تعد الفترة من 17 يوليو 1978 إلى 17 يوليو 2009 امتداداً طبيعياً- إن لم نقل نسخة طبق الأصل- لفترة حكم الرئيس الغشمي بكل ما فيها من سمات وخصائص، بالرغم من أنها الأطول في تاريخ اليمن الحالي، والأكثر استقراراً على الصعيد الأمني والسياسي (باستثناء السنوات الثلاث الأولى والسنوات الأخيرة)، إلا أن البلاد لم تشهد خلالها أي مبادرة وطنية استراتيجية من شانها إحياء مشروع بناء دولة المؤسسات السابق زمن الرئيس الحمدي، أو تبني ورعاية مشروع مماثل بالمعايير الوطنية نفسها يعمل على حماية البلاد من خطر التدهور والانحطاط والفساد وكل مظاهر الفوضى التي بدأت تتجه نحوها بخطى سريعة منذ بداية المرحلة. فالرئيس الجديد المقدم علي عبد الله صالح أتى إلى السلطة في ظل وضع متدهور على كل المستويات، ولم يكن هناك رؤية واضحة لمستقبل البلاد وشكل النظام، فأبقي الوضع على ما كان عليه في عهد سلفه من تغييب متعمد لمشاريع وطنية من أجندة الحكم السياسية، وتجاوز صارخ للثوابت الوطنية وأهداف الثورة في معالجة الأوضاع. وهذا يؤكد أن الرجل عند توليه مقاليد الأمور وتربعه على كرسي الحكم لم يكن في خلده أي مشروع وطني من هذا النوع، وإنما كان يسكنه هاجس الانتقام لزميله أحمد الغشمي، وهذه حقيقة أكدها المرحوم الشيخ عبد الله حسين الأحمر في مقابلة خاصة مع قناة الجزيرة قبل أكثر من عامين، ولا ندري ما إذا كان قد أنهى مهمة الانتقام أم لا. وفي ظل غياب مشروع بناء الدولة الحديثة على أسس وطنية، وما تركه من فراغ جوهري في أجندة الرئيس السياسية، لتحل محلها أجندة سرية يتصدر سلم أولوياتها رغبته في تقوية نفوذه وتعزيز بقائه على كرسي الحكم إلى ما شاء الله. الأمر الذي أحدث تغييرا جذريا في توجهات واستراتيجيات الدولة ومؤسساتها، لتسير في اتجاه تمرير المشروع الجديد وما يلزم ذلك من تسخير وحشد إمكانيات دولة بأسرها. مع الأخذ بعين الاعتبار ما قد ينتج عن ذلك من إشكاليات على الساحة السياسية، إذا ما عارضت المشروع قوى وطنية شريفة. وهو ما عزز حاجة النظام إلى إيجاد مبررات شريعة وقانونية تسند هذا التوجه فسارع إلى ابتكار استراتجيات وآليات غير تقليدية تبدو في ظاهر منسجمة ومتناغمة مع منظومة قيم وأهداف الثورة المجيدة، وفي باطنها تخدم قيما استهلاكية بحتة تصب فى توطيد أركان الحكم وضمان استمراره على حساب مشروع دولة المؤسسات. وثمن ذلك كان ظهور مشاريع شخصية لأصحاب النفوذ في الجيش والمجتمع المدني، تقوم على قاعدة تبادل المصالح وكسب الولاءات وشراء الذمم، وغيرها من مفردات المقايضة السياسية الذي انفرد بها هذا النظام ولم يتضمنها أي قاموس سياسي من قبل. بمعنى آخر إن هذا كله يعد انقلابا صريحا على منظومة مبادئ وأهداف الثورة المجيدة وتجاوزاً واضحا لأدبيات وأبجديات النظام الجمهوري، شكلاً ومضموناً، التي ظلت ماثلة أمام قادة اليمن وصناع السياسة خلال 16 عاماً من عمر الثورة، لتدخل بعدها مرحلة الاحتضار إن لم نقل في مرحلة الموت السريري بعد أن طالتها أيادي الفساد والعبث والتحريف، حتى أصبحت شعارات شكلية تبروز الخطابات الرسمية أو لتشغل حيزا في الجزء العلوي من غلاف الصحف الحكومية، مع الاحتفاظ بنسخة للحفظ في المتاحف الوطنية.
وبالنظر لما سبق ذكره , فقد جاء هذا النظام مسخاً: ملامحه الرئيسية هلامية باهتة، ومضمونه هزيل يستمد عوامل بقائه واستمراره من مستنقعات الفساد، رديفه الشرعي الذي لازمه بحميمية مطلقة منذ أن رأى النور، ينمو معه ويتطور، ويسنده وقت ضعفه. فالفساد الذي كان يحتضر بعد أن أصابه الضعف والوهن خلال فترة التصحيح زمن الرئيس الحمدي، عاد بقوة هذه المرة ليطل من نافذة تسخير المال العام لصالح تمرير الأجندة السرية للرئيس. وقد نال حظه من اهتمام ورعاية النظام حتى أصبح ثقافة شعبية وسنة يمنية خالصة بتشريعات وفلسفة خاصة به تتغلغل في عمق المجتمع، يتفاخر من ارتاد طريقها ويلحق الخزي والعار والسخرية من عافها وتجنب السقوط والتردي في براثنها. في هذا السياق نستشف أن التحريف والتزييف قد طال منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية للمجتمع اليمني بأسره، نتيجة مساعي النظام لشرعنة الفساد، وانحسار ثقافة الممنوع والمحذور من فقه النظام وتشريعاته. كما لم يكن مستغرباً لأحد أن يأتي احد رؤساء الحكومات المتتابعة، ويعزز هذه الحقيقة، ويؤكدها عندما امتدح الفساد وأعلى من شانه قائلاً: "الفساد ملح التنمية" ليكون بذلك صاحب أول نظرية فساد في التاريخ، وربما حصل على براءة اختراع، آو ربما منحته رئاسة الدولة وسام الثورة من الدرجة الأولى .غير أن ما أغفله هذا البطل الأسطوري أن ملحه المزعوم سبق التنمية المنعدمة، وأن كثرة الملح تفسد الطعم. وعلى هذا الأساس فان الفساد (ملح التنمية) قد أفشل خطط التنمية والتهم كل شيء أمامه لتدخل البلاد عنق الزجاجة من جديد وتتخبط في دياجير الفقر والجهل والمرض، كما كان الحال تحت حكم الإمامة. والأنكى من ذلك أن أيادي الفساد قد طالت منجزات ومكتسبات الثورة والجمهورية والوحدة التي ظلت عصية وموضع قداسة ردحاً من الزمن فأفقدها بريقها وأطفأ القها لتصبح مدعاة للحسرة والندم, وإن أصر النظام على التغني بها والتغزل بمآثرها في المناسبات عساها تجود له بشيء يسير يرد له ماء الوجه في ظل الإخفاقات المستمرة، والتراجع الكبير والمخيف الذي تشهده البلاد.... كانحسار هيبة الدولة وتلاشي سلطة القانون، مروراً بالتشوهات التي طالت الوحدة جراء عبث جنرالات النظام وتجار الحروب، وصولاً إلى الديمقراطية والتعددية السياسية وتفريغ محتواها وتجييرها لحساب الحزب الحاكم وحده. إلى جانب تضييق هامش حرية الصحافة ومضايقة الصحفيين وتهديدهم بالسجن والقتل وانتهاء بالانفلات الأمني وانتشار ثقافة الاختطاف . وفوق هذا وذاك , فان مجريات الأحداث ومعطيات الواقع، وما آلت إليه الأوضاع في البلاد من حروب وصراعات متجددة في عمق الشمال، يقابلها انفلات أمني مخيف ودعوات مناهضة للوحدة أججتها ثقافة الكراهية المنتشرة والنعرات المناطقية التي طفت إلى السطح بعد حرب صيف 1994، وأزمة سياسية عاصفة مستعصية تذكيها أزمة اقتصادية خانقة ... كلها منجزات طبيعية ونتائج حتمية، وتراكمات أفرزتها لسنوات طويلة مصفوفة متكاملة من السياسات الخاطئة التي دأب النظام على انتهاجها منذ البداية، واستمر فيها بنوع من الإصرار والتصميم لتتوارثها الحكومات المتعاقبة، وكأنها قدر محتوم -أو مشؤوم- أصاب البلاد والعباد صاغتها أيادي ساحر ماهر لا يقدر على فك رموزها إلا من حظي بعصا موسى، أو من أوتي العلم وهو شهيد. فهي إلى جانب ذلك بدائية الشكل ارتجالية المضمون تفتقر إلى أساس منهجي وعلمي، ولا تُجاري التحولات والمتغيرات على الساحتين الإقليمية والمحلية، كما أنها لا تلبي تطلعات وآمال الشعب في تحقيق سبل العيش الكريم ينعم بالأمن والأمان.