فتاة من حجة وقعت تحت صاعقة الحب فأصبحت مغرمة بابن قريتها، وتقاتل الآن بضراوة من أجل الارتباط به، وهي في معركتها الشريفة والشجاعة تلك لم تدخر شيئاً إلا واستعانت به: رفعت قضية على والدها لرفضه تزويجها من «حبيب القلب»، ووجهت نداء استغاثة للمنظمات الحقوقية للوقوف إلى جانبها، وهربت بحبها إلى أكبر رأس في المنطقة: شيخ القبيلة، ليجنبها المزيد من الطعنات الحادة بجنبية والدها. هذه الفتاة مقاتلة حقيقية، ولا ننسى أن «الشاب محظوظ جداً» ويبدو أنها مستعدة تماماً لمواجهة كل الاحتمالات الصعبة والمميتة، حتى لا تساق إلى عريس آخر، وعندما تدخل وكيل محافظة حجة بالوساطة لتعود إلى منزل أبيها لتزويجها من شاب آخر، ردت بكل بساطة: أنها سوف تنتحر، بحسب الصحفي في موقع نيوز يمن صقر أبو حسن.
إن فتاة تحب بكل هذا العنفوان، وتشعل كل هذه الحرائق العشقية من حولها، وتذهب في المواجهة حتى أقصاها، تستحق أن لا نخذلها أبداً؛ لأنها ببساطة شديدة تدافع منفردة عن أعذب القيم التي نشعر بها، عن الشيء الذي يفتقده كثيرون وبشدة، ونظن بغباء أن الحديث عن السياسة وفضح رجال الحكم السيئين أشرف بكثير من النزول إلى ما تشعر به تلك الفتاة.
لقد تصرفت الفتاة بذكاء على غير عادة الفتيات اللاتي يعشقن ثم لا يجدن من يزوجهن بالحبيب فيهربن معه، لقد تجاوزت بخطوة واحدة ذلك الفعل المعيب، وتوجهت إلى القضاء، ثم خطوة ذكية ثانية بالتوجه إلى المنظمات الحقوقية، أثناء ذلك كانت تتلقى وبصبر كل الضرب من والدها، والطعن أيضاً الذي تقول مصادر مقربة منها أنها أجرت عمليات جراحية للطعنات التي تعرضت لها بجنبية أبيها، وهي ربما قبل دقائق قليلة من طعنها، كانت تستمتع وبِوَله للفنان الراحل محمد حمود الحارثي: «والله يا راعية لاقل لبوش يطعنش بالجنبية».
بالمناسبة: المقطع الأخير في الأغنية سمعه معي صديق سوري قبل سنوات، وأبدى استغرابه من حشر «جورج بوش» في الأغاني التراثية اليمنية، أوضحت له أن «بوش» في الأغنية تعني الأب وليس الرئيس الأمريكي.
قبل الحارثي الذي يطربني دائماً، كان علي ولد زايد وهو حكيم اليمن (كما يقال) يلاحق ابنته «بدرة» التي هربت مع عشيقها، وظل يطاردها من قرية لأخرى حتى ظفر بها وقطع رأسها ليجلو ما اعتقده الحكيم عاراً عليه، والقصة كما تقول المرويات الشعبية إن ابنته هربت مع حبيبها، ثم سمع بنات قريته «منكث» يتحدثن عنها فقال: «بالله يا بيض منكث، كثر الكلام بطلينه، حلفت يا راس بدرة، لا بد ما تبصرينه، قالوا تغدت بميتم، وغسلت في عدينة».
بنت علي ولد زايد، لم تكن بمستوى حكمة أبيها، وإلا كانت وجدت لها مخرجاً آخر يفدي حبها وينقذ رقبتها من الذبح، لكن مشكلة الحب يا «بدرة» أنه بلا منطق وبلا ذاكرة، ولا يعرف الحكمة أيضاً في كثير من الأحوال، والحكيم ولد زايد لم يكن بمستوى الحكمة في التعامل مع ابنته، فليس من الحكمة أن يعدم الأب ابنته، أو على الأقل الوصول إلى هذه النهاية المخيفة.
ذاك (وقد هو حكيم اليمن)، وهو بالتأكيد أرجح عقلاً من والد فتاة حجة، وآباء كثيرين، يفطرون قلوب بناتهم، ويسوقونهن إلى بيوت زوجية باردة، مؤثثة بكل شيء إلا من الحب والدفء، ولذلك تهرب كثير من الفتيات، ويلتهم أغلبَهُنَّ مستقبل قذر، لا يتحملن إثمه لوحدهن أبداً.
المشكلة الآن أن كثيرين منا، وإن تظاهرنا بأننا حكماء أو اعترفنا أننا مجرد رعية عاديين، سوف نسارع إلى تعليق المشانق لفتاة حجة، لمجرد أنها تمردت على قانون قريتها واختيار أبيها، الذي يرفض زواجها من حبيبها بدعوى أنه «ناقص اجتماعياً». هذه الفتاة- أيها السادة- تطالب بحق من حقوقها، وهي في سبيل ذلك لجأت إلى المحاكم، ولم تهرب أو ترتكب عيباً، الأجمل من ذلك أنها بدت غارقة في الحب، ومغرمة، وترغب بشدة في أن تنتصر لاختيارها. لديها قضيتها إذن، وهي ماضية فيها.
سيقول البعض: نريد الحب الشرعي، ومن يستطيع أن يختلف مع هؤلاء؟.. أكتب دفاعاً عن الحب، بوصفه فطرة بشرية، وليس عملاً رجيماً ومدنساً، والذين يسارعون إلى إلقاء محاججتهم التقليدية: «لو كانت أختك أو بنتك؟»، لقلت ولو كانت بنتي أو أختي، لأن الفكرة ليست في تحريض الفتاة على الأب، ولكن في دفع الأب إلى مشاركة ابنته في اختيار قرارها الأهم، ومراعاة عاطفتها ومشاعرها.
يحتاج بعض العشاق في هذه البلاد إلى قليل من الدعم، شيء من الحديث عنهم بوصفهم محاربين نبلاء، يتعذبون في مواجهة مجتمع كامل يسيئ إلى الحب ويزدريه بوصفه «قلة أدب». مساكين الذين يقعون تحت صاعقة الحب، دون أن ينتبهوا للتكاليف الباهظة التي سيدفعونها حين تمطر ألسنة الناس في اليوم التالي شائعات وتهديدات. الأمر أخطر للفتاة، كأن الحب محرم عليها، كأنها خُلقت من مواد غير قابلة للاشتعال والاحتراق، هي أحياناً تلقى حتفها لأن التي إلى جوارها صدحت بالغناء في يوم فرحتها، كما حدث في مدينة الضالع قبل أكثر من سنة، حين انفجر الأب غاضباً بعد أن سمع ابنته تغني في حفلة عقد قرانها، فأرداها قتيلة ببندقيته التي حصدت فتاتين أخريين.
أعلن أني مع فتاة حجة، وليعِنْها الله على الزواج بحبيبها، إني أدعو لها حتى تنتصر لبنات محافظتها اللاتي يشبهن إلهام مهدي ونجود محمد علي، أرجو لها التوفيق حتى تنتصر لمن نغني عليه ونقدسه ثم لا نحارب من أجله، وهي ربما تعيد لبعضنا شجاعته وجرأته في مواصلة قصة عشقة حتى النهاية، فكثيرون منا، وتحت ذرائع سخيفة، يترك من يحب في وسط الطريق ويهرب، وهذا ليس حباً أبداً، ربما يمكن اعتباره قصة صغيرة محزنة، تخلو من أي بطولة.