في ليلة لا تشبه أخواتها، حظيت شاشة التلفاز بإقبال الجميع عليها، في انتظار أن يُفرَج عن الحقيقة التي ضاعت بصورة مجهولة، وتركت للجدل خلفها حرية العبث وملء الفراغ، غير آبهين أولئك الذين أخفوا هذه الحقيقة بقسوة الافتراضات والتخمين على الذهن، المتعَب أصلاً من جور الحياة. غير أن هذه الليلة سرعان ما سلبوها عنصر المفاجأة، ورسموا له موعداً آخر، في ليلة قد تكون مختلفة، وبات الجميع يتجاوزون هذه الليالي التي تتكرر فارغة من كل شيء، إلا من الكذب المصبوغ بأعذار طبية حالت دون تحقق الإطلالة المرتقبة لفخامة الرئيس، رغم أن فريقاً كبيراً من هذا الشعب، لم يعد يعنيه ذلك، إلا أن الأمر يظل ذا أهمية لأن ما يترتب عليه قد يخطو بالتغيير مسافة نحو الأمام، أو قد يعيد العملية إلى طاولة لم تتعود انجاز شيء. غير هذا وذاك يلح على الوعي سؤال استفزازي فحواه: إلى أي حد استطاع النظام أن يستغل عقول كثير من بسطاء هذا الشعب، حتى أنبت فيها ما يبذره من إشاعات وكذب وتدليس تجعله يتحكم بعواطفهم ومواقفهم، في فترات حرجة كهذه، بينما تبدو هذه الكذبات بسيطة وباهتة، إلى حد اعتقاد أن ليس بإمكان النظام أن يمررها على أجهل الناس، وبالذات أنها تأتي بما لا يدلل على صدقها، وفوق ذلك يرافقها سخرية وجرأة وتخبط، وخير من يقدر على ذلك نائب وزير الإعلام المدعو عبده الجندي. بعيداً عن هذا... لماذا نحن شباب الثورة نشارك الآخرين الانتظار؟ رغم أن علي صالح أصبح في عرف الثورات بحكم المنتهي، بمعنى آخر ألم تكن الثورة على مقربة من غايتها، قبل مغادرة الرئيس لليمن، بينما عادت هذه الحادثة بالخطوات إلى مربع التفاوض وهي عودة أتاحت للاعبين كُثر، فرصة التدخل وحولوا مشهد الثورة الذي يعج بالحياة إلى احتضار يتكرر بلا ملل، أعاد لبقايا النظام القدرة على التمسك بالسلطة والتحكم في مصالح الناس وحاجياتهم.
أنا لا أتشاءم هنا، لكني كغيري يستفزني ويؤذيني هذا التواطؤ الخارجي مع بقايا النظام في أسلوبه القذر حين يستقوي بحاجة المواطن عليه، رغم أنه لا يملك أدنى شرعية تجعل الأطراف الدولية المتدخلة تضعه في الطرف الآخر من الحوار! أليس من المعيب والمعيب جداً أن تظل كافة القوى الوطنية المنضمة للثورة، تحت رحمة هذا التواطؤ؟ أكثر من ذلك أليس من المخجل أن يكون الجهل بحالة صالح الصحية سبباً في مزيد من التأزيم السياسي والمعيشي؟ هذا إذا تجاهلنا العيب الأكبر والمتعلق بعدم معرفة هذا الشعب بأكمله، وكل فرقاء العمل السياسي بحالة رئيسهم؟ كل هذا وأكثر انحرف بعيداً بأحلامنا، وشغلنا عن اختصار الطريق، وبات البعض يتطلع إلى أدنى مراتب الانتصار،لهذا الحراك الشبابي المحارَب بلا هوادة من بقية الأطراف. ربما انتقدت يوماً ما غيري على هذا الاستعجال والتشاؤم، لكني أعتقد الآن أن من المهم جداً لهذه الثورة أن لا تربكها مثل هذه الأحداث الطارئة، وعليها أن تحمي مسارها عن طريق تفويت كل فرصة تسمح بتثبيط الشباب، أو استيائهم من استلام المفاوضين ملف الثورة والتردد به على أبواب السفارات، حتى لا تتحول إلى هدف لأعدائها بعد أن كانوا هدفها. لقد بدأ النظام هجمته المرتدة، رغم أنه أنهى كل أوراقه لكنه عاود المواجهة مستعيناً بعاملين اثنين: التواطؤ الخارجي، وخلق عداء المواطن للثورة من خلال حرمانه مقومات الحياة التي بات ينظر إليها كثمن إضافي باهظ لم يكن ضمن الاتفاق. لا أشك في أن التغيير قادم، لكني أثق في أنه تغيير مشوه ومسبوق بأزمات تتفاقم في وجه المواطن، مما يجعل عملية الإصلاح المنشود مكلفة وعسيرة بعض الشيء. الجميع يُطَمئِن الكل، والكل يتذمر، ومهلةٌ تسْلم نفسها إلى أخرى، والمخاض يضاعف الألم، ورمضان يطرق الأبواب، والروح تتأهب للصفاء كعادتها في كل عام، فهل سيتحقق لها ذلك أم سيدخل رمضان على الوطن وهو يسبح في الوجع..؟