دخلت مدينة تعز عام 2001 في من دخلوها من الشباب الذين ينتهي بهم المطاف في أزقتها كالأرامل، نعم، وغادرتها العام 2009 وأنا لم أعد استسيغ حتى حياتي. حملت معي كيس صغير به بذلة، ولوحة تشكيلية هدية لصديق، واتجهت إلى صنعاء، كان ذلك كل ما أستطيع أن احمله، بإمكاني تعديل الصياغة والقول أن ذلك كان كل ما املكه على مدى تسع سنوات من التسكع في أزقة ضيقة ومملة. وفي السنوات التي عاصرت فيها ميلاد أشياء جديدة، وفقدانات أخرى، كان كل شيء يقترب من الموت في المدينة التي طالما تغنى بها جميع اليمنيين، ونظروا لها على أنها رائدة في إنتاج العقول، أسواق قذرة ومكتظة، مجانين كثر، ووجوه تقتلك من تكرار حضورها. لم أعب على المدينة نعاسها، ولم أستكثره، لأني كنت أنام أكثر منها، وربما كنا جميعا في المدينة نمارس عادات ثلاثا، النوم، والأكل، والملل، وفي الليل تمتلئ الأرصفة بالمخزنين، ونصحو على جريمة جديدة، واسم جديد لشارع يبدأ بالشهيد فلان، وبقعة دم لاتزال تلتمع. في الآونة الأخيرة من وجودي في تعز، عملت برفقة أحد الزملاء، وفجأة أحتج على الوضع بطريقته، لقد توقف عن الكلام، حاول كل المقربين منه أثناءه عن ذلك، لكنهم لم يجدوا بد من تركه يمارس طقوسه. في موسم جديد كان صديقي قد أكمل دورة الجنون، ولطبيعتي السيئة في التقرب إلى المجانين، ظل صديقي، وزارني في أوقات متفاوتة، وحكى لي من أحاديثه السريالية والغريبة، وعندما أجد نفسي منشغلا بواجباتي الجامعية، أعطيه قلما وأقول له أكتب لي ما الذي تريد أن تقوله، وسأقرؤه وقتا آخر. كتب لي كثيرا، ولأن كتابته كانت لا تعني لي سوى الهرب من مشاغلته لي، لم أفكر بالذي كان يكتبه، حتى أتى الصباح الذي صدمني بمفاجأته، لقد انتحر، وأختار منتزه الصالح خارج المدينة للقيام بفعلته، وقالت صحيفة الجمهورية أن الأمن وجد على صدره ورقة كتب عليها، قصيدة إلى عوالم السعادة. لم أمتلك الشجاعة الكافية لأقرأ ما كتبه صديقي المجنون من مذكرات حتى اليوم، وربما خفت أن يكون قد ألمح إلى كونه سينتحر، وشعرت أن ذلك سيعمق عندي عقدة الشعور بالذنب. لم أنس صديقي، وقصص أخرى فاقت ما يمكن أن يخلقه خيالي من غرابة، حتى لكأن المرء سيصحو، وقد تحول إلى قصة طويت في أزقة المدينة، أو أن شارعا ما قد تسمى باسمه. في نهاية يناير نزلت مدينة تعز، وقبلها كنت أشارك مع مجموعة من الشباب في الثورة الطلابية السلمية، وكان نزولي للتخلص من الضغط النفسي الذي يولده قلة النوم، ومواجهة بلاطجة الحزب الحاكم. لا أدري لماذا شعرت أن تعز ستوفر لي فرصة لالتقاط أنفاسي ومعاودة العمل، وعندما وطئت قدمي الإسفلت تسلل إلى رئتي نسيم عليل، وفكرت خلسة أن هذا ما كنت أريده بالفعل، كان أوكسجينها نقيا، وباعث على الطمأنينة، وغير ذلك كان هوس الناس بالسياسة مريعا.