تنشر صحيفة السياسية الصادرة عن وكالة الأنباء اليمنية (سبأ) حوارات أسبوعية تتناول جوانب مخفية عن شخصيات سياسية واجتماعية عرفنا نصف حياتها لكننا لا نعرف شيئاً عن نصفها الآخر. المصدر أونلاين وبالاتفاق مع الصحيفة ومع الزميل صادق ناشر الذي قام بإجراء هذه الحوارات يعيد نشر الحلقة السابعة من حوار مع عبدالرحمن بجاش مدير تحرير صحيفة الثورة الرسمية، فإلى التفاصيل:
*ما هو أول مقال لك في صحيفة "الثورة"؟ أول مقال يُنشر باسمي كان بعنوان "كيف يجب أن نفهم التصحيح؟"، قبله كنت أكتب في صحيفة حائطية بمدرسة عبد الناصر الثانوية، أذكر أنني كتبت مع مدرس اللغة العربية من مصر عنوان "من الحياة"، طلع غلط "فن الحياة"، وهذا أذكره جيّداً وطلع على الجدار.
*إلى أي تيار سياسي كان يميل عبدالرحمن بجاش؟ إلى حزب المسّاح، وطوال فترة حياتي المهنية والإعلامية ظللت أصنف تارة مع الناصريين وتارة مع البعثيين وتارة مع آخرين، لكن أفكاري كانت تميل إلى ما كان في رأس المساح، لهذا فإذا قيل لي: بمن تأثرت في حياتك سواء في الجانب السياسي أو في الجانب الإنساني، أو في الجوانب الأخرى؟ فإنني وبكل ثقة سأقول: إذا كان هناك حزب لأسميه وأعين له رئيساً، فأقول إن الأستاذ المساح رئيسه وأمينه العام الأستاذ يحيى العرشي، هؤلاء وعدد آخر ممن ارتبطت بهم هم من أنتمي إليهم وأفخر وأعتز بانتمائي إليهم، وهؤلاء إذا كانوا بالفعل يُشكّلون حزباً فحزبهم سيكون من أنبل الأحزاب الموجودة في البلاد.
*هل دخلت في جدل مع بعض الشخصيات حول تصنيفك السياسي، سواء في الفترات السابقة أو اللاحقة من عملك؟ بكل تأكيد، فتبعاً لهذا التصنيف كان في مرحلة من المراحل تصنف غصباً عنك وتوضع في خانة سياسية ما، ويتم التعامل معك على أساس هذا التصنيف. وبالنسبة لي يتم التعامل معي حتى اليوم على أساس أنني ماركسي، رغم أن الماركسية والاتحاد السوفييتي قد انتهيا، لكنني لازلت أصنّف على هذا الأساس، وهذا لا يهمني، ولست مجبراً على أن أبرر وأترجّى أو أرجو، كون الإنسان يؤمن بشيء فهذه مسألة تخصّه.
طبعاً، أنا لي أفكاري ربّما تجرني أحياناً إلى اليسار ولا أتنكر لهذا، وكعلاقة صداقة لي ارتباطي بكل القوى السياسية في البلد، لكنني صاحب قناعة. فالصحفي كالقاضي يجب ألا ينتمي إلى حزب؛ لأنه سوف يفقد مهنته الصحفية، لن يستطيع الحكم على الأشياء، قناعتي أن المهني، وبالذات الصحفي يجب أن يظل سيد نفسه، يجب أن يظل قلمه سيد تفكيره وسيد رؤاه، أما إذا انضم لحزب فهو يكون قد فرض على نفسه أن يسير في اتجاه واحد ولن يستطيع أن يحكم على الأشياء من موقع محايد، وهذا ما استفدته من المسّاح؛ فكما قلت سابقاً كان بيته ملتقى للكل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، في بيت المساح تجد الأفكار تواجه بعضها وتجد النقاشات تدور والناس يتكلمون وتجد المنشورات تخرج من بيت المسّاح، الذي كان مفتوحاً بحُكم أن عائلته في القرية، وهو مرتبط بالقرية أكثر منِّي، لهذا تجد البيت مفتوحاً لكل القوى، تجد في كل غرفة من غرف البيوت التي سكنا فيها كل الأشكال والألوان والتيارات السياسية.
العمل تحت الأرض *ما هي الأشياء التي لازالت عالقة بذهنك في فترة الصراعات الحقيقية في الشمال بالذات، خاصة منذ العام 1970 وحتى العام 1990، والتي كانت مليئة بالأحداث الساخنة؟ رغم الصراعات التي كانت تدور حينها، فقد كانت فترة حلم، كان الناس، أو كل قوة أو كل فكر أو كل أيديولوجية، سمّها ما شئت، يحلمون بمستقبل أفضل، ويبدو فيما بعد أننا فقدنا هذا الحلم بفعل الصراعات الطويلة التي قضت على أحلام الكثيرين، لذلك تجد أن ما ينقص عملنا السياسي هو الحلم بمستقبل أفضل.
هناك أشياء كثيرة جداً ارتبطت بالذهن، كان الناس يختلفون، رغم العمل السري والظروف الصعبة، إلا أنهم كانوا ممتلئين بالحماس؛ لأنهم كانوا يفكّرون بغد أفضل على الرغم أنهم كانوا يعملون تحت الأرض، والحياة الحزبية برغم أنها تحت الأرض ربّت وخرّجت أناساً كبارا، اليوم لم تفرز الحياة السياسية شيئاً -للأسف الشديد- برغم امتلاء الشارع بالأحزاب، إلا أننا لم نرَ رجالاً بحجم أولئك الرجال الذين أنجبهم العمل تحت الأرض.
*هل تريد أن تقول إن الحياة السياسية اليوم لم تستفد من مخزون الأمس؟ هذا بكل تأكيد، هناك من يتساءل عن سبب التطوّر الحاصل في الصين، ويرجع البعض فضل ذلك للثورة الثقافية التي صنعت هذه الإدارة الصينية التي نلاحظها، هنا -للأسف الشديد- نرى نفس الوجوه، فلم تفرز الأحزاب قواها ودماءها الجديدة، لماذا؟ هذا السؤال يجب أن يجيب عليه مُجمل الناس، مُجمل مكوّنات المشهد السياسي، لماذا لم تفرز الأحزاب وجوهاً جديدة تفكر بشكل آخر وتنظر للمستقبل بعين أخرى؟
للأسف، نحن لا نزال نلوك ما كان يدور أيام العمل السري وما بدأت به الوحدة، لازلنا عند تلك النقطة ولم ننتقل منها، بدليل أنه لم نتسق مع ما أطلق عليه محمود الصغيري "ثقافة الوحدة"، ولم نؤسس لها دولة، نحن الآن نتحدث عن الولاء الوطني ولا ندري كيف نقنع أبناءنا بأن يكون ولاؤهم وانتماؤهم لهذا الوطن؟ والمصيبة فينا نحن، لم نرسخ في وعي الناس ثقافة الوحدة، لو تسأل شاباً عمره من عمر الوحدة عن ما الذي تم في سنة 1990 تجده لا يعلم شيئاً، لأن مناهجنا لا تقول ما الذي حصل، جامعاتنا عقيمة والمنهج أكثر عقماً، لكن تلك المرحلة التي نتحدث عنها، وهي مرحلة العمل السري أنتجت رجالاً عظماء، أنتجت رؤى كثيرة، لكن للأسف- أن ما حصل أن الناس تخلوا عن مشاريعهم إلى درجة فقد الشارع ثقته بكل شيء حتى بالمثقف، فقد ثقته بالنخبة، حتى ولو ألقيت آلاف القصائد وآلاف الخطابات.
وكما قلت لك سابقاً، فإنني أشعر بأن الناس يتأثرون عندما تحكي لهم عن الماضي بتفاصيله الصغيرة المتعلقة بالجدات والعجائز والقرية... الخ، هذا يؤثر في الناس إلى درجة كبيرة، عندما يكتب أحدنا شيئاً متعلقاً بالجانب الإنساني تجد الناس تتأثر، فهل لأننا لم نستشرف آفاق المستقبل، ومازلنا نلوك أنفسنا ونلوك الماضي بصوره التي مضت عليها عشرات السنين؟
إذا أردنا أن ننتقل إلى مرحلة أخرى في حياتنا وإلى تطوّر أرقى ولكي نستشرف آفاق المستقبل علينا أن نعيد قراءة الواقع بشكل آخر، ونسأل أنفسنا: ما الذي عملناه منذ العام 1962 حتى اليوم؟ كان صديق من الأصدقاء يحاول أن يدلل أن الثورة لم تفعل شيئاً للناس واختلفت معه فيه، لكن سؤاله جعل رأسي يدور، يعني منذ عام 1962 إلى اللحظة لماذا لا نرى واحداً منا إذا زوج ابنته لا يعمل لها تهنئة باسمها؟ أي لا يهنئها باسمها، سؤال قد يكون بسيطاً لكنه بالفعل يشير إلى خلل في أشياء كثيرة، لماذا نخجل أن نهنئ بناتنا في الصحف بعد كل هذه السنوات من قيام الثورة، هل لأن ثقافة الثورة لم تصل إلينا بعد؟ لماذا لا نسأل أنفسنا ما الذي يحدث الآن في صعدة؟ هل أن الثورة لم تصل إلى صعدة؟ وإذا لم تصل فهذه تعتبر مصيبة.
هناك أسئلة كثيرة حري بمكونات المشهد السياسي بدلاً أن تظل "تلت وتعجن"، أن تجيب عليها، يكفي أن الجيل الحاضر يفاجئك بالسؤال: "ماذا عملتم لنا؟"، ماذا نقول له؟ هل نقول له: إن الذين قبلنا أيضاً لم يفعلوا لنا شيئاً؟ فالمنهج لا يؤدي شيئاً وكذلك المدارس ثم تأتي وتتحدث عن الولاء الوطني والانتماء الوطني.
البعض يأتي ليسأل: لماذا المصريون يحبون مصر؟ لأنه في الستينيات كان المسرح يلعب دوراً والسينما تلعب دوراً، في صنعاء كانت هناك سينما في بداية الثورة، اليوم لا توجد فيها سينما واحدة، لا يوجد فيها مسرح، لا يوجد فيها مركز ثقافي محترم ومتكامل، كان في عدن إلى بداية الوحدة العديد من دور السينما والمسارح والمراكز الثقافية، أين هي الآن؟ فإذا كانت هذه المعالم الثقافية غير موجودة، فعن أي ولاء يمكن الحديث عنه؟ كثّر الله خير الناس أنهم لا يزالون هكذا أنقياء برغم غياب المشروع، المرحوم عبد الله البردوني يقول: إن الشعر يوثّق للتاريخ ويعرفه، فأين الأدب بمختلف أجناسه ليرسخ وعي الناس بالوحدة، الوحدة اليوم شيء انتهينا من الجدل حوله، الآن المفترض علينا أن نتحدث عن الدولة، الوحدة كما كانت ثورة سبتمبر وثورة أكتوبر لم تعد ملكاً لواحد وحده أو لفصيل، بل هي ملك الناس جميعاً، وهم الذين سيحافظون عليها أو هم الذين سوف يتخلون عنها، الوحدة حسمت في سنة 1990 التي انتهى فيها كل شيء وأصبحت دولة الجمهورية اليمنية، لكن على الناس أن يفكروا بما هو آتٍ وليس بما مضى.
حياتي في "الثورة" *ما هي أفضل سنوات عبد الرحمن بجاش، أي أنه يعتبرها سنوات ذهبية صنعت اسمه وحضوره في الساحة الإعلامية؟ عندما بدأت العمل في صحيفة "الثورة".
*متى كان ذلك؟ منذ تأسست مؤسسة "سبأ" للصحافة والأنباء، من اللحظة الذي التحقنا فيها للعمل، كنا ندخل للمهنة عن طريق الإعلان والاختبار، تخيل الآن نحن نعود للخدمة المدنية للعمل في الصحافة، يومها اختبرنا وفزنا عشرة، وأنا من جيل أنور العنسي وعباس غالب، فأنا من ضمن الذين اختبروا وطلعت أسماؤهم بين العشرة الذين قبلوا للالتحاق بالمؤسسة و"الثورة" جزء منها.
أذكر يومها أن الأستاذ محمد الزرقة طرح سؤالاً، وصادف أن في السعودية لا أدري ما الذي حصل أيام ما كان الملك فهد ولياً للعهد كان هناك خبر أن التجار اليمنيين سيطروا على الاقتصاد السعودي... الخ، فهو سألني: لو أنت في صحيفة ووجدت هذا الخبر كيف ستتعامل معه؟ قُلت له: هذا على المستوى المهني هذا خبر، وكنت لا زلت في البداية، لكن هذا على المستوى السياسي على الدولة أن تتعامل معه وتحكمه الدولة هذه مسألة خاصة بها، فلما خرجت، قال لي: أنت لعين، وللأمانة كان الزرقة برغم كل المسامير المذحّلة التي يعملها والتي تحكم علاقته بالآخرين إلا أنه كان أستاذاً مهنياً كبيراً، وكان يعرف ما لا يعرفه كثيرون، كونه لم يحول "الثورة" إلى مؤسسة، هذه مسألة أخرى.
*من الذي ترك في حياتك بصمات تشعر أنك مدين لهم حتى اليوم؟ الأستاذ محمد المساح والأستاذ يحيى العرشي. الأستاذ يحيى العرشي يشكل في حياتي قامة كبيرة على المستوى الشخصي، كمسؤول فهو رجل قرار، لم يكن يفرق بين هذا وذاك، وأن يكون هذا من هنا وذاك من هنا، كان تقييمه يقوم على أساس أن هذا الشخص يشتغل أو لا يشتغل، يؤدي واجبه أو لا يؤدي، يعمل أو لا يعمل، فقد ترك في نفسي شيئاً كبيرا من الاعتزاز ليس فقط عندي بل وفي غيري.
أحترم الزرقة كمهني وكأستاذ، لكن من صنعني هما المساح والعرشي، واعترف لهما بهذا الجميل، المساح في المقام الأول والأستاذ يحيى العرشي في المقام الثاني، فعندما يُحترم هذان الشخصان أشعر بأن هذا الاحترام ينسحب عليً أنا.
مواقف محرجة مع البردوني *في حياتك العملية المهنية الصحفية مرت عليك الكثير من المواقف سواء مواقف طريفة أو مواقف محرجة، هل تتذكر بعضها؟ أتذكر أننا كنا نعمل بالوسائل التقليدية ولم تكن هناك اتصالات بواسطة الأقمار الاصطناعية، وقبل افتتاح هذا المشروع بأيام احترقت مطابع شركة الطباعة والنشر وانتقلنا إلى "ديم" صغيرة في التوجيه المعنوي، وكان يومها يناوب رؤساء التحرير: محمود الحاج، عبد الباري طاهر والمساح والأستاذ الزرقة داخل "ديمة" صغيرة، ولم نكن نستطيع الجلوس إلى جانب رئيس التحرير؛ لأن الديمة صغيرة، فنظل في الخارج، في تلك الليلة كان المناوب الأستاذ محمود الحاج، فقالوا إنهم سوف يذهبون إلى مسرح وزارة الإعلام على أساس يفتتح عبد العزيز عبد الغني الاتصالات بالأقمار الاصطناعية، وذهبت بعدهم. جاءني اليوم الثاني محمود الحاج وعمل لي خمسة عشر قسطاً، قلت له: الخمسة عشر قسطاً تأخذ المرتب والمرتب الذي بعده.
هناك ذكريات كثيرة، أتذكر أننا في تلك الأيام الصعبة نعمل بروح الفريق الواحد خاصة أيام إبراهيم المقحفي واستفدت من هذا الزميل، وهو الآن مغيّب، وكان قد تولى رئاسة تحرير "الثورة"، وكنت معه سكرتير التحرير بتعيين من الأستاذ يحيى العرشي. وأتذكر أننا أصدرنا الملحق الثقافي، ويومها سهرنا إلى الصباح، وذهبنا بأول نسخة إلى الأستاذ يحيى العرشي والتقينا به في ساحة وزارة الإعلام، حينها أمسك بالملحق الثقافي وهو يقول: الآن استطيع أن أقول إن الشباب يعتمد عليهم.
أتذكر أن الأستاذ البردوني عندما ذهبنا إليه بأول نسخة من الملحق، سألنا: بكم قيمته؟ قلنا له: يا أستاذ مجاناً، قال: لا تنزلوا إلى القراء ارتفعوا بالقراء إلى عندكم. وعندما اقترحت على الأستاذ المقحفي البدء بمشروع صحفي -وهو الذي أنت الآن تعمله، أي "النصف الآخر"- فقلت: يا إبراهيم ما رأيك الصفحة الأخيرة نكرّسها للوجه الآخر؟ فقال لي: ابدأ أنت، لأن إبراهيم كان عاد من القاهرة وعرض عليه الأستاذ يحيى العرشي منصب مدير تحرير، فدعاني إلى فندق المخاء، فقال لي: ما رأيك تمسك التحقيقات؟ وفوجئت في اليوم الثالث بالأستاذ يحيى العرشي يعيّنني عضواً في هيئة التحرير بجانب الأستاذ الزرقة ومحمد المساح ومحمد الشيخ وعبد الله الشرفي، وهذه كانت نقلة كبيرة بالنسبة لي، فكتبت الأسئلة، وهذه من أجمل الذكريات، وذهبت بها إلى الأستاذ البردوني مع عبدالله حويس -الله يرحمه- وكان الأستاذ البردوني لا يزال يسكن في بستان السلطان، والسؤال الذي قلت -أنه لم يسجل في البداية- إنني قلت له: يُؤخذ عليك يا أستاذ عبد الله أنك بارتدائك الملابس القديمة تخاف من كل جديد، فقال لي: "يا ابن بجاش الوطن يستوطن الذاكرة ولا يسكن القميص وإلا لكانت نجوى فؤاد أعظم من كل العظماء".
وسألته سؤالاً آخر -لا أتذكر ما هو نصه- فرد عليً: إن هذا سؤال من حق المخبرين، فعندما ذهب المسّاح إليه في المساء، قال له: اليوم اشتغلت صاحبك المخبر، فالمساح بلهجته يقول له: من هو المخبر؟ قال له: ذلك بجاش، قال له يا (.......)، وهي كلمة كانا يداعبان بها بعضهما البعض، هذا غير صحيح، فناداني اليوم الثاني واعتذر لي، وقال لي: "أحسست أن سؤالك رقم كذا كان سؤالاً بوليسياً"، كما قال لي: "لقد خلطت بينك وبين واحد كان اسمه شبيهاً باسمك، وهو في جهاز الأمن"، هذه من الذكريات التي لا أنساها.