( 1 ) أوقفت الكويت قناة سُهيل قبل يومين من ميعاد انطلاق البث الرسمي للقناة. الكويت، استجابةً لإلحاح دولتين مهمّتين في محور الاعتدال العربي، أغلقت أبواب القناة في وقت حرج للغاية. يأتي الإحراج هُنا على الصعيد المادي بالدرجة الأولى، حيث تفاجأت إدارة القناة بأن ملايين الريالات أحرقت في لحظة عالمثالثية بدويّة واحِدة!
في الطرف الآخر، بادرت الحكومة اليمنية إلى التعبير عن سعادتها لهذا النصر السياسي المؤكّد، ولم تنس أن تشكر الكويت على هذا الفعل الرسالي بالغ النبل " نظراً لما كانت تبثه تلك القناة من برامج تروج لسموم الفتنة والفرقة وتضليل الرأي العام وتسيء لليمن والشعب اليمني" كما جاء في بيان الحكومة. في اليمن، أيضاً، تحدث الجميع عن هذا التصرّف الرسمي، بيد أن أي جهة حقوقية أو سياسية لم تعلّق عليه. سحابة من الذهول، والإرباك.. أو ربّما: في انتظار تلك اللحظة التي سيتمكّن فيها النجم الكبير، المحترِف، من الخروج من هذه المصيدة برشاقته المعروفة، لكي يضع هدفاً " جماهيريّاً" في شباك خصمه المضطرب. هل يمكن الحديث بمثل هذه الطريقة؟ هل يمكن أن نقول: وضعت الجماهير أياديها على رؤوسها ، حبس المشجعون أنفاسَهم، منطوين على يقين دفين يبشّرهم بالخطوة الجريئة التي سيقدم عليها نجمهُم الجديد، حين سيمتع الجماهير بلياقته وحرفنته، كما كان البرازيلي " دينيلسون" يفعل عندما يحشره المدافعون في الزاوية!
( 2 ) لقد كانت القناة تروّج لسموم الفتنة والفرقة. ياللهول، إن كانت قد فعلت كل هذا فلماذا تحاكمها الكويت بدلاً عن اليمن؟ إن هذه جرائم قانونية لا لبس فيها، ونحنُ دولة تعيشُ أزهى عصور الإصلاح القضائي منذ أن استقال رئيس الجمهورية من رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، وتشبّث بحقه في تعيين رئيس لهذا المجلس! وعلى مرمى كوز من هذه اللافتة، وقف الأستاذ يحيى، ابن شقيق الرئيس، عبر صحيفة الوسط متفاخراً بالجهاز القضائي الذي يحمي الجميع، نافياً ما يُشاع حول تعرّض المستثمرين للابتزاز العالي. أما معالي وزير العدل فهو صاحب مقولة: بالقضاء سنعاقب من ينال من سمعة القضاء. قل ما تشاء في مديح قضائنا، الذي ويا للسعادة يسيطر عليه عسكريّون تحصّلوا على دورات تأهيلية في " كيف تصبحُ قاضياً"! بالتحديد: بعد حملة تصفية، نالت أكثر من 125 قاضياً، قامت بها الأجهزة الأمنية ضد القضاة المتحوثثين! كل هذا الضجيج لا أحد، كما يقول شاعرٌ لطالما نسيتُ اسمَه.
لقد فعلت الحكومة ما يمليه عليها واجبها القومي، وهكذا فإن سلوكها تجاه هذه القناة " لقي ارتياحاً كبيراً في أوساط الشعب اليمني" كما في بيان المصدر الإعلامي. لكن الحكومة، كعادتها، تركت الجناة طليقين لا وازعَ لهم. ومن المحتمل أن يعودوا إلى " كلمة الكفر" وهم قد أخرجوا منها. وإن هذا، لعَمْري وزيدي وسعدي، لمن شر الأمور.
(3) ما حدث لقناة سهيل كان " عملية يمنية ناجحة في العمق" كما سيحلوا وصفها لجماعة من المخزّنين الاستراتيجيين. كان بمقدور الناطق الإعلامي أن يتريّث قليلاً، أن يتجاهل الإشارة إلى الحدث حتى يختفي الفعل ذاته في سحابات من السديم العالمثالثي، وتنتصر السلطة بترميم صورتها ككيان جريء ومؤثر، أو تنتصر بإثارة الضباب والأسئلة. غير أنّ ردّة فعل السلطة كانت أشبه بما يسميه الطب النفسي: التسامي Twilight. في هذه اللحظة ، يعتقد المرء أنه قد حصل على نجاح أكبر من قدرته على استيعابه أو توقعه ( النجاح هُنا يعرف بوصفه تأثير الدبلوماسية الخارجية، استجابة الحكومة الكويتية – عبر ترسانة وسطاء- للنحيب اليمني، وليس إيقاف القناة). سيفقد المرء، طبقاً لمقولات الطب النفسي، وعيه للحظات، وربما ساعات. يخرج إلى الشارع : ابتسامة عريضة تتمدد بين أذنيه، يصافح الجميع وهو يقول "لقد فعلتها، أليس كذلك، هاه، ألم تكونوا هُناك وأنا أفعلها؟". وقد يقوم بأفعال ذات طابع أحمق سيكتشفها حين يسترد وعيه. وربما يكون تلافي أضرار هذه الأفعال، عندئذٍ، قد تأخر كثيراً.
تمارس دول عديدة ضغوطات هائلة على دول أخرى، فتحصل على مرادها. وغالباً ما تحصل عليه بمقابل تدفعه. إنها السياسة. لكن ليس شائعاً أن الدولة إكس تكشف رسميّاً عن أنها كانت وراء السلوك الجديد الذي أقدمت عليه الدولة واي ضد مواطني إكس المقيمين في كنفها إلا إذا كانت في مسيس الحاجة لبرهان تقدمه إلى المشككين في امتلاكها للقدر الأدنى من التأثير في السياسة الخارجيّة والضبط الداخلي. عندما تصل الدولة إلى هذا الجوع السياسي العارِم فإنها لا يمكن أن توصف ساعتئذٍ بأنها مؤثرة. إذ لو كانت كذلك، وتعتقد أنها تمتلك من أدوات الضغط والتأثير الدبلوماسي الخارجي ما يجعل احتمال فشلها ضعيفاً، لكانت تقدمت بطلب رسمي علني، أو تحاشت لإشارة إلى الحدث، لا أن تقوم بنشاط سري هو أشبه ما يكون بعمليات جماعات المافيا.
ثمّ، عن أي تأثير خارجي يمكن أن نتحدّث إذا كنّا نمتلك هذه الحقيقة : قامت مجموعة من الصحف الكويتية، تتقدمها الوطن الكويتية بالطبع، بمهاجة رئيس الجمهورية بطريقة حادة للغاية. حدث هذا قبل عامين. صاغت الرئاسة عريضة شكوى حملها وزير الخارجية، القربي، إلى السفير الكويتي في صنعاء. كان الجواب الذي تلقاه القربي: نحن بلد ديموقراطي، ولا يمكن للحكومة أن تمارس ضغطاً على أي صحيفة ضداً لسياستها التحريرية أو إرادتها. نشرت هذه الحادثة في وسائل الإعلام في حينها. ويشبه هذه الحادثة ما نشرته وسائل الإعلام أيضاً حول رسالة رئاسية حملها مستشار الرئيس، الإرياني، إلى أمير قطر تطالبه فيها بالضغط على قناة الجزيرة كي توقف تعاملها مع "الانفصاليين" اليمنيين. كان رد أمير قطر، طبقاً لوسائل إعلام عديدة، أنه ليس بمقدوره الضغط على قناة الجزيرة كونها مستقلة مالياً وإداريّاً. وأن بإمكان الإرياني أن يضع رسالة " فخاااامة الرئيس" أمام " مديييير" القناة، فلربما تفّهم محتواها!
( 4 ) الشركة مالكة القمر المستضيف لقناة سهيل، غلفسات، تقف إلى جانبها خاصة وأن القناة لم تخل بأي شرط من شروط العقد، ولم تبث ما يسيء للدولة المضيفة أو اليمن. هكذا جاء في تقرير للزميل هشام محمد نشرته المصدر. مضافاً إلى هذا : لم تستند الحكومة اليمنية في مطالبها إلى أي لائحة تشريعية داخلية، يمكن القول أن القناة قد تجاوزتها، أو حتى تلك اللوائح التي تنظم العلاقات بين الدول. فضلاً عن القضاء اليمني، وقبله البرلمان اليمني، لم يتدخلا لحماية الوطن من " الفتنة والشرور والفرقة والسموم" التي بثتها هذه القناة خلال المرحلة التجريبية. إن هذا يعني أن القضاء اليمني، ومن خلفه البرلمان، لا يقومان بأي دور يتعلق بالحماية أو الرقابة لمصلحة المجتمع اليمني. وهو سلوك سلبي يحوّل هاتين المؤسستين إلى هوامش لا طائل من ورائها!ّ لقد كانت الذريعة الأمنية التي تخفّت وراءها المخاوف السياسية: إن هذه القناة تابعة لحزب عقائدي. هذه ذريعة سخيفة، وما هو أسخف من هذه الذريعة هو توسّط السعودية – التي توصف في العلاقات الدولية بأنها : دولة رسولية – لتبنّي فكرة مناهضة الحزب العقائدي ذي الجذور الدولية. وبداهةً فإن لفظة عقائدي هنا تحيل إلى " إيديولوجي"، والإيديولوجيا كما يقول المصطلح هي تركيب لغوي من كلمتي: logy وتعني العلم، أو العقل، وكلمة Idea وتعني الأفكار! وباختصار مفيد للغاية : فإن أي حزب على ظهر الكوكب لا بد أن يكون إيديولوجياً، عقائديّاً، باستثناء المؤتمر الشعبي العام بالطبع.. فهو حزب لا علاقة له مطلقاً لا باللوغوس، ولا بالأفكار، رغم منطلقاته الإيديولوجية السلفية كما في نصوص الميثاق!
والعقيدة هُنا لا علاقة لها بالمفهوم السلفي الديني. لأن عكس العقائدي، بالتعبير الديني السلفي، هو المشرك، أو الملحد، أو الزنديق Siddiq – مجوسي، باللغة الفارسية. وعليه فإن وصف حزب الإصلاح بالعقائدي سيعني أن غيره من الأحزاب – المؤتمر في المقدمة- هي أحزاب نهلستيّة، أو لا- أدريّة، Agnostic.
( 5 ) تكمن خطورة الحادثة برمّتها في التالي: السلطة في اليمن لم تعد قادرة على " شيطنة " الأحزاب السياسية، ونفيها أو نسفها. لأسباب عديدة، منها أن السلطة آلت إلى كيان مركزي هش، وضعيف، كما أن هذه الأحزاب استطاعت أن تضرب في جذور الاجتماع اليمني على مدى نصف قرن. لقد تحرّكت الأطراف – السلطة والأحزاب المعارضة- في دالة متعاكسة: هشاشة السلطة كانت تمثل في كل مرحلة رصيد قوة جديدة للأحزاب المناوئة لأجهزة السلطة. لذلك، فإن ما ستفعله السلطة هو شيطنة هذه الأحزاب خارجيّاً، ليس لرفع الغطاء الدولي عن هذه الأحزاب تمهيداً لفعل عنيف يمكن أن تقدم عليه هذه السلطة تجاه التنظيمات السياسية المعارضة، كما توقعتُ مسبقاً في مقال بعنوان " شيطنة حزب الإصلاح". بل للتحلل من الضغوط الخارجية التي تطالب بحلحلة الوضع اليمني عبر تكريس الممارسة الديموقراطية الشفافة، ومحاربة الفساد ونسف الظواهر غير القانونية التي تنسب في مجملها إلى أعمدة السلطة التي " عليها خمسة عشر"!
لا علاقة للحادثة – إيقاف قناة سهيل – بجماعة الإخوان المسلمين، كما يهذي إعلام الجنرالات، وخالتي فرنسا. إنه حادث تنطبق عليه مواصفات حادث "إغلاق صحيفة الأيّام". كما أن السلطة ما كانت لتتردد لحظة واحدةً فيما لو كان مالك القناة ماركسيّاً يمنيّاً، أو بعثياً ، أو ناصريّاً، أو حراكيّاُ أو حوثيّاً.. وفي كل الأحوال، لن تعدم هذه السلطة الذريعة، وسيساعدها الجيران الأعزاء الذين لا تعني الحقوق والحريّات لديهم شيئاً ذا بال. كما لا يزالون في معاركهم الوهمية ضد كل هذه التيارات التي تفكّر. اتصلتُ بالملك فهد، يقول الرئيس صالح قبل أعوام، قلت له: الشيوعية تدق أبواب صنعاء، وغداً ستدق أبواب الرياض!
( 6 ) تتحدث مئات المواقع الإليكترونية العربية، عشرات الصحف العربية، مئات المنتديات: فلسطينية، بحرينية، عراقية، جزائرية، لبنانية ... إلخ حول إغلاق قناة سُهيل. كل هؤلاء لم تكن قناة سهيل لتعني لهم الشيء الكبير فيما لو أطلقت بسلاسة وهدوء، وكبحت السلطة رغبتها في الضجيج. فنحنُ الآن في تلك اللحظة التاريخية البديعة التي تنطلق فيها قناة عربية جديدة كل نصف ساعة.
إنه مكسب، على صعيد الترويج الخارجي والداخلي، أعلى من كل التوقّعات، كانت قناة سهيل ستحتاج إلى دورات برامجية عديدة كي تحوز عليه. لقد خسرت القناة رزمة مالية عالية، لكن لا بأس: إن هذه الخسارة أقل من ربع ما كانت ستحتاجه القناة في الدعاية والترويج كي تصل إلى كل هؤلاء الذين يفتقدونها دون أن يكونوا قد رأوها.
يُقال أن إدارة القناة اتجهت إلى لبنان، لكن الإرياني سبقها إلى قطر، أم السعودية فستتصرف بطريقتها في موضوع " لبنان". كان على الإدارة أن تدرك منذ البداية أن لبنان وقطر هما الدولتان العربيتان الوحيدتان اللتان رفضتا التوقيع على وثيقة "تنظيم البث الإذاعي والتلفزيوني" التي تقدم بها وزير الإعلام المصري أنس الفقي وكان وزير الإعلام اللوزي في مقدمة أعلام الموقّعين! ورغم هذا الرفض، فلا تزال هُناك وسائل عديدة للتأثير على قرارات هاتين الدولتين فيما يخص الشأن الإعلامي، كما أشرت سابقاً. أوروبا هي طريق السلامة، هُناك حيثُ يعيش الإنسان في معيّة القانون، وحيثُ الإنسان هو مالك ذاته الوحيد. ثمّة، مكانَ لا مكان للزعامات بل للمديرين الناجحين.. كما من غير المسموح لأحد أن ينسب كل النجاحات لذاته المجيدة، وينسب الخطايا والكوارث إلى المعارضة والشيطان! وفروق أخرى هائلة..