وخداعهم- يظل الطباخ الماهر والمركز الحقيقي الذي يدير كل المطابخ الأخرى ويضع التعليمات والوصفات لإنتاج معظم الطبخات..
فالعليمي الذي أراد الاولاد في مرحلة معينة ان يصنعوا منه طبخةً خاصةً بهم، سرعان ما انتقل –بتدخلات المطبخ الأعلى- إلى طبخة كبرى بصورة حولت الاولاد فيها من عنصر متحكم الى عنصر متأثر..!
من يصدق ان العليمي الذي كان مثلاً، يستميت دفاعاً عن عمار في مواجهة رغبات استجوابة سيتحول الى مشرف جزئي على أعماله ومراقب رئاسي لتحركاته..!
يبدو ان ثمة رهان من نوع ما بين الرئيس والأولاد، فهم يحاولون بشتى الطرائق تأكيد قدرتهم على النجاح بدونه، وممارسة القيادة في غيابه، غير انه يحاول دائماً ان يثبت لهم العكس، ليس بدافع التحطيم ولكن بدافع الصقل ورفع مؤشرات الخبرة والكفاءة المتدنية..
(5) بالتقادم إذن، لم تعد طبخة العليمي ذات المنشأ الفتياني والتحكم الرئاسي، تروق للأولاد، إذ أضحت نقطة استفزاز كبرى يحاولون التخلص منها بصورة احترافية تمكنهم من احراز تقدم في طريق كسب الرهان..
ولأن إشغال العليمي بصراع جانبي مع وزير الداخلية المصري تسبب في نتائج عكسية لصالح الأول لاسيما عقب حملة التحريض الاعلامية التي اتخذت من القالب المناطقي اسلوباً لها باعتبار ان العليمي من أبناء تعز، لم يجد الأولاد سوى اللجوء لتكتيك بديل قضى بتكليف المطابخ بإعداد طبخة تكفل تقطيع بعض الخيوط اللامرئية بين الرئيس والعليمي..
نظرية المؤامرة كانت حاضرة بقوة لدرجة انها سيطرت حتى على تفاصيل الطبخة، إذ سعت المطابخ لإحراز أعلى مستويات الرواج لشائعات تشير الى تورط العليمي في التدبير لمحاولة انقلابية كنوع من الثأر لفشل الانقلاب الناصري..!
تزعم الشائعة ذات المنشأ (القومي) بأن رشاد العليمي استطاع ان يصنع له مركزاً نفوذياً يضم إلى جواره بعض نزلاء اللستة الحمراء من رموز الحرس الأمني والسياسي القديم، وفق الشائعة فالمركز اضحى يتوسع أفقياً ورأسياً ليشمل بعض الوزراء والقضاة والمحافظين..!
ولما كانت الطبخة مثيرة للسخرية، كنتاج بديهي يترجم خياليتها وابتعادها عن الواقع، لم تجد المطابخ المتواضعة بداً من اضافة نكهات مصاحبة لتعديل طعمها الذي لم يكن مستساغاً..
تلخصت أبرز النكهات المضافة في كون العليمي ومركزه النفوذي الصاعد يحظى بدعم وتعاطف من مملكة آل سعود بالتوازي مع ثقة مطلقة من الأميركان بوصفه المشرف على ملف الإرهاب..
ظن الأولاد انهم بهذا قد أصابوا (الخيوط اللامرئية) بانقطاع وشيك وحتمي، غير انهم كانوا مخطئين، إذ لم تحرك تلك الشائعات ساكناً لدى المتحكم، ليكتشف الأولاد ان كل الأدلة والأسانيد التي جرى تجميعها كوقائع لدعم وتعزيز فكرة الشائعة تمت بالتوافق بين المتحكم واللاعب..!!
(6) ممارسة الضغوط على المتحكم بالخيوط، لم تجد هي الأخرى نفعاً، على العكس، إذ انها وفق مؤشرات عديدة ساهمت في احداث نتائج عكسية لصالح اللاعب..
المساهمة في إطالة العصا (زيادة الاعباء) والسعي لارتخاء الحبل (زرع العراقيل)، تكتيك يجري تنفيذه حالياً بنسق تصاعدي، إذ لم يعد في وسعهم سوى التأكيد على فشل الرجل..
بعبارة أخرى: لايمكن للطبخة ان تنتهي إلا بذات المبرر الذي تسبب في وجودها على طريقة وداوها بالتي كانت هي الداء..!
إجادة الظهور في دور (كبش الفداء) الذي كان العليمي يلجأ لتأديته خلال مرحلة منقضية تحقيقاً لرغبة الاقتراب من الهرم الأعلى، أضحى هو الدور الذي يحاول الأولاد ان يجعلوا منه سبباً لمغادرته أو بتعبير أدق: تحجيم طبخته بما يفضي لاعاده نفوذه الى الفئة الوزنية القديمة التي تجاوزها إلى فئة وزنية قياسية من النفوذ بالتوازي مع خروج الاولاد من نفق التأثر بالطبخة الى منزلة التحكم في مسارها..
حتى عهد قريب لم تكن محاولات إلصاق تهمة الفشل بالرجل تبارح دهاليز التداول الكلامي في صالونات الساسة، غير انها دلفت حيز التعاطي الاعلامي مؤخراً بتصريحات لعضو بارز في جناح التوريث السياسي برأ فيها أجهزة الأولاد من كل الاتهامات والانتهاكات ملقياً باللائمة على لجنة العليمي الامنية في انتاج كل ما تعانيه البلاد من معضلات ومصاعب وتوترات وحروب..
ثمة مبررات لا تقف عند حيز الرغبة في إسقاط الرجل، فأجهزة الأولاد باتت تتعرض لضغط دولي ومحلي شديد كنتاج لما تمارسه من انتهاكات واختطافات وممارسات قمعية عصاباتيه، وأضحت في أمس الحاجة لكبش فداء يخلصها من جحيم الضغوطات المتصاعدة التي أفقدتها –كما يبدو- القدرة على تصدير الطبخات وصناعة الأزمات..
عدا هذا، فالأولاد يرغبون في اسناد بعض الملفات كالحكم المحلي وخليجي 20 وغيرها الى بعض رجالهم الذين لم يجدوا فرصة حقيقية في ظل ما يوصف ب( احتكار العليمي للملفات الدسمة).
ما تشكله اللجنة الأمنية العليا من عائق في مواجهة الرغبة الفتيانية في انشاء (مجلس الامن القومي للجمهورية اليمنية) مبرر هام يضاف لقائمة المبررات، وهو ما يعني ان رشاد العليمي بات هدفاً حقيقياً للاقصاء..
(7) الرغبة في تقليص (رجال الرئيس) وانقاص أعدادهم وأوزانهم، تبدو هي المتحكمة في تحريك نزعات الاقصاء..
بتعبير آخر: لم يعد الفتيان يطيقون التعاطي مع فكرة وجود ادوات اخرى للرئيس سواهم، فالرجل الذي منحهم سلطاته المطلقة في البداية بصورة اوحت لكثيرين أنه بات معزولاً عما يدور في البلاد، لم يعد يثق بقدرتهم في إدارة شؤون الحكم والدولة دون لمساته وبصماته التي تتخذ من (تصحيح أخطاء الأولاد) عنواناً لها..
لعلنا هنا لن نبالغ بزعمنا ان ثمة رغبتان تتصادمان بنعومة، أولهما: رغبة الرئيس في استعادة سلطاته وصلاحياته وتفعيل بعض أدواته القديمة وتنشيط رجاله المخلصين وهي رغبة لم تكن لتوجد –وفق مؤشرات عديدة- لو ان الاولاد نجحوا في ادارة الامور على النحو المتوخى..
ثانيهما: رغبة الأولاد في ان يكونوا هم عيون الرئيس وأدواته دون ان يشاركهم في ذلك احد..
بين تصادم الرغبتين، يصطف العليمي مع طابور ضئيل من رجال الاصطفاء الرئاسي لمساعدة الرئيس على انجاز مهمة (توضيع الأولاد) عبر تقويم أخطائهم وإنقاص اوزان منافسيهم..
ان كانت هي المهمة الأخيرة لرجل دلف عقدة الرابع من الرقص فوق رؤوس الثعابين، فسينتهي طابور الاصطفاء بانقضاء هذه المهمة وصاحبها، ليترك هذا الطابور جمل السلطة بما حمل للطابور المتأهب لخلافته من رجال الاصطفاء الفتياني..!
وان لم تكن هي المهمة الاخيرة، وهذا هو الراجح استناداً لتطلع الرئيس بالحصول على ولايتين رئاسيتين قادمتين، فسيبقى الطابور مصطفاً يكابد عناء تصادم الرغبتين إلى ان يقضي الله أمراً كان مفعولا..! *ينشر بالاتفاق مع صحيفة حديث المدينة