التقى رجلان في الطريق، فسأل الأول: أين تذهب؟ رد الثاني: وعليكم السلام. فابتسم الأول معتذراً، وقال: لا.. أنا في الواقع ذاهب إلى السوق، رد الثاني: كنت أظنك ذاهباً إلى السوق، وانطلق الرجلان في طريقين مختلفين، وبعد قليل التقيا في السوق، فابتسما لبعضهما، وأشار كل واحد منهما إلى أذنه، كان الرجلان أصمّين أصلاً، ولذلك دار الحوار بينهما بالطريقة السابقة. ما يشبه القصة السابقة تكرر بصورة لافتة خلال الأيام الماضية، الرئيس يدعو للحوار والتسامح حد قوله، فيرد المشترك بأن الحوار غير ممكن ما لم تهيأ الأجواء ويطلق سراح المعتقلين على ذمة الأحداث الماضية، وقبل ذلك وبعده تنهمر الدعوات من الداخل والخارج إلى الحوار وأهمية الحوار، والحقيقة أن لا أحد يرغب فعلاً في أن يسمع ما يقوله الطرف الآخر.. الجميع يقول إنه ذاهب إلى "سوق الحوار" لكنهم يسلكون طرقاً مختلفة، ولا أحد يدري متى سيلتقيان، متى سيشير كل واحد منهما إلى أذنه، ويعترف أن لديه مشكلة في السمع، وفي انعدام الثقة بين الأطراف، والمشكلة الأعظم أن كل طرف يجلس إلى طاولة الحوار، أو يدعو له، يفكر بما سيقوله هو فقط، دون أن يعير بالاً لما يقوله الطرف الآخر، تماماً كما يحدث في أغلب مناقشاتنا نحن اليمنيين حين نختلف حول موضوع ما.
كتب عبد الكريم الخيواني في "النداء" قبل أسبوع يقول: "إن الطرف الرسمي يدخل الحوار لتأكيد تواضعه، وإن الحوار مبدأه من أجل إيصال الرسالة إلى المانحين، أما الطرف المعارض فيرى أنه يدخل الحوار، وهو يعلم جيداً قناعة الطرف الأول وعدم قدرته على إلزامه بشيء، فيذهب كي لا يقال رفض الحوار"، وأضيف إلى ما قاله الخيواني بأن المشترك لا يرغب فعلاً في أن يسمع للحزب الحاكم، لأنه مل وتعب من الكلام الذي يعيد نفسه، دون نتيجة تذكر. والحاكم لا يرغب في أن يسمع للمشترك لأنه يشبه "جدي قحطان" الذي يعجز عن السماع، أو التعاطي مع أي حديث لا يتفق وهواه، ويتحول هذا الجد السبعيني إلى رجل أصم تماماً.
وفق دعوات الحوار تلك يبدو أن لجدي أتباعاً كثيرين يقلدون طريقته، ومن حقه أن يفرح لذلك، هو الذي عاش عمره ينتظر شيخ القرية أن يقتنع بوجهة نظره ولو لمرة واحدة، واليوم يقلده أغلب من يتحكمون بمصير البلد بأكمله، في السلطة أو في المعارضة، في صعدة أو في المناطق الجنوبية، هم هنا أو هناك "يحردون" في أغلب الاوقات، ويتركون لوسائلهم البدائية الحديث نيابة عنهم: الرصاص في صعدة، العسكر في المناطق الجنوبية، وفي العاصمة ومراكز المدن تهدر الآلة الإعلامية الرسمية بالبلادة وتخوين الآخرين وتحقيرهم.
لدينا مشكلة حقيقية في القدرة على الاستماع قبل أن تكون لدينا مشكلة في الحوار أصلاً، ووتجارب السنوات الماضية تشهد بذلك، ويمكن للقارئ أن يراجع ذلك في سياق الأحداث التي سبقت حرب 94، وقبل تفجر الأوضاع في المناطق الجنوبية، أو قبل اندلاع المعارك في صعدة، ألم يسبق كل تلك المصائب أصوات تدعو إلى الانتباه إلى ما يجري والعمل على وقفه أو التفاوض والحوار بشأنه، ولما لم يسمع أحد من أولئك الذين بأيديهم الحل أو القرار يقع الفأس في الرأس، حتى أصبح الوطن "مخروقاً" في أكثر من جهة، ولا تزال الفؤوس مشهرة "تشقدف" رؤوسنا كلما فشلنا في سماع بعضنا بعضاً.
نستاااااهل، الرئيس لا يحب أن يسمع سوى نفسه، وكذلك الشيخ مع رعيته، وقائد المعسكر مع جنوده، والأب مع أسرته، والمدير مع موظفيه، نحتاج أن نتحضر قليلاً ونشاهد "عباد الله" في غير ما مكان كيف يجلسون ويستمعون ويتحاورون، كما يمكن أن نشاهد "عباد الله" أيضاً كيف يتقاتلون ويتحاربون في أكثر من مكان حين يعجزون عن التحضر، وأول التحضر الحوار، مع أن الحديث عن التحضر، بمعناه المتقدم في هذه الأوقات الصعبة، ترف، لذلك لا داع للمرور عليه، نحن لم نخرج من الكهف بعد، بالقياس إلى الأمم المتحضرة فعلاً، وسنظل كذلك، وربما نتردى أكثر، إذا ظلت دعوات الحوار خالية من مضمونها، ومجرد تصريحات هنا وهناك لا أحد يسمعها.
لا أريد أن أزيد على هموم القارئ بالكلام السابق، لكن المرء يشعر بالغيظ، ولا يدري ما الذي أصاب الناس في هذا البلد، ولماذا يصرون بعناد البغال على "الدعممة"، والاستسلام دون مبادرات جريئة للحل أو التحرك. وبالمناسبة، لماذا اختفت أخبار لجنة الحوار الوطني، وما سر بطئها، وأين هو محمد سالم باسندوة، لماذا لا يذهب قادة المشترك ومعهم أبرز أعضاء الحوار الوطني، ويلتقون بممثلي الحراك الجنوبي هناك في المناطق الساخنة نفسها، ويشركون في حوارهم البيض كما دعت لذلك ندوة الإصلاح السياسي التي عقدت في صنعاء الأسبوع الماضي، ويكررون الأمر نفسه مع الزعيم الحوثي في المناطق الشمالية، ثم يبحثون عما يجمع بينهم من نقاط اتفاق لصالح البلد، وتحت مظلة الوحدة، ويذهبون معاً للتفاوض مع علي عبد الله صالح وحكومته، هذا الأخير سيضطر في نهاية الأمر إلى أن يسمعهم، وهذا ما نريده، أن يسمع للطرف الآخر، ويحترم ما يقوله.
الاقتراح السابق ليس صعباً، وجزء من الكلام الذي قاله الخبجي في حديثه ل"نيوز يمن" الأسبوع الماضي يساعدني فيما ذهبت إليه، هو قال للزميل نبيل الصوفي إن مشكلتهم الرئيسية هي مع النظام، وليس مع الدولة اليمنية بحد ذاتها، ودعا الشماليين والجنوبيين للشراكة ضد السلطة، وكذلك يقول الحوثيون، وتتفق معهم العديد من الزعامات السياسية في المناطق الشرقية (مأرب والجوف) التي بدأت تشتعل فيها الحرائق في الأيام الماضية.
أعود مجدداً وأنادي بفضيلة الإنصات، أو الاستماع على أقل تقدير، ولو أن الأمر بيدي، والأماني من نصيبي، لوضعت كل اليمنيين، وأنا أولهم طبعاً، في دورات تدريبية، تعلمنا كيف نسمع بصدق وإخلاص لمن يتحدث إلينا، سواء داخل الأسرة الصغيرة أو على مستوى الدولة الكبيرة. ربما إن فعلنا ذلك.. إن فعل بعضنا ذلك، ربما "خرجنا لطريق".