يشهد العالم العربي حالة غير مسبوقة من فقدان التوازن، وتبدو بعض الدول العربية وكأنها في طريقها للدخول في نفق مظلم، كما يحدث في ليبيا واليمن وسوريا، التي تعاني من شلل سياسي واقتصادي واجتماعي، في حالة تبدو فيه هذه المجتمعات أقرب إلى التفكك وحدات اصغر، قبليا وطائفيا وجهويا. الشعوب العربية التي بدأت ثورة شاملة في السابع عشر من ديسمبر من العام الماضي استطاعت أن تطيح برئيسين في زمن قياسي في تونس ومصر، اصطدمت بحالة دموية قاتلة في ليبيا واليمن وسوريا، وانتقلت من ثورة سلمية تطالب بالحقوق والحريات إلى حرب كاملة في ليبيا تحصد الأخضر واليابس، وإلى حرب من النظام ضد شعب اعزل في سوريا وإلى ما يشبه الحرب في اليمن، وإلى توترات في مناطق أخرى من العالم العربي. هذا التغير في المشهد كشف عن بعد الشقة بين الشعوب العربية والحكام، وأنها تتسلط على هذه الشعوب وتخضعها ولا تحكمها، وتتعامل معها بمنطق الوصاية والإذلال، فلا تداول للسلطة ولا مجال للحرية وأي شكل من أشكال الاعتراض أو النقد ينتهي بالسجن والتعذيب والنفي وحتى القتل والتذويب بالحوامض الحارقة. وكشف عن افتقار الأنظمة العربية في هذه الدول لأي شعبية على الإطلاق يتصرف هؤلاء الحكام بالدول التي "يحكمونها أو يتسلطون عليها" بوصفها مزارع خاصة لهم ولأولادهم وقاربهم ومحاسبيهم وجوقة المنافقين وزمر التطبيل والتدجيل، أما باقي الناس فعليهم الاستسلام لرغبات الطغمة الحاكمة ومن لف لفهم وإلا فإن صواريخ غراد جاهزة لدك مصراتة الليبية على رؤوس سكانها وقذائف المدفعية والدبابات الثقيلة جاهزة لتدمير درعا السورية وصواريخ الطائرات على يافع اليمنية. ما يجري في العالم العربي كشف أيضا أن الدول التي تدعي الحرية وتسمي نفسها "المجتمع الحر" تدعم الطغاة والحكام الفاسدين والقتلة، مقابل ضمان مصالحهم وتدفق الأموال وثروات الأمة إلى بلدانهم بلا حسيب أو رقيب، يسكتون على القتل وترويع الآمنين وسجن الأبرياء ومصادرة الحرية، مقابل الحفاظ على "التوازن الإستراتيجي" الذي يحمي إسرائيل ومصالحهم ولتذهب كل دعوات الحرية وحقوق الإنسان إلى الجحيم. مليارات العرب "تتسكع" في بنوك الغرب والشباب العرب عاطلون عن العمل، ونصف الأمة تحت خط الفقر.. مليارات الدولارات يهربها الحكام الفاسدون دون أن يحاسبهم أحد ويودعونها في حسابات سرية في أمريكا وأوروبا وشعوبهم تتضور جوعا.. لقد كشفت الثورات في العالم العربي عن كم كبير من الفساد بالأدلة والبراهين. لقد كشفت الثورات في العالم العربي التي أشعلها الشباب وقادوها بلا خوف أو وجل بؤس معظم النخب العربية، وعقمها واندماجها مع السلطة وعدم قدرتها على تحرير نفسها والشعب من الخوف، وكشفت أن الجيل الجديد من الشباب أكثر جرأة وإقداما وشجاعة من أي جيل مضى، وكشفت عن استعداد حكام عرب لقتل كل الشعب للبقاء على كرسي السلطة، وكشفت أن الأنظمة العربية لا تنظر أبعد من أنفها ولا تدرك أن انفجار الشعوب مثل السيل المنحدر لا يتوقف أبداً ويجرف كل ما يجده أمامه. هناك أنظمة عربية رحلت بالثورة السلمية وأخرى سترحل بالثورة العنيفة كما في ليبيا وسوريا، وأخرى سترحل لأنها لا تريد أن ترى أو تسمع صوت الشعوب العربية الهادرة، فلا حصانة لأحد، ومن يرغب من الأنظمة أن "يفلت" من الثورة فعليه أن يصغي للناس ومطالبهم وهمومهم، وتلبية مطالبهم، وإعادة التوازن في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبغير ذلك فإن الثورة مستمرة ولن تستثني أحدا.