اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    الضربة القاضية في الديربي.. نهاية حلم ليفربول والبريميرليغ    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    اليمن: حرب أم حوار؟ " البيض" يضع خيارًا ثالثًا على الطاولة!    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    وفاة نجل محافظ لحج: حشود غفيرة تشيع جثمان شائع التركي    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    شبوة تتوحد: حلف أبناء القبائل يشرع برامج 2024    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    شكلوا لجنة دولية لجمع التبرعات    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    24 أبريل.. نصر تاريخي جنوبي متجدد بالمآثر والبطولات    الرياض.. أمين عام الإصلاح يستقبل العزاء في وفاة الشيخ الزنداني    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    رئيس الاتحادين اليمني والعربي للألعاب المائية يحضر بطولة كأس مصر للسباحة في الإسكندرية    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عرق الآلهة .. سلطان الصغير (*)
نشر في التغيير يوم 12 - 05 - 2007


(1)
كنتُ أشعرُ، منذ عناقِ حنايا في غرفتها بفندق دانييلي بفينيزيا قبل 3 أيّام، أن شيئاً محوريّاً في حياتي يتغيَّرُ جذريّاً لحظةً بعد لحظة!... هذا العشقُ
الذي كان هوائيّاً، روحيّاً، أضحى الآن عضويّاً، يسكنُ الأنسجة! ثلاثة أيام من العيش معاً جعلَتْ إعجابي بها وعشقي لها يتجاوزان كل إعجابٍ وعشق. لعلَّ ترمومتري الأدق لقياسِ ذلك هو ممارسةُ الحبّ (الذي يستحيل عليَّ مقاربتُهُ إن لم يكن مفعماً بالعشقِ القويِّ الصادقِ الخالص...)
مثلها تماماً، أعشقُ التوحُّدَ معها بجنون. لا نودُّ التوقُّفَ عن هذا المنسكِ المقدّس... تقول لي: «لو كنّا نعيش مع بعض لقضَّينا كلَّ وقتِنا توحُّداً!...» أهامسُ نفسي بعفويّةٍ وخجَل: «ثمّة أيام الدورة!...» ثمّ أراجعُ نفسي غيرَ متأكدٍ أن عنفوان انجذابنا سيضمحِلُّ كثيراً في تلك الأيام... الحقُّ، لم أشعر يوماً بمثل هذه الرغبة العاصفة التي لا تتوقّف، وكأنا كنّا نحاول أن يلتحم جسدانا أبداً، وأن نستعيد ب«أثرٍ رجعيّ» كل السنوات المهدورة التي سبقتْ هذه الأيّام الثلاث...
غير أني لا أعرف شيئاً تقريباً عن حياة هذه المعشوقة التي صارت تأسرني وتمتلكني كلّاً بعد أربعة سنوات من لقائنا الأول في المجمع العلميّ بضاحية أورسيه الباريسية! أجهلُ كلّ تفاصيل سيرتِها تقريباً، باستثناء الشذرات النادرة التي حكتها لي باقتضاب وكتمان في لقاءاتنا السابقة في الدعوات والمؤتمرات العلميّة...
سيتغيَّرُ كلُّ شيءٍ الآن! حنايا تمدُّ لي أوراقَ البوحِ التي كانت مُنهمكةً بكتابتها قبل 3 أيّام، بانتظار وصول عاشقها الأبديّ لِغرفة الفندق. لم أستطع إخفاء لهفتي وعجلي لقراءة هذه الأوراق الجميلة المنسوخة بالحبر الفينيزي الأزرق، بِخطٍّ رهيفٍ مُكتظٍّ كأعشاب مرجانية. خطُّها ليس جميلاً بالشكل المتعارف عليه (هو أقرب لخطِّ فنانٍ منه لخطِّ أستاذٍ في مدرسةٍ ابتدائية)، لكنه شديدُ الاتساق، شديدُ التميُّزِ بأحرفه ذات العراجين الراقصة، شديد النقاء والرقّة... يبدأ بالتالي:
((أنتظرُ وصولك، عِشْقي! هاأنذا منذ أكثر من ساعتين أتنقَّلُ، داخل هذه الغرفة الفارهة، بين رؤوس مثلثٍ محتدمِ الأشواق: 1) سريري الذي أستلقي عليه لأواصل كتابتي، بانتظار مجيئك، 2) ركن الغرفة على يمين السرير حيث أُذكي شذرات بخورٍ مُنقّعٍ بالعطر، أعرفُ كم تُحبُّه كثيراً 3) ونافذةُ الغرفة التي أحدِّق منها طويلاً في زرقة بحيرة اللاجونا ومنحنيات رقصات النوارس...
ما أصعب البوح عندما يقف الخوفُ بعبعاً في مدخل الحنَك! ما أضنى كشف خفايا الذات عندما تتحوَّلُ الأليافُ العصبية لمفاصل اليد إلى أسلاك شائكة! الخوفُ غولٌ يلتهمني منذ الصغر! بسببه عتَّمتُ عليك حياتي وأخفيتُ عنك كل أوجاعها ومنعطفاتها وأسرارها... أحتجتُ لكلِّ هذه الأربع السنين لأهزمهُ أوّلاً، قبل أن أصلَ إلى هذه اللحظة الكريستالية التي أنوي أن أسرد لك فيها حياتي من طرفها إلى طرفها... سأسردها بنفس تلقائية وشفافية رسائلنا، بنفس لغة الحبّ والصدق التي تنهمرُ رائقةً مدرارةً في مراسلاتنا ودردشاتنا اليومية على أنترنت. تعرفُ مثلي حبيبي: لغةُ العشق سيلٌ من الكلمات الرقراقة التي لا تحتاج إلى رتوشٍ أو تلميعٍ أو تنميقات...
هاأنذا الآن، عشقي الخالد، أحدِّق طويلاً من شرفة النافذة بانتظار مجيئك! الشمس تغادر رويداً رويداً مركز السماء باتجاه الأفق. بعد ساعات ستغرقُ في صدْعِه، ستودِّعُ نصفَ الكرة الأرضية نحو نصفها الآخر. شيءٌ ما سينقلب أيضاً في حياتي رأساً على عقب في نفس تلك اللحظة! شيءٌ ما في حياتي سيدور 180 درجة بالاتجاه المعاكس! لا تستطيع أن تتخيّلَ حبيبي كم أخاف من ذلك كثيراً وكم أهفو إليه في نفس الوقت!...
أعود نحو السرير من جديد. أعرف أني لن أرفضك هذه المرة! أشعر كأني أستقيم الآن على كرسيٍّ رابطةً عُنقي بِحبلٍ وثيق. أفكِّرُ بهوس في تلك الثانية القدريّة الصغيرة التي سأركل فيها الكرسي ليهرول نحو مرقص العدم!... أرتجف لمجرد تصوُّرِها! أنتظرها بقلقٍ ورغبةٍ في نفس الآن!...
كي أحيا من جديد يلزم أن أموت أوّلاً!...
كي أحلِّق في الفضاء يلزم أن أتحرّر من قيود الجاذبية الأرضية!...
تعبر أمامي وأنا استلقي الآن على السرير بانتظارك كلُّ سيرةِ حياتي التي تجهلها تماماً! تتداخل عدّة أسئلة في رأسي في هذه اللحظة: كيف تفسِّرُ سلوكي معك في كلِّ لقاءاتنا السابقة؟ أتعتقد أني أستغلّكَ لِمُتعتي الصغيرة لكني لا أمتلكُ الرغبةَ في عشقكَ والتوحُّد بك والفناء في أحضانك؟ أأبدو في عينيك أنانيةً، ساديّةً تتلذّذ بِجرْحِك وتعذيبك واصطلائك بِلاءاتٍ صمّاء جنونية؟ كيف صمدتَ بجانبي وصبرتَ عليّ رغم صعوبة الحياة معي بسببِ شِدّة حساسيتي المفرطة؟ لماذا نقتربُ من بعض أكثر فأكثر رغم المسافة والماضي الذي يفصلنا؟ لماذا يتحوّلُ كلٌّ منا منفى الآخرِ، مَرْفَأه، ووطنَهُ المفضَّل؟ لماذا يلتهمنا هذا العشق الذي ينمو يوماً بعد يوم ولم يعد ثمّة شيءٌ يتوقّف في طريقه؟...
أعود من جديد لشرفة النافذة لأهربَ من معترك هذه التساؤلات! أثارتكَ دوماً علاقتي بنوافذ الغرف التي التقينا بها، لاسيما في لقائنا الأخير في ضاحية أورسيه الباريسية! تساءلتَ عن سبب رغبتي الدائمة بالوقوف في النافذة للتحديق طويلاً في الأفق والفضاء والإصغاء لموسيقى الصمت والعدم! اعلمْ حبيبي أنها عادةٌ تأصَّلتْ وترعرعَتْ منذ طفولتي! كنتُ أهربُ بفضلها من آلامي، أسافرُ خلالها في عوالم خيالية (اخترعتها لسعاداتي الصغيرة) لا تشبه في شيء عوالم الواقع الكئيب... ثمّ اعلمْ عشقي أني قضَّيتُ كلَّ عمري واقفةً أمام نافذةِ غرفةٍ تحتلُّ مركز تفكيري الآن! غرفتي القابعة في قصر عمّي سلطان بوالحديد في مسقط! هي البؤرة التي انسجنَتْ فيها كل حياتي، الجذور التي شكّلتني ولم استطع التخلص من سجنها حتى اللحظة، المحور الذي تدور حوله كل تأملاتي وذكرياتي. فيها أغيب عندما تراني أحدِّقُ في البعيد، منها أبدأ وإليها أنتهي...
لأبدأ بوحي إذن من بدء البدايات، من هذه الغرفة، أو بالأحرى من ذلك القصر!...
(2)
القصر مساحةٌ تتجاوز الحدَّ البشري، يحيطها سورٌ هائلٌ قبيح من الخرسانة المسلّحة بالجرانيت والمغلّفة بالرخام، يحجب كلَّ شيءٍ في القصر عن الخارج تماماً.
القصر ثراءٌ صارخٌ فاحش، دون بُعْدٍ جماليّ، دون إبداع، دون تاريخٍ أو جلالٍ ما. قصرُ بدوٍ خرجوا من وعثاء الصحراء ليغتسلوا فجأة بأمواجٍ من دولارات البترول، وأمطارٍ من القطع الذهبية... مئات الخدم في كل مكان، طباخون، منظفون، مخبرون، ماسحو أحذية، عساكر، سائقو سيارات، أتباع ومرافقون وحاشيات...
القصر فيلات فارهة متصلة ببعضها بممرات وسلالم كهربائية (كأنك في مطارٍ أو سوبرماركيت!)، عمارات رسمية عديدة تراقب وتدير بشكلٍ رسميّ أو غير رسمي كل أمور البلد، سلطنةٌ داخل السلطنة تنطبخ فيها كل السيناريوهات، تتنصّتُ لكلِّ همسةٍ ولمسة، تتَّصِلُ بشكلٍ مباشر ببورصات العالم وأهم إداراته الأمنية والسياسية والمالية...
القصر لا يخلو من خِيامٍ بدويّة الكترونية شاسعة، تُحيطها الجِمال في تصميمٍ يُشبِهُ البادية، معدّة للحفلات واللقاءات العامة، لأفراح وأتراح سكان القصر وحشمه... قطائف اصفهانية في كل رواقٍ وغرفةٍ وخيمة. صالاتُ مطاعم ومسابح وقاعاتٌ للبولينج والألعاب الالكترونية... مئات الشاشات التلفزيونية والسينمائية من آخر طراز تتوالى ببذخ في كل غرفةٍ ورواقٍ وخيمة. صالاتٌ زجاجية بالأضواء الالكترونية يمارس فيها سيّدُ القصر هوايته الأرستقراطية المفضّلة: جمع السيارات القديمة أو الفخمة النادرة... غابات نخيل طُرِّز سعفُها بالمصابيح الكهربائية لتكون شعلةً من الضوء، هيكتارات لِركوبِ الخيل والفروسية، مراعٍ للحيوانات والطيور النادرة، ومطارٌ خاص لربِّ القصر، الأفعوان الأكبر، عمّي العزيز سلطان بوالحديد...
القصر أقبيةٌ عميقة، شديدة السريّة، تخفي أرشيفات حسّاسة عن الحياة الخاصّة لأهل السلطنة لاسيما النافذين منهم، مستودعاتٌ لأرقى النبيذ وأفضل الكحول، لأفخر سيجار كوبا، ولأنواع مختلفة من الملذّات والرفاهية الفاجرة...
القصر يخلو من الكتب والمجلدات! أشجاره وآثاثه وبلاطه وقطائفه بلا ذاكرةٍ أو تاريخ. ثمّة بيانو واحد في بهو أحد قاعات الاحتفالات يعزف عليه كلَّ مساء شابٌ إنجليزيٌ مستوردٌ لهذه المهمة فقط...
القصر عائلات متشابكة تتداخل بزواج الأهل والأقارب بشكلٍ شديدِ التعقيد والبدائية والحشبكة، تعيدُ خلق نفسها من جيلٍ لجيل بقبحٍ أكبر، بمزيدٍ من البلادة والضعفِ والكسل. كلُّ من في القصر عمٌّ لي (حتى اثبات العكس) أو نسَبٌ من ذات القبيل. مع ذلك، لم يتوقف جميعهم عن تسميتي «بنت الغريبة» لأن أمي انجليزية! يحبّوني وأحبهم بالتأكيد. هم أهلي وذوي رغم عدم ميلي لهاتين الكلمتين الفضفاضتين. أتشاطر معهم نصف جيناتي في كلِّ الأحوال. ثقافتي، لغتي، وضحكات طفولتي تشكَّلتْ بهم، منهم، ومعهم. لكني لم استسغ منذ المهد نمط حياتهم! ثمة جينات في تركيبي كانت تتأفف من طقوس حياة القبيلة، ترفض على الدوام أن تنتمي لنفس القطيع، لنفس الجوقة التي تلغي الفرد وتصهر الذات في مَتْنِها باسم العِرْق والحسَب والنسَب!...
النفاق دين القصر. الكلُّ يحبُّ الكلَّ ويكرهُه ويمدحُه ويحسدُه ويسبُّهُ في الخلف. ثمّة خصوماتٌ وثأرٌ لا ينام في الصدر، بين هذا وذاك. أحقادٌ صامتةٌ تظلُّ متأججةً تحت الرماد. لا تظهر على السطح إلا الابتسامات الكاذبة، الود والتفخيم والمدح والنفاق، والحبّ الأسري الفضفاض المتطرّف. الكلُّ يخضع لجهازٍ خفيٍّ يقمع الذات ويشجّع على الكذب والنفاق والمغالطة. جهاز ساهمت في تأسيسه التقاليد والأعراف والدين والعلاقات العائلية وثقافة الإذلال والخضوع والكسب السريع، وضرورات النفوذ والسلطة والغناء الفاحش...
القصر سجنٌ عشتُهُ سنوات طويلة ولم أستطع أن أفلت من خنقهِ وتداعياته حتى الآن! نافذةُ غرفتي فيه كانت متنفسي الوحيد على العالم! منها كنت أحدِّق طويلاً في سماء مسقط الزرقاء وسحبها البيضاء النقية. أهرب فيها من كلِّ ما كان يواجه نافذتي من خريطة القصر: نافورةُ الماء الرخامية أسفل غرفتي صارت منبعاً لضجيجٍ لم أعد أحتمله! الخيمةُ الهائلة المواجهة للغرفة يساراً أضحت تثير تشنُّجي: تمنّيتُ ذات يوم (بعد جُرْحٍ لن يندمل، سأحدثك عنه، عشقي الخالد، بعد قليل! جُرحٍ دمَّرَ حياتي! لعلّك تدفع أنت الآن أيضاً بعض ثمنِهِ بشكلٍ أو بآخر!) تمنّيتُ أن أرى سُكَّان القصر جميعاً متكدِّسين داخل تلك الخيمة، بعد أن أضع أسفلها طاقماً أنيقاً من الديناميت والقنابل!... جاراج السيارات الضخم المواجه لغرفتي يميناً أمقتهُ بشكلٍ متميّز: منه تنطلق سيارة الليموزين الفارهة التي تقلني للمدرسةِ مُحاطةً بالحرس، واليه تعيدني بعد ذلك! تصوَّرْ حبيبي: هكذا قضَّيتُ سنوات طفولتي: لا صلة لي بالعالم الخارجي، إلا أثناء الذهاب إلى المدرسة فقط، محاطةً بالحرس!...
الرقابة حولي كانت في أوجها بشكل خاص. كاميرات خفيّة في غرفتي تتنصَّتُ عليّ. تلفوني مراقبٌ على الدوام. لا أستطيع الاتصال خارج القصر. الإتصال بأمِّي في لندن أكبر المحرّمات وآخر المستحيلات!
كنتُ أسكنُ في نفس طابق بنات عمي سلطان الذي كان يُعاملني كإحداهنّ دون شك. لا يفرِّقُ بيني وبينهنَّ في شيء. ربّما لِحبِّهِ لأبي، شقيقه الأثير، الذي غدر به مع ذلك (عندما هرب من العمل الديبلوماسي ليعيش مع معشوقته الإيرانية في ضيعةٍ كاليفورنية). أو ربما لأني تلك التي كان بإمكانها أن تكون بنت حُبِّهِ الوحيد عندما كان طالباً بلندن، لولا أن أمّي فضَّلتْ عليه أبي! من يدري، لعلّهُ انتقم من أمّي في الاستيلاء عليّ ك«رهينة» في قصره واعتبر ذلك تعويضاً ل«كرامته» الجريحة!...
ما أسوأ حياة أمي وما أغزر خيباتها! هي أيضاً ضحيّة النفاق والكذب، منذ مولدها! وُلِدت في لندن إثر حبِّ قسيسٍ كاثولوكي ايرلندي لِشابة انجليزية! قد يبدو ذلك اعتياديّاً جدّاً، لا يستحق الذكر، لولا أنه يحرَّم على القسيس أن يتزوج ويمارس الجنس في دين المسيحيين الكاثوليكيين!... فضيحةٌ كبرى لزم إخفاؤها!... ليواصل العاشقان حبَّهما السري، تخلّصا من مولودتهما بعد ولادتها بإعطائها لامرأة طيّبة فقيرة!...
عاشت أمي طفولتها في ظروفٍ شديدة الشحّة. كي تكسب حياتها وتواصل دراستها لم تتوقّف عن العمل والمثابرة والسهر! تعرَّفتْ على أبي في الجامعة في حفلةٍ طلابية غنائية يسارية لدعم حركات التحرر في العالم الثالث. كانت أمي مناضلة يسارية شديدة الحضور في القطاع الطلابي الجامعي. كانت أيضاً آسرةً، كثيرةَ الجمال! أحبّت أبي رغم أن عمّي تعرف عليها قبله، حاول التقرُّبَ منها كثيراً، ومغازلتَها بكلِّ الطرق...
بعد تطوّرِ حبِّهما وعلاقتهما عاش والدايّ في شقّة مشتركة بلندن. مثل كل الشباب الثوريين، ومعظم جيل ما بعد ثورة 1968 الشبابية في أوربا، فضّلا الحياة المشتركة دون وثيقة زواج!... ثمّ قرّرتْ أمي أن تسافر مع أبي لعمان عند مغادرته لندن، وأن تسانده في نضالاته الثورية لإسقاط النظام!
دفعت أمي الثمن غالياً عندما تخلّص منها والدي في عمان، بدعمٍ وتدبيرٍ وتخطيط من عمّي. عادتْ خالية الوفاض للندن. لم تستطع رغم كل جهودها استعادتي أو حتّى رؤيتي، لعدم وجود اثباتٍ رسميٍّ بأنها أمي! (ثمة بشرٌ يعشقهم سوء الطالع وتهواهم الخيبات والهزائم مدى العمر!). ناضلت أمّي طويلاً لاستعادتي، عبثاً! قبل أن يحدث لي ما سأحكيه لك بعد قليل: زواجي بشهاب، «سلطان الصغير»!...
عندما أضعتُ أمي، كنتُ في الثامنة من العمر. كنا نعيش معاً في صلالة في قصر جدّي الذي خلّف تسعة وثلاثين إبناً من زوجاته السبع! (كانت تلك السنوات برفقة أمي في صلالة، مدينتي المفضلة، أحلى سنوات حياتي قاطبة). بعد سفرِ أمي، ومغادرة أبي للعمل سفيراً، انتقلتُ للقصر الجديد لِعمّي، في مسقط... فراق أمي واختفاء كل أخبارها وما تلاه من حملات عدائية ضدها ومن غسيلٍ سلفيٍّ لِدماغي ورقابةٍ دائمة، كانت أول جراح حياتي التي ستكون مرتعاً خصباً للجراح كما ستلاحظُ بعد قليل...
مالم تدركه أمي إلا متأخراً جدّا هو أن أبي (الثوري المتمرّد) وعمي (القبليّ الرجعيّ) نسختان من نفرٍ واحد!... فرغم كل ما يقوله عمي عن أبي من نقد وسبّ، رغم تذكيره المستمر بماضي أبي الثوري الماركسي وبلامبالاته وعدم احترامه للتقاليد والأعراف وتمرده الدائم، رغم ذلك هما توأمان حقيقيان، بشكل مذهل لا يخطر على بال!...
اكتشفتُ ذلك في العاشرة من العمر عندما كان أبي سفيرا في فرنسا (بعد أن أغراه عمّي بالتنصّلِ من الثورة العمانية والغدر بآخر مناضليها). زاره عمي ذات يوم، بشكل مفاجئ، أثناء رحلةٍ سريّة متعدِّدة المآرب قام بها إلى باريس، وأخذني معه إليها لرؤية والدي!
تخلَّص عمّي من حرسه بعد وصولنا مطار باريس، وتوجُّهِنا إلى فندق أرستقراطي فخم في ساحة الكونكورد. أتصل بأبي ليقول له إنه وصل فرنسا في زيارة مفاجئة خاصة، غير رسمية، وحدّد موعداً معه في شارع الشانزليزيه، أمام مقهى الدروجستور، على أقدام «قوس النصر»! لم يقل أكثر من ذلك!...
لن أنسى طوال حياتي ذلك اليوم! كانت سعادتهما بلقائهما تفوق كلّ سعادة! وصلا المقهى بنفس اللباس تقريباً دون ترتيبٍ مسبق: عمِّي، حامي حمى الأعراف والدين والتقاليد، تخلَّى عن زيّه العماني التقليدي. وأبي تخلَّى عن ربطة العنق والبدلة الأنيقة الرسمية! وصلا يرتديان قميصين بنفس اللون، بنفس الزرارين المفتوحين في الأعلى، بنفس السلس الذهبي المكشوف في الصدر!... لبسا نفس البنطلون الجينز، نفس النظّارة الشمسية السوداء التي تحجب نصف الوجه عن العالم!...
هما هنا دون رقيبٍ أو عتيد، خارج كل موعدٍ حكومي أو رسمي، في لحظة طفولية نادرة جدّاً، بديا خلالها سعيدَيْن بشكلٍ لن أنساه مدى العُمر!... هما هنا بعيداً عن الحرس، القبيلة، الأعراف، عن الأدوار الرسمية، عن الحقوق والواجبات، عن ألقاب الفخامة والمعالي وسعادة السفير... لحظة نادرة لم اعرفهما فيها، تخلّيا فيها عن كلِّ قناع!...
لم أعرف عمّي، ذلك الذي عندما أسمع كلمة: «طاغية» تبادر صورته إلى دماغي حالاً، ولا أبي، الذي كلّما أسمع كلمة: «ممثل سينمائي» تبادر صورته هي الأخرى!...
هما مراهقان هنا في وضح النهار، في ركن خفي في طرف الشانزليزيه، يقرعان كؤوس ويسكي الشيفاز، يغازلان نفس الجارة الشقراء في الطاولة المقابلة، تتابع عيناهما بشراهة أجساد نفس الحسناوات وهنّ يعبرن الشارع!... يقهقهان بهستيرية أحياناً، يسخران من كل شيء في الوجود: من أبيهما، من البلاد، الدين، الإله، السلطان، زوجاتهم، مني، ومن نفسيهما!... كفرٌ لا يخطر على بال من حامي حمى الدين في هذا البلد ومن شقيقه العزيز، الممثل الرسميّ للدولة! لم أرهما سعيدين كذلك اليوم مع ذلك!
(3)
طوال حياتي في القصر لاحظتُ كم كان عمّي يحب أبي ويحنُّ لرؤيته! لعلَّهُ لذلك كان يتَّصل بي يوميّاً ليسأل عن أخباري واحتياجاتي مهما كانت مشاغله وأتعابه! لعلي أيضاً كنتُ أحبّ عمّي سلطان بشكلٍ أو بآخر، وإن كنتُ أشعر أحياناً بالخجل من ذلك!...
- كم علامتك في امتحان الرياضيات الأخير؟، سألني ذات يوم!
- 99 من 100!
- سأتصل حالاً بمدرستك لتحويلها إلى 100 من 100، سأتصل الآن!
- لا، لا داعي!... (هو واثقٌ أنه يستطيع تحقيق كل رغباته في الحياة بمجرد الهسّ على أرقام لوحة مفاتيح تلفونه!)
- ماذا تحتاجين إذن؟
- لاشيء، لاشيء!...
قطعاً، لم أقل الحقيقة! كان بودّي أن أردّ عليه: «أحتاج أن أهرب منك! أن أرحل نحو الأرض الموعودة، أرض حريّتي! أحتاج أن أرى أمي بعد هذه السنين! أحتاج أن أخرج من السجن!»... من هذا السجن الذي يحكمهُ جلّادٌ أنيقٌ يعرف كيف يوجِّهُ أسئلته بطيبةٍ وإغراءٍ واهتمامٍ يُذكي نرجسيةَ الآخر. فسؤاله عن الرياضيات بالذات لم يأت من باب العبث! كان يعرف كم أنا مغرمةٌ بها منذ طفولتي! ربما لأنها أيضاً أروع وسيلةٍ للهروب منه، من القصر، ومن حياتي الشقيّة المخنوقة...
بدأ عشقي للرياضيات في مدرستي الإعدادية النموذجية في مسقط. كان لنا مدرِّسُ رياضيات عراقي متميّز، درس في أمريكا. كان يقدِّم دروسه بسعادةٍ جليّة، بِلغةٍ أدبيَّةٍ أنيقة، بشغفٍ صوفيٍّ وبراعةٍ نادرة. لاحظ مدى متعتي أثناء حصص الرياضيات، وشدّة سرعة تجاوبي معه وردّي على أسئلته. شجّعني كثيراً. لكنه فوجئ ذات يوم بمبادرة لم يوجّهني إليها، لم يتوقّعها، أو تخطر بباله!
حملتُ له ذات صباحٍ ربيعيٍّ دفتراً جميلاً، لم أتفنَّن أو أتغزّل يوماً في نقش صفحاتٍ كصفحاته. ملأته ببراهين ابتكرتها لوحدي لنظريات الهندسة الإقليديسية التي تعلّمناها في تلك السنة، تختلف جذريّاً عن براهين المقرَّر المدرسي. اكتشفتُ لبعض تلك النظريات أكثر من برهان أيضاً!...
قضّيتُ ليالٍ طويلة أفكّر في اختراع تلك البراهين، أقولبُها وأقلِّبُها في كلِّ الاتجاهات، أصيغُها بلغةٍ رياضية أنيقة، أنسخُها بتأنٍ وحبٍّ واتقانٍ مثالي... كنتُ سعيدةً وفخورةً إلى حدٍّ ما بما عملته. أعتبرتُهُ مع ذلك حدثاً غير ذي أهميّةٍ عالية، لولا أن تفاعل مدرِّس الرياضيات واستقباله لعملي أذهلني كثيراً وشدّ من حماسي وحبي لهذه المادة...
بدأ حصة الرياضيات ذات يوم قائلاً إن لديه تصريحاً «تاريخيّاً» خطيراً دعى لِسماعهِ مدير المدرسة وبعض مسئولي أكاديمية العاصمة! قال أمام الملأ بصوتٍ احتفاليٍّ وتهيئةٍ مُخرَجةٍ بعناية: «تعرَّفتُ خلال حياتي الطويلة على إثنين لهما مواهب استثنائية في علوم الرياضيات! أحدهما كان زميلاً لي في المدرسة الثانوية في بداية الخمسينات في بغداد، درس معي في أمريكا أيضاً. هو الآن أمريكي الجنسية وأحد أهم الخبراء الاستراتيجيين في الجيش الأمريكي في علوم الرياضيات التطبيقية وتصميم الأسلحة الاستراتيجية! والثاني...»
قبل أن يُعرِّف بالثاني، فتح دفتري الذي أعطيته قبل أيام من ذلك! أحمررتُ حال رؤية الدفتر، أزرققتُ أيضاً وتضرَّجتُ بكلِّ ألوان قوس قزح ربما!...
أدركتُ مع مرّ السنين كم أعشق الرياضيات حقّاً، كم أعتبرُها موسيقى الوجود، دماغَ الكون! كنت أرى كلّ شيء في الحياة قابلاً للتجريد الرياضي! آمنتُ مع مرّ السنين أنه يمكن كشفُ وتحديدُ وسردُ كلِّ كينونةٍ في الوجود بِلغة الرياضيات، عبر دالّاتها ومعادلاتها ونمذجاتها ومفاهيمها المتأقلمة مع كلِّ كينونةٍ ماديّةٍ أو روحيّة! لا يهمّ أن تكون الكينونة نسمةً أو عاصفة، إلكتروناً طائشاً أو مجرّة، مساراً حلزونيّاً أو إهليجيّاً، حزناً عميقاً أو نبضة عشقٍ جيّاشة، بركانَ غضبٍ أو قُبلةً عميقة، عفريتاً هائجاً أو نملةً تتسكَّعُ على خرطوم فيل!... لا يهمُّ أيضاً أن تكون الدالّات والمعادلات متناغمةً كرقصة فالس، عشوائيةً كرقصة رووك، أو رتيبةً كرقصات الموسيقى الالكترونية. هي وحدها ما يُجلي ويُحدِّد أسرار الأشياء وأشكالها، طبيعتها وتجلّياتها، سيرورتها وصيرورتها... هي روحُ الأشياء، رمزُها وكلماتُها المستخدمةُ في لغةِ ودماغِ الإله!... أيقنتُ تماماً أنه بدون الرياضيات يبدو الكون عُتمةً داكنة، وتصبح الحياة أشبه ب«عمياء تُخضِّب أصابع مجنونة»، حسب المثل الشعبي...
كانت الرياضيات منذ تلك الأيام جنوني اللذيذ، ملاذي الآسر، هوسي الخالد! لعلّها، ربما، أجملُ متعةٍ يمكن ممارستها في السجن!... بالنسبة لي كانت أفضل أفيونٍ مباركٍ خدَّرَ دماغي وسمح لي بالعيش بعيداً عن القصر الذي كنتُ أحيا في قدسِ أقداسِه مع ذلك. بفضلها مرّت سنين حياتي فيه أقل وحشيّةً ووطأةً وكآبة!...
ثمّ كنتُ أعرف أيضاً أن دفاتر الرياضيات، التي أملأها يوميّاً بشغفٍ وحبٍّ وفير، لا تُهمُّ خفافيش القصر كثيراً! لا يُفتِّشها جنود ظلماته إطلاقاً كما فتّشوا ذات يوم دفتر يومياتٍ شرعتُ في كتابته سرّاً وأنا صغيرة! عثروا على يوميّاتي التي أخفيتُها بعناية بين أمتعةٍ وأوراق، في مكانٍ يستحيل اكتشافه!... استدعاني عمّي لذلك! هزَّأني، منعني أن أكتب «صفحاتٍ هزيلةً فارغةً» من هذا النوع مرّة أخرى. تسربلَتْ عيناه ببريقِ تهديدٍ داكن من النوعِ الذي أرتعشُ حال رؤيته!...
أدركتُ وأيقنتُ فيما بعد، بألمٍ لا حدود له، أنهم يفتّشون كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في غرفتي أثناء غيابي، وأن عليّ أن أسجّل يومياتي في صفحات ذاكرتي لا غير، طالما لا يمتلكون على كمبيوتراتهم برمجيات «قارئ ذكريات»، توجِّهُ أجهزةَ لاقطاتٍ الكترونيةٍ تتشعبطُ بالجمجمة، لتفتيشِ أرجاء الدماغ بحثاً عن الذكريات واليوميات المطمورة...
- ماذا تحتاجين إذن؟، سألني ربُّ خفافيش القصر بالتلفون، ذات يوم!
- أن أدرس الرياضيات في جامعة أوربية!، أجبتُ...
جنّ جنونه! صعق من الهلع! جاء بشحمِهِ ولحمِه يهرعُ نحو غرفتي متفجِّراً من الغضب. صرخ: «سأحضر لك جامعات أوربا وكل علماء الرياضيات إلى القصر، لكنك لن تسافري لأرض الدعارة! لن تكوني يوماً مثل أمّك الباغية!»...
ألقى لي محاضرةً غاضبة عن الشرف، عن الدين، عن العزّة والكرامة!... ما أسفله!...
(4)
السفرُ للدراسة في أوربا وأمريكا لأبناء القصر، غيري، حقٌّ روتينيٌّ مفروغٌ منه، لا يستحق أدنى نقاش... أحدهم عاد من الدراسة في الخارج بعد أن أكملتُ الثانوية العامة بقليل... اسمه: شهاب. (أفضِّل أن ألقبه «سلطان الصغير»). هو، مثل معظم سكّان القصر، أحد أبناء أعمامي الغفيرين...
كان يختلف كثيراً عن سلطان الكبير شكلاً وسلوكاً، لكنه أدرك منذ عودته من الدراسة أن من عقال عمّي فقط يستطيع تفريخ وتجنيح كل رغباته وأحلامه الوفيرة. أيقن أن عليه إذا أراد تحقيق طموحاته الشاسعة أن يكون مُفضَّلَ ربِّ القصر، ومختارَه الأول. لذلك تقرَّبَ من سلطان بكل الطرق والوسائل، أرضاهُ ونفَّذَ أوامرَه بحماسٍ وولاءٍ ودقّةٍ مليمترية... صعد اسمه في أسهمِ بورصةِ القصر في برهةٍ صغيرة. صار عمّي يناديه دوماً، يتكئ عليه في مآرب أكثر فأكثر صعوبة واستراتيجية. صار مصطفاهُ الأثير بسرعةٍ ملحوظة، كما يبدو للعين المجرّدة!...
كان يأتي لزيارة عمّي كثيراً وبانتظام. لم أعبأ به في بادئ الأمر أو أعطيه أي اهتمام، وإن كان مهذَّباً، وسيماً، حسن المطلع بشكل مرموق... لكن عمّاتي وزوجات عمّي وبعض بناتهن لم يتوقفن عن التلميح لي بإعجابه بي!... «هو الأحق بك!»، كما قلنَ! «لأنه يستحيلُ على سلطان أن يسمح لك بالزواج من خارج العائلة. ومقارنةً بأولاد العم الآخرين هو الأفضل، الأوسم، ذو الأسلوب المهذّب والأخلاق الرفيعة والمستقبل الواعد»...
أقلقتني تلك التلميحات والهمسات الملتوية. صارت تضغطُ على أعصابي أكثر فأكثر. حاولتُ التعرُّف على «مرشّح القصر». استحال ذلك بسبب الأعراف والتقاليد، وحامي حماها، عمِّي العزيز، الذي يقف دوماً في المرصاد إذا ما انتهكها منتهك!
كي يستأثرَ شهابُ باهتمامي، دبَّرَ مغامرةً «مراهقةً» صغيرة، نصف ناجحة! كنتُ ذات يوم مع «وفدٍ» يضمُّ اثنتين من بنات عمي في طريقنا لحفلة زواج، تحيطنا سيارة الحرس الخاص. جاء شهاب فجأة بسيارته الفارهة قرب الموكب، كأنه مكلّفٌ من ربّ القصر بالإشراف عليه!...
ثمّ نفّذ خطّته: طلب مني أحد حرّاسه، قبل دخولي حفلة الزواج، أن أقابل شهاب الذي ينتظرني في سيارته على بعد أمتار، ويود أن يوجِّه لي «سؤالاً في الرياضيات بعيداً عن الأعين»!...
استغربتُ كثيراً، أثارني هذا التحدّي المفاجئ، هذا «السؤالُ الرياضي الذي يوجَّهُ بعيداً عن الأعين»! حتّى الرياضيات في القصر تصبحُ عملاً سريّاً يُهمسُ به همساً في الكواليس!... توجَّهتُ نحو سيّارته بمعزلٍ عن الأنظار، بتلقائيةٍ وخجلٍ وحبِّ استطلاع، ورغبةٍ خفيّة نصف ماكرة بالتعرّف على «مرشح القصر» وسماع سؤاله في الرياضيات!... لم أكن أتوقّع أن شهاب «سيختطفني» حينذاك، ويقودني بسيارته في رحلة طويلة تخرجني من مسقط باتجاه المدينة التي يعرف كم أحبها: صلالة!...
أوقفني وسط تلك الرحلة لمشاهدة البحر! هاهو يرمي بي فجأة في أحضان السفر والحريّةِ والبحرِ الذي أعشقه بجنون! لم يفكّر أحدٌ في القصر غيره يوماً كم أفتقد البحرَ ومدينةَ طفولتي، أنا التي أحيا منذ سنين طويلةٍ أسيرةً في سجنٍ داخل السجن، مُراقبةً داخل قصرٍ مُلغَّمٍ مغلق!... البحرُ، كما تعرف، نقطةُ ضعفي المُثلى، دوائي الناجع! غسلَ فيَّ بلحظات سنيناً من الإعياء والملل وقهرِ الحياة بين القضبان، أسكرني حدَّ الثمالة!...
جلس شهاب قربي في شاطئ البحر. كان يخاطبني بِرِقَّةٍ وأدبٍ جم. حدّثني طويلاً عن نفسه. عن شعوره بالغربة في العائلة! (دقّ في الوتر الحساس بمهارةٍ فائقة!). شعرتُ أنه يشبهني تماماً. وثقت بكل ما يقوله، وبأن كلَّ واحدٍ منا، بشكلٍ ما، مرآةٌ للآخر! نجح في الاستيلاء المفاجئ على مشاعري أنا التي لم أحب رجلاً قبل ذلك اليوم. أعلن عن استيائه الشديد لعبارة «بنت الغريبة» التي تُطلق عليّ وتلاحقني دوماً، وعن استنكاره لعدم السماح لي بالتواصل مع أمي!...
بعد الحديث عن أمي مباشرةً أودعَ شهابُ في شفتيّ هزَّةً كهربائية أنيقةً رقيقة، اكتشفتُها بخجل، تذوَّقتُها بمزاجٍ سعيد، عرفتُها لأول مرّة في حياتي: قبلة خفيفة دافئة، أسرَتني كثيراً وأشعلت في كلِّ خلايا جسدي أحاسيس غريبة، لذيذة، صعبة الوصف، شديدةَ السحر، كان لها في الحقيقة وقعُ العاصفة! صدَمتْ كلَّ ثقافتي السلفيّة الصارمة التي كانت تمنعني من مجرّدِ التفكير بها، من عدم مشاهدة أيّ فيلمٍ تتسرَّبُ فيه قُبَلٌ صغيرة، من عدمِ قراءةِ معظمِ القصص والروايات (تصوّرْ، عِشقي الأوحد، كنتُ أعتقدُ أن قراءةَ نجيب محفوظ نوعٌ من الفسق والفجور، فما بالك بإحسان عبدالقدوس!...)
غير أن هذه القُبلَة سرَتْ في دمي مثل الأوكسجين! أدركتُ كم يحتاجُها جسدي مثلما يحتاجُ الماءَ والغذاءَ والنسمات العليلة... عليّ أن أعترف عشقي: أحببتُ تلك القُبلة! ما أسعدَ أن تتناثرَ وتشتبكَ كلُّ لحظات الحياة في ثنايا نسيجٍ من قُبَلِ العِشق الصادق!...
ذكَّرني شهاب بعد ذلك ببيت جدّي الكبير (رأس العائلة) في صلالة، الذي قضَّيتُ فيه أحلى سنوات طفولتي، قبل أن يأخذني بالسيارة في اتجاهه وهو ينشد بصوتٍ رومانسيٍّ رخيم: «قفا نبكي من ذكرى حبيبٍ ومنزل!»... كان استقبالُ جدّي (الذي يأتي لزيارتنا في مسقط في الأعياد فقط) لنا رائعاً، شديدَ التأثير والحميمية!... بكيتُ طويلاً عندما استعدتُ بعض ذكرياتي مع أمي وأبي، وتفاصيل أجمل سنين حياتي في ذلك المنزل الذي أعشقه كثيراً والذي لم أعد إليه منذ سنين طويلة.
أحسستُ، عشقي العظيم، في نهاية ذلك اليوم القدَرِيّ أني وجدتُ فجأة فارسَ أحلامي، أميري الساحر، وأني مستعدةٌ أن أهب له كلَّ حياتي!...
تغيّرَ كل شيءٍ في آخر الليل بعد وصولنا منزل جدّي بقليل! حطّ عمي سلطان بطائرته الهيلوكبتر الخاصة مع عُصبةٍ من أعمام أشاوس ترتعدُ شحومُ بطونهم، تُكشِّرُ شواربُهم، وتشتعلُ نيرانُ الغضبِ في أعينهم الحمراء... فقدَ سلطان اتزانه وهدوءه الأسطوري كما يبدو واضحاً: صفع شهاب أمام الملأ بعد أن سبَّه بكل الأوصاف! أما أنا فقد تعرّضتُ لأكثر من الصفع. أغدقني بالإهانات. شتمنى وأُمِّي لأننا «عارٌ يُلطِّخ تاريخ العائلة إلى أبد الآبدين»، كما قال!...
آه، عشقي الجارف، كم يكون الجرحُ شديدَ النزيف، بالغَ العمق، عندما تتحوّلُ سكرةُ الحبّ وسحرُ القبلة، في لمحة برق، إلى صفعات وإهانات!...
ثمّ أخذني معه بالطائرة إلى مسقط دون تأخر، رغم إصرار جدّي على بقائنا في صلالة. الإهانات تضاعفت حال وصولي القصر! لزم التأكد من «سلامتي» سريعاً! حشدٌ شرسٌ من العمَّات والخبيرات المتخصِّصات الآتيات من خارج القصر فَحَصْنَ عورتي غصباً للتأكد من وجود غشاء بكارتي!... عرفتُ يومذاك ألعنَ شقاءٍ وأتعسَ مَذلَّة! كنتُ مثل طائرٍ جريحٍ ينتفضُ من الألم، طائرٍ مذبوحٍ يفقدُ آخر أنفاسه!... فضَّلتُ الموتَ على البقاء في هذا الجحيم الذي قرّرتُ أن أهرب منه بأيّة طريقة! تمنَّيتُ حينها في قرارة نفسي لو أستطيع أن أنتقم من القصر بوضع كلِّ سكانه في الخيمة المواجهة لغرفتي، لِشوائهم فيها فوق باقةٍ جميلةٍ من الألغام والديناميت!...
(5)
ظلَّ عمي غاضباً من شهاب، لولا توسُّطُ جدّي وعمّاتي والاعتذار «البليغ» الذي قدّمه شهاب له. كتب له رسالةً مطرّزةً بعبارات الولاء والحمد والامتنان، نظَّم فيها لِ«فخامته» أيضاً قصيدةً جاهلية تمدحُ طيبة قلبهِ «التي تذيب الجبال، وتسجدُ لها الأممْ» وسماحته «الأشهر من نارٍ على علَمْ»... أعجَبَتْ هذه القصيدةُ المِيمِيّةُ العصماء عمّي وهدَّأتْ من روعهِ قليلاً! (لم أكن أعرف قبل ذلك أن لِعمّي ميولاً شعريّةً قويةً لأدب عصر الانحطاط)... اقترحَ كلُّ من توسَّطَ مع عمّي التعجيلَ بزواجي من شهاب لإنهاء آثار وتداعيات ما حدث. وافق ربُّ القصر!...
كنتُ سعيدةً بشكلٍ أو بآخر لأني سأبدأ حياةً جديدة وإن كنت أعرف أني لن أغادر القصر إلا من عمارةٍ لعمارة. قلقٌ وخيبةٌ غريبان اعتوراني أشدّ فأشد مع اقتراب موعدِ الزفافِ الذي لن يحضره أو يسمع به أبي أو أمي! تذكّرتهما بحسرة ليلة الزفاف، كثيراً جدّاً، كما يتذكّر الإنسانُ أعزّ مفقوديه قبل ساعات موته... لن أسرد تفاصيل الحفلة. سأذهب عموديّاً إلى لحظة المصيبة، لحظة الصدمة الكبرى، دون مقدّمات ولا فواصل!
كنت أحبّ شهاب حتى ليلة الكارثة! لِأُبَدِّدَ خوفي من مفاجآت تلك الليلة، تذكَّرتُ كثيراً رقّةَ قُبلةِ البحر. كنتُ أتمنى أن تبدأ «ليلةُ العُمْر» هذه بطوفانٍ من تلك القُبلات البحريّة اللذيذة، أن تكون كثيفةَ الرومانسيّة، مترعةً بالكلمات الغرامية الرقيقة... تذكَّرتُها قُبلةَ البحر طوال يوم الحفلة! أيقنتُ أنها قادرةٌ على مسحِ الندوبِ التي خلَّفتها مغامرةُ سفرِنا لصلالة، على تضميدِ كلِّ الجراح، وإزالةِ كل الآلام والمخاوف!...
الصدمة الكبرى بدأت عندما استهلّ شهابُ اختلاءَنا في غرفتنا الزوجيّة بِلَوْمي على عدم رفضي لِقُبْلَته البحريّة! لم أفهمه بالطبع! شرح نفسه: استنكرَ كيف قَبِلتُ منه تلك القُبلة ونحن لم نتزوَّج بعد! لم أفهم أيضاً!... ألحقَ لومَهُ بتوريات واتهامات مبطّنة وتشكيكات لا تخلو من الاستفزازية حول شرَفي وطهارتي!...
اللعنة! بدأت أفهم!... انغلق كل شيء في دماغي عندما لاحظتُ فجأة أنه، مثل عمّي، يحتقر المرأة، يفقد احترامه لزوجته حال معاشرتها، يعتبرُ الجنسَ اغتصاباً وليس علاقةً رقيقةً بين إنسانين يُجسِّدان بها عشقَهما، يحتفلان به معاً، واحِدان، في صلاةٍ متكافئةٍ متناغمةٍ ثنائيةٍ-واحدة!...
أدركتُ أيضاً أنه لم يستحب رؤيةَ استعدادي (رغم قلقي وتوتري الذي سترْتُهُ قدر ما أستطيع) وانتظاري لِعناقهِ في «ليلة العُمْر» بأعين مشتاقة مفتوحة! لم تعجبه تلقائيتي وانبساطي في هذه الليلة التي طالما حلمتُ واشتهيتُ أن تكون فردوسيّةً خالدة، عاصفةَ الحميمية، فيما أضحَتْ ألدَّ كابوسٍ عرفتُهُ في حياتي!...
فهمتُ أخيراً: كان يريد أن أغمض عينيي، أن أنقبض وأقرأ آيات الكرسي بصمت، وأفتح فخذيّ كي ينهي مأربهُ بأسرع وقت، قبل أن يرشَّ القصر بشذراتٍ ساخنةٍ كثيفةٍ من دم فض البكارة، تولولُ عند رؤيته القبيلةُ من طرفِ السلطنةِ لطرفِها الآخر...
دخلنا، بعد استنكاره لعدمِ رفضي قبلتَهُ البحرية، في نقاشٍ وجدلٍ حاد اضطررتُ أن أدافع خلاله عن نفسي، أنا التي أمقت من الأعماق الدفاعَ عنها بشكلٍ عام، فما بالك، عِشقي الأبديّ، في اتهامات حقيرةٍ بليدةٍ كهذه!...
صدمَهُ رفضي وعنادي، ومقارعته بِلغةٍ لم يتوقّعها! صفعني في الوجه هو الآخر في لحظة غضب!... مارس هكذا رجولته كما تعلَّمَ أبجديَّتَها منذ المهد! أراد أن يُحدِّدَ قواعد العلاقة بين السيّد والعبد من أوّل لحظة، أن أبدأ عمراً جديداً من القهر والمذلّات من أوّلِ ساعات شهر العسل!...
ما أبشعَ «ليلة العُمر»، عِشقي الأبدي، عندما تحلمُ بها رومانسيةً ساحرة، وتراها شنيعةً نكداء! ما أمرَّ شهر العسل، حبيبي، عندما يُستهلُّ بِصفعةٍ مدوِّيةٍ خالدة!...
انغلقتُ تماماً. احتقرتُهُ، كرهتُهُ إلى الأبد! كرهتُ لحظة الجماع بشكل تراجيدي!... أقسمتُ في أعماقي أن لا يصلني يوماً. في كل الأحوال، كنتُ منغلقةً جافّةً بشكلٍ فيزيائيٍّ فطريّ يستحيل معه أن يدخلني!... لن أنسى، حبيبي، تلك الليلة الكارثية طوال حياتي! طيفُ أُمّي وفشلُ زواجِها راودني بشدّة. تعاساتُ وأوجاعُ معظم نساء القصر وبؤسُ حياتهم الزوجية الكئيبة سكنَتْني ككابوس، ملأتْني خوفاً من الحياة الجديدة التي تنتظرني!... هاهو شهاب يتَّهمني بأنه «ليس الأوّل!» لمجرّدِ أني لم أرفض قُبلتَهُ البحريّة ولم أبرطم وأتضايق وأتفّف منها؛ لِمجردِ رؤيتي، في أول لحظةٍ لاختلائنا، مستعدَّةً لِتسليمهِ جسدي بسعادة، مقابل أن يغمرني بمشاعر غرامية وحبٍّ حقيقي!...
لن أنسى مدى الحياة بعض عباراتهِ المأثورة في لِيلةِ الكارثة: «من علَّمكِ هذا؟»، «من علّمكِ رغبات وسلوك بنات الليل؟»... لم يحرم نفسهُ أيضاً من إيصالِ تقزُّزي لِذروتِهِ وهو يقول: «بعينيكِ الشهوة، مثل أمُّك الانجليزية!» (أمّي التي لا يعرفها، ولم يرَها مرّةً واحدة!)...
لم أشعر في حياتي بالرعب مثل تلك الليلة، لأنها كانت صورةً ملخَّصةً لما ينتظرني! تساءلتُ: أأستحقُّ حياةً أشدَّ مأساوية من قبل؟... كان جسدي وشرفي قبل الزواج مِلكي وحدِي على الأقل، أمّا الآن فَثمّة من استولى عليهما ليمتهنهما كيفما يشاء!...
لم يستطع أن يُجامعني أيضاً في الأيام اللاحقة، لأني صرتُ أمقتُ الجنس، أكرهُ من الأعماق مجرّدَ الحديثِ عنه. ناهيك أن كلّ ليلةٍ كانت أسوأ من سابقتها، تبدأ عادةً بمحاولة اغتصابٍ مُهينةٍ فاشلة!... لا يعرف شهاب كيف يستهلُّ ليلته بكلمةٍ طيّبةٍ تُعيدُ بناء بعض خرائبه! في كلِّ الأحوال، ثمّة شيءٌ تخربطَ إلى الأبد منذ أن شكّكَ بي في أوّل ليلة وصار يشتمُ أمّي ويناديني ب«بنت ال...» (لا أتجرأُ ذكرَ بشاعةِ كلمتِه)، هو الذي أبدى استياءَه، في مغامرتهِ الرومانسية التي قادني بها إلى صلالة، لِلقب «بنت الغريبة» الي يُطلِقهُ عليّ القصر!... لم أعد أستطيع تغيير مشاعري تجاه شهاب: صرتُ اعتبرهُ جباناً، وغداً صغيراً احتقرُهُ بامتياز!...
يلزمني أن أعترف: لم يكن شهاب ضعيفاً جنسيّاً! بالعكس. لعلّ تجاربهُ مع عاهرات الأثرياء لم تكن قليلة. لم يبدُ عليه سيماءُ القلقِ وعدمِ الثقةِ من نفسه... لكنه لم يعرف كيف يقترب مني! كنتُ أرفضُ عنفَهُ بقوّة. تحوّلتُ إلى نَمِرةٍ شرسة بشكلٍ يخالفُ طبيعتي الرقيقة اللينة. لعلي ورثتُ من أبي وأمي جينات التمرّد ورفض الضيم وإن ساد مظهري الهدوءُ والرقّةُ الدائمة!...
تعلَّمتُ أيضاً (عندما لا يكون شهاب عنيفاً، وتبدو عليه رغبةٌ جارفةٌ يستحيلُ تحجيمُها وإضمارُها وكبحُ جماحِها) إطفاءَ رغبتِهِ بِمنهجيّةٍ ومهنيَّة! لبلوغ ذلك كنتُ أستخدمُ كلمات محدَّدة لا يستحسنُها كثيراً، أو ألجأُ إلى نوعٍ مُعيّنٍ من الحركات أو السلوك أو التقوقع الذي يستفزُّهُ بشكلٍ أو بآخر. تنحرفُ حينها دورتُهُ الدموية من مسارها نحو الأوعية الدموية في الخصيتين، باتجاه مناطق الغضب في أعلى الدماغ! ألاحظُ ذلك بارتياحٍ وفرَج! أحمد الله كثيراً!...
تعلَّمتُ أيضاً أن أرمقَ لحظات انطفائهِ الجنسيّ النادرة كي لا أرفض التوحُّدَ معه حينها، وأن أجعلَهُ يشعرُ أنه هو نفسه سببُ عجزِهِ عن الجماع!... ليس صعباً على المرأة قيادةُ أوركيسترا مسارِ خذلانِ جسدِ الرجل، أو إخصاءُ فحولته، كما أشعر!... انتقمتُ منه هكذا على إيقاع «دالّةٍ رياضية جَيْبِيَّة»، أقصدُ: عبر مناورات مدٍّ وجزر أذلَّتْهُ كثيراً وزادتهُ قساوةً وشراسة. صرنا لذلك منحنيين متوازيين لا يتقاطعان أبداً، أقصدُ: وضعتُ بيننا شعرةَ معاوية جعلَتْهُ لا يثقُ بنفسهِ أمامي، بل يخشى جماعي أيضاً، وإن دفعتُ ثمن ذلك غالياً: ليالٍ عاصفة يشتعلُ فيها عنفاً وحقارة...))
عرفتُ وأنا أقرأ هذه العبارات في أوراق حناياي الخالدة، أنها، منذ أوّل أيام زواجها الفاشل، تعلَّمتْ أن تكون عبقريّةً في تطريز جسدها بالأسلاك الشائكة! تذكَّرتُ لقاءنا الأخير في باريس الذي ذقتُ فيها الأمرَّين من وعثاء خارطة الطريق التي صمَّمَتْها بعبقريتها الرياضيّة، فرَضَتْها عليَّ، ودافعتْ عنها بنجاحٍ قاتل...
تواصل حناياي بشفافيتها القصوى وروحها الطاهر الرائع:
((ما أضعف ثقة الرجل بنفسه عندما يخذلُهُ جسدُه! ما أتعسهُ أمام هاجس عدم الانتصاب! يزدادُ هلعاً من احتضار الرغبة، من ضُعفِ الانتصاب حتى وإن كان وافرَ الفحولة كشهاب!... غير أن شهاب كان ذكيّاً مناوراً أيضاً: كي ينجحَ في جماعي ويتلافى العار أمام القصر، حاول أن يُغيِّرَ من طباعي «النَّمِرِيَّة» (حسب تعبيره) التي أرهقته فعلاً. صار ليِّناً معي ليروق لي ويستطيع دخولي ولو مرَّةً واحدة!... قال لي إنه يريد أن يفتح صفحةً جديدة من علاقتنا!... استغلّيتُ لحظات ضعفهِ وتذبذبهِ هذه بذكاء! ذكّرتُهُ بِوعدهِ لي بالسماح بالاتصال بأمّي!... بدأ يرتبك في الحقيقة، يشعرُ بالحرج أمام القصر لعدم فضِّ بكارتي بعد أيام من الزواج، ويأملُ مني أن أفهمَ ذلك وأن أساعدَهُ على قضاء حاجته دون تأخر!...
ليبدأَ استراتيجيته الجديدة اقترح لي أوّلاً أن أتصل بالخفاء بأمي الذي حصل على رقم تلفونها وأعطاني إياه... لم أصدِّقْ عَرْضَه! لم يعد يخطر ببالي إمكانية تحقيق هذا الحلم!... كدتُ أشعر بالامتنان لشهاب لولا أنه سرَّبَ في نفس اللحظة عبارةً نفعيَّةً قذرة أثارت كلَّ تقزُّزي: «بشرط واحد: أن تُرخِّي طَبْعَكِ معي!»
هززتُ رأسي بعينين طائعتين كي لا يُلغي مقترح الاتصال! زادتْ كراهيتي لهُ بشكلٍ بُركانيٍّ دفين!... دقَّ أرقام التلفون لوحده وناولني السمّاعة!
عرفتُ الانسيابَ المتميّز لِنبرات أمي وهي تردُّ: «هالووو!». لا أصدِّق! هي ذاتها بِنفسِ أوتارِها الصوتيّة العذبة الصافية التي لم تغادر أذني منذ عشرة سنين، بِنفسِ لهجتِها الأكسفوردية شديدةِ النقاء!... أجهشتُ بالبكاء من شدّة التأثر والدهشة! تلعْثَمتُ عند ِسماع نبراتِها، مثلَها وهي لا تُصدِّقُ أنها تسمع صوتي بعد سنين طويلة! ثمّة لحظات في الحياة تنعقدُ فيها اللسانُ وتضيع الكلمات من فرطِ هولِ المفاجأة!...
خطرتْ لي حينها فكرةٌ ملهمةٌ: أن أوقف مكالمتي سريعاً وأقول لأمّي إني سأتصل مجدّدا بعد دقائق، علّها تُفكِّرُ بتسجيل مكالمتي الثانية... احتجتُ في الحقيقة أيضاً لاستراحةٍ صغيرةٍ أربطُ بها جأشي، أستعيدُ أنفاسي، أرتِّبُ أفكاري سريعاً قبل مواصلة الحديث!...
طلبتُ من شهاب عندما أوقفتُ الاتصال أن يسمح لي بالاختلاء بأمي بضعة دقائق، لأني مرتبكةٌ وبحاجةٍ إلى الوُحدة قليلاً كي أستطيعَ الحديث معها! وافق وهو يُلاحظ رجفتي وانهمار دموعي من صعقةِ المفاجأة، مكرِّراً عبارته النبيلة الراقية: «لا تنسِ! بشرطٍ واحد: أن تُرخِّي طبعَكِ معي!»...
لخَّصتُ لأمي في مكالمتي الثانية كلّ آلامي في دقائق مكثَّفة. شرحتُ لها رغبتي العنيفة بالهروب من هذا القصرِ، المستنقعِ النتن. تألَّمتْ لمعاناتي وإن ناسبها كثيراً سماعُ هذه العبارات التي تنتظرُها منذ دهر. شرحَتْ لي أنها لم تتوقف منذ سنين على النضال لاستعادتي مستخدمةً منظمات حقوق الإنسان والسبل الديبلوماسية. لكنها فشلت لمهارة القصر في شراء ذوي النفوذِ والخبراء في كبحِ الفضائح، ولأن القانون لا يعترف حتّى بأنها أمي!...
أدركتُ سريعاً أن مكالمتي هذه (التي كانت تُسجِّلُها فعلاً) ستساعدُها بشكلٍ حاسم في مساعيها دون شك... طلبَتْ مني أن أصمدَ قليلاً لأنها تستطيعُ الآن أن تشهرَ مأساتي واستغاثاتي، وأن تُقلِقَ القصر الذي يخشى الفضائح الدوليّة الصارخة...
قلتُ لها إنَّ «جسدي مضرَّجٌ بالضرب والجراح!»... لعلّ هذه العبارة التي اخترعتُها ستلعبُ دوراً أشدَّ حسماً في إخراجي سريعاً من القصر!... الحقُّ، لم يكن جسدي حينها مضرَّجاً بالجراح، لكني كنتُ أدركُ مسبقاً أنه سيكونُ حتماً كذلك في الأيام القادمة التي تنتظرني مع شهاب!...
إذ لم «أُرَخََِّ طبعي معه» كما اشترط!... لذلك زاد عنفاً وهوادةً بعد «خيانتي» للوعدِ، كما قال! صارعْتُهُ بجرأةٍ وتحدٍّ أكبر وكأني أُشعِلُ عنفوانَهُ وأثيرُ هيستيريّتَهُ وأشتهي جراحَهُ بِطيبةِ خاطر! أو كأني كنتُ أُطبِّقُ حرفيّاً، بشكلٍ ما وبلا وعي، بيت الشاعر الذي قال:
«وللحريّةِ الحمراء بابٌ بكلِّ يدٍ مضرَّجةٍ يُدَقُّ!»...
في القارة الأوربية المجاورة مَرَّت الأشياءُ بسرعةٍ خارقة، بعد أن أشهرَتْ أُمّي المكالمةَ التلفونية حالاً! الصحفُ والمنظمات الإنسانية، التي كانت على علمٍ بملفِّي منذ سنين، استقبلَتْ المكالمةَ التلفونية بإدانةٍ ووجومٍ واستنكارٍ شديد! اضطربَ القصرُ وتزلزلتِ الأرضُ تحت أقدامِ سيِّدِه! أرّقَتهُ التصريحات المدويّة للصحفِ البريطانية الجادّة، وبشكلٍ خاص المناورات الإعلامية للصحف الصفراء (لاسيما «ذي سُنْ») التي تمتلك خبرةً مدهشة في تفجير الفضائح وتحريكِ وشدِّ سخط الرأي العام...
القصر الذي يتنفّسُ على إيقاعِ موسيقى الكتمان لا يحبّ الفضائح الدوليّة! حقدُ سلطان علىَّ وعلى أُمّي، التي باتت كمن تنتصرُ عليه بأثرٍ رجعيّ، يغلو يوماً بعد يوم! القصر يرتجف! لاسيما أني كنتُ معذَّبةً جريحةً بشكلٍ ملحوظ!...
وفدٌ من منظمات حقوق الإنسان والصحفيين البريطانيين يصلُ عمان بشكلٍ مفاجئ، يطبُّ على باب القصر، يطلبُ مقابلتي!... القصر يرتجف!... مفاوضاتٌ ديبلوماسية خفيَّة انتهت بحلٍّ «يحفظُ ماءَ الوجه»: وافقَ القصرُ على سفري لزيارةِ أُمّي «التي كانت مريضةً» كما يُقال، والعودة بعد ذلك!...
سفرٌ بلا رجعةٍ بطبيعةِ الحال! طلبتُ الطلاقَ على التو من المحاكم الإنجليزية التي وافقت عليه، فيما أُعتبرُ حتى الآن زوجةَ سلطانِ الصغير في الأعراف والقضاء العماني!... سلطان الصغير الذي سقطَ إلى الدركِ الأسفل في دائرة المغضوبين عليهم في القصر، لأجلٍ غير مسمّى! لأجلٍ طويلٍ جدّاً كما أتوقّع!...
ماذا حصل لي بعد بدء حياتي الجديدة في لندن (التي أستطيعُ فيها على الأقل كتابةَ يومياتي بِحُريّة)؟...
إذا أحببتَ، عشقي الأبديّ، معرفةَ ذلك فقد أحضرتُ لك مُجلَّدين من اليوميات التي أكتبها منذ وصولي لندن، يوماً بعد يوم!... يكفي، حبيبي، أن تطلبهما مني بِرقَّةٍ الآن، لتشاهدَ فيلمَ حياتي منذ وصلتُ لندن لحظةً لحظة، ولِتتوقَّفَ على الأقل من اتهامي بالكتمان!... غير أنه يلزمك لقراءتهما دهرٌ كامل!))
(*) فصل من الجزء الثاني من رواية: «عرَق الآلهة». لقراءة كل الفصول السابقة يكفي الضغط على: http://abdulrab.free.fr/SD.7.pdf، في الموقع الأدبي لحبيب عبدالرب سروري: http://abdulrab.free.fr


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.