إصابة ثلاثة أطفال جراء انفجار مقذوف من مخلفات المليشيات بالضالع    نخبتنا الحضرمية... خط أحمر!    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    خبير أرصاد يحذر: منخفض الهدير في اليمن ليس الأول ولن يكون الأخير (فيديو)    ضبط 54 متهمًا في قضايا جرائم جنائية    أول قيادي مؤتمري موالي للحوثيين بصنعاء يعزي عائلة الشيخ "الزنداني" في وفاته    تغير جديد في أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    شعب الجنوب أستوعب صدمة الاحتلال اليمني وأستبقى جذوة الرفض    رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    ليس وقف الهجمات الحوثية بالبحر.. أمريكا تعلنها صراحة: لا يمكن تحقيق السلام في اليمن إلا بشرط    الحوثيون يراهنون على الزمن: هل ينجحون في فرض حلولهم على اليمن؟ كاتب صحفي يجيب    شيخ بارز في قبضة الأمن بعد صراعات الأراضي في عدن!    الأمل يلوح في الأفق: روسيا تؤكد استمرار جهودها لدفع عملية السلام في اليمن    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    دوري ابطال آسيا: العين الاماراتي الى نهائي البطولة    تشييع مهيب للشيخ الزنداني شارك فيه الرئيس أردوغان وقيادات في الإصلاح    كلية القيادة والأركان بالعاصمة عدن تمنح العقيد أديب العلوي درجة الماجستير في العلوم العسكرية    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    بن دغر يوجه رسالة لقادة حزب الإصلاح بعد وفاة الشيخ عبدالمجيد الزنداني    مركز الملك سلمان يدشن توزيع المساعدات الإيوائية للمتضررين من السيول في الجوف    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    مفسر أحلام يتوقع نتيجة مباراة الهلال السعودي والعين الإماراتي ويوجه نصيحة لمرضى القلب والسكر    إعلان موعد نهائي كأس إنجلترا بين مانشستر يونايتد وسيتي    إنزاجي يتفوق على مورينيو.. وينهي لعنة "سيد البطولات القصيرة"    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    "ريال مدريد سرق الفوز من برشلونة".. بيكيه يهاجم حكام الكلاسيكو    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    لابورتا بعد بيان ناري: في هذه الحالة سنطلب إعادة الكلاسيكو    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مكان وموعد تشييع جثمان الشيخ عبدالمجيد الزنداني    التضامن يقترب من حسم بطاقة الصعود الثانية بفوز كبير على سمعون    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    ديزل النجاة يُعيد عدن إلى الحياة    رئيس مجلس النواب: الفقيد الزنداني شارك في العديد من المحطات السياسية منذ شبابه    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    ارتفاع الوفيات الناجمة عن السيول في حضرموت والمهرة    تراجع هجمات الحوثيين بالبحر الأحمر.. "كمل امكذب"!!    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الزنداني يكذب على العالم باكتشاف علاج للإيدز ويرفض نشر معلوماته    الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تفعل هذا الأمر    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    المواصفات والمقاييس تختتم برنامج التدريب على كفاءة الطاقة بالتعاون مع هيئة التقييس الخليجي    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عرق الآلهة ( 1 )
نشر في التغيير يوم 31 - 10 - 2006


الجزء الأول
تقرير "كاشف الأسرار"
(1)
الفصل الأول من الجزء الأوّل
فردوس وحنايا
فردوس ترتدي فستاناً حريريّاً يسيلُ على جسدِها، يتناغمُ ومُنحنياتِه. ترمقني بِتفحُّصٍ غير أليف وأنا أُنظِّمُ (باهتمامٍ غير عاديٍّ وسعادةٍ خفيّة) حقيبةَ السفر لِمغادرة المنزل في فجر الغد.
تقول بِصوتٍ كريستاليٍّ رقيق لا يعرف الصراخ:
- صرتَ غريب السلوك هذه الأيام! لم تعد تبدو عليك الحسرة عندما تغادر المنزل مثلما كنتَ من قبل!...
تُوجِّهُ لي أسئلةً دقيقة حول تفاصيل برنامج الشهر الذي سأغيب فيه، هدف هذه «المهمّة العلميّة»، مواعيد العمل واللقاءات، زملاء العمل لاسيّما إناثهم، ميولهم، آرائي حولهم...
لم يراودها الشكُّ من سلوكي قبل ذلك من قريبٍ أو بعيد. تعرفُ جيّداً أنه إذا كانت لي في الحياة ميزةٌ حقيقيّةٌ واحدة فهي كوني صادقٌ بلُّوريٌّ في كلِّ شيء، لاسيما في التفاني في عشقها والإعجاب بها والإخلاص لها. مثلما أعرفُ جيّداً أنه إذا كان لها عيبٌ واحدٌ فقط فهو أنها تمثالٌ لا يتزحزح: من يعشقُ فردوس يصعبُ أن تَخترِقَهُ فتاةٌ أخرى، لأنها نادرةٌ مذهلةٌ نموذجيّةٌ في كلِّ شيء...
كلانا مخطئٌ حقّاً في قناعاته: هاأنذا أكذب اليوم لأني سأستقبل غداً من اخترَقَتْ فردوس لِتَسكُنَ حناياي، حنايا!... ستصلُ حناياي بعد يومين، من سَكَنِها في لندن، لقضاء شهرٍ في فرع مختبرها العلمي في ضواحي باريس. شهرٌ جديدٌ رتَّبنا كلّ تفاصيله ولقاءاته الحميمية اليومية الطويلة، منذ أسابيع، كعادتنا، بعشقٍ وِدقَّةٍ وسريَّة. نظَّمتُ مواعيدي لأكون، في نفس الشهر، في رحلةِ عمل في مختبرِ أبحاثٍ في علوم الكمبيوتر (متخصِّصٍ بِ«العوالم الإفتراضية الموسَّعة»)، يقع قريباً من مختبرها!...
لم أكن هادئاً واثقاً من نفسي في الردّ على فردوس، لأني لستُ خبيراً في التلفيق. لكني أظنُّ أنها صدَّقتْ كلَّ ما سردْتُه. لأنها لن تجد فيما مضى من العمر لحظةً واحدة لم أكن فيها شفّافاً نقيّاً متطرِّفاً في الصدق والإخلاص...
ما مضى من العُمر بدأ وهي في الثامنة عشرة وأنا في العشرين من العمر، في ميونيخ، في حفلة مدرسيّة أثناء رحلة صيفية نظَّمَتْها جامعتي في مرسيليا... كنت في تلك الحفلة ألفُّ وأدور مثل الخذروف حول شابّة إيرانيةٍ-ألمانيةٍ ذات جَمالٍ مذهل. الشرق والغرب يخفقان في قسماتها بِتناغمٍ وجمالٍ وقوّة. لُغتُها ينبوعٌ رقراقٌ من الكلمات الجميلة المختارة بذوقٍ وإلهامٍ وذكاء. في لمعان عينيها مزيجٌ من الدقَّة الصارمة والفرح الدائم. تتكلّمُ بطلاقة الفارسيةَ والألمانيةَ والإنجليزية والعربية، وتجيد الفرنسية بما فيه الكفاية!...
تَحدَّثْنا في إحدى زوايا قاعة الحفل حول كلّ شيء ولا شيء: ميونيخ، مرسيليا، فارس، عدَن، الصيف والشتاء، الشرق والغرب، الرياضيات والشِّعر... لاسيما الشِّعر الذي تعشقه فردوس عشقاً...
تبادَلْنا بعد ذلك زيارات «خالدة»، حسب تعبيرنا، لمرسيليا وميونيخ. بعد عودتي الأولى من ميونيخ انهمكنا برسائل شبه يومية أذكَتْ إعجابي وتعلُّقي بها يوماً بعد يوم. لرؤية كيف آل تعلُّقنا ببعضنا إلى ما آل إليه، يكفي قراءةُ رفوف ملفات تلك الرسائل اليومية التي نحتفظ بها بعنايةٍ مقدَّسة. يكفي متابعةُ تطَوُّرِ مواضيعها وأبعادها، خلجاتها ونغماتها، نداءاتها ومناجاتها، عناقُ وتلاحمُ أحرفِها... بل يكفي قراءة تحيّةِ السطر الأول من تلك الرسائل فقط!: بعد مرحلة «صباح الورَدْ»، بدأت مرحلة الشخصنة: «صباحك وَرْد»، ثم مرحلة التملُّك: «صباحك، وردِيْ، ورد». ثمّ بدأ عصر عناق والتحام هذه الكلمات الثلاث واختفاء الفواصل والمسافات فيها ومن حياتنا أيضاً: «صباحكَوَرْدِيوَرْد»، قبل أن يتحوّل الورد إلى حب: «صباحكحُبِّيوَرْد»، ثمَّ «صباحكحُبِّيحُب»، ثمَّ «صباحكعِشْقِيعِشْق»، وهلمّ عشقاً...
يكفي أيضاً اللهثُ وراء منحنى الرسم البياني لعدد «كافات» توقيعات تلك الرسائل: تحوّلَ توقيعُها «فردوس» إلى «فردوسك» ثمّ إلى «فردوسكك»، «فردوسككك»، «فردوسكككك»... لأننا قرّرنا ذات يوم أن يساوي عددُ الكافاتِ في توقيعَينا مجموعَ عددِ الليالي التي يُطِلُّ فيها أحدُنا في حلم الآخر! قالت فردوس ذات يوم في إحدى الرسائل: «كان هاملت يخشى ويكرَهُ الأحلام، أما أنا فأدعو قبل النوم أن تتكاثر وتتبارك!». كنا نحلم ببعضنا كثيراً قبل حياتنا المشتركة. لذلك أضحى توقيعُ كلٍّ منا يُجرجرُ شريطاً طويلاً من الكافات التي نأخذُ الوقتَ اللازم لِحسابِها بكلِّ تلذُّذ. يأمل كلُّ واحدٍ منّا في قرارة نفسه أن ينسى الآخرُ سهواً أحدَ الكافات، لِيُعاتبه على ذلك، كي يستلم منه اعتذاراً رقيقاً يدغدغُ العاطفة، وتدليلاً غراميّاً يفتح النفس...
وصلَتْ فردوس مرسيليا لدراستها الجامعية في كليّة الآداب في جامعة اكس اون بروفانس المتاخمة لمرسيليا، ذات التخصصات الغنية في اللغات الشرقية والآداب والترجمة. عِشنا مع بعض في غُرفٍ وشققٍ جامعية، ثمّ في شقَّةٍ سكنيّةٍ في حيّ لوبانييه (السلّة) الرومانسي، المجاور للميناء القديم في قلب مرسيليا، قبل أن نسكن، منذ سنين قليلة، في فيلّا جميلة على شواطئ كاسيس الرائعة، القريبة من مرسيليا. منزلٌ تملأه طفلتنا الكبيرة وطفلنا الصغير تفجُّراً وعطاءً وسعادة...
«حياةٌ إلهية»، كما يصفها الزملاء والأصدقاء الذين يعرفوننا عن قرب. إنسجامٌ جذريٌّ كامل. سفرٌ ورحلات مشتركة متواصلة. تفانٍ من الطرفين لم يتوقّف يوماً. عشقٌ لا حدّ له...
تتَّجِهُ فردوس للسرير. تضع شمعتين في شمعدانين على جانبيه. قرب مرآة الجدار المقابل مزهريَّةٌ يفوح منها أريجُ باقةٍ من الزنبق والياسمين. ضوءٌ رومانسيٌّ خفيف. تخلعُ فستانَها الحريري. هي عاريةٌ، نقيَّةُ الجمال، معطّرةٌ ناريّة. تحافظ دوماً على رشاقتها المثلى، على مقاييسها الجسدية النموذجية، على صفاءِ بشرتِها المخمليّة البيضاء شديدةِ الرقّة. هي جذريَّةُ الأنوثة، ساحرةٌ حقّاً...
تلاحظ أني على غير عادتي في السرير أغيبُ بعيداً عنها هذه الأيام. لا تشعر برغبتي بالحضور الكثيف معها هذه الليلة بشكلٍ خاص. لعلها تتساءل: نقص الرغبة؟ انشغالُ التفكيرِ بِ«المهمَّة العلمية»؟ فاتحة الشيخوخة؟ غروب العاطفة؟... لا تفهم، بالتأكيد. تشعر بالقلق. لا تتذكَّرُ غياباً مني كهذا، لاسيما قبيل رحلة سفر. اعتدنا أن نُزَوِّدَ أنفسنا باللذة ونملأ ذخائرنا عشقاً (تعرفُ، هي، كيف تدفعُ به إلى ذروته) قبيل فراق بضعة أيام أو أسبوع، فماذا لو كان شهراً كاملا؟...
على السرير، فردوس تعشقُ الحرير، الورود، الصمت!... استغربتُ دوماً من لجوئها للصمت عند العناق لأنها، أوّلاً وأخيراً، شاعرةٌ في الجوهر، شاعرةٌ بالغريزة. هي تحيى في الشعر، من الشعر وبالشعر. تعشق الشعر كما لا تعشق شيئاً في الوجود. هكذا كانت منذ أن تعرَّفتُ عليها... حياتُها قصيدةٌ لا تتوقّف. موسيقاها، رقَّتُها، صوتُها، ألوانها، كلماتها، أحرفها، اقتباساتها، استعاراتها، همساتها، ردودها، نومُها (فردوس تحبُّ النوم كثيراً، تنام بمنهجيّة وشاعريّة)، نظراتها، تفاعلها مع كل تفاصيل الحياة، مع الذكريات، مع الهدايا، مع اللوحات الفنيّة، مع الملابس، مع أوجه العابرين، مع الرموز البسيطة...: ديوانٌ لا تنتهي صفحاته.
الشِّعرُ مهنتُها أيضاً. لديها عقودٌ مُغريَةٌ مع دور نشر، لِلترجمة الشعرية على وجه الخصوص والأدبية بشكلٍ عام، لِنشر شعرِها ودراساتها، لإعطاء محاضرات في الأدب والترجمة والشعر المقارن. تساهم أيضاً في هيئات تحرير مجلات ثقافية جامعية محكّمة ومتخصصة في أكسفورد وميونيخ... مكتبة منزلنا شلّالٌ من دواوين الشعر، تُقضّي فردوس حياتها في شرائها في أكشاك ومكاتب مرسيليا وباريس وكلّ المدن التي نزورها. الشعر يغمر المكتبة، يطفحُ، «يَتَطَعْفَرُ»، من كلِّ رفوفِها الزاخرة...
الشعر إيقاع الحياة اليومية لفردوس. به تُقاومُ، كما تقول، قيودَ الحياة، حدودَ التفكير، حتميّةَ الموت، ضعفَ الجسد، سلطةَ الزمن، جبروتَ الصدفة، صِيغَ اللغة، ترسيمات الواقع، منطقَ الأرقام... به، كما تقول أيضاً، تهزمُ الكآبة والسويداء، تنتصرُ على الفناء اليومي. به تنتهكُ الحدودَ القسريّة لِلُّغة والتفكير التي تفرضها الطبيعة والحياة... الشعر، كما تقول، سفرٌ نحو المطلق، لجوءٌ إلى عالمٍ أوسع من عالمنا الأرضي ذي الأبعاد الثلاثة، أو الأربعة حسب نظرية الفيزياء الحديثة! عالمٍ متعدِّد الأبعاد، لانهائي... الشعر، في عيون فردوس، تجاوزٌ لِنهائيَّةِ الأشياء، تماهٍ بالآلهة، «لغةُ الروح». (استخدمَتْ هذا التعبير الأخير يوم لقائنا الأول في ميونيخ.)
غير أنها على السرير تصمت، لا تُمارس لغةَ الروح. تُفضِّلُ لغةَ الجسد. تعشقُها، تُجِيدُها، تمارسُ تفاصيلها الصغيرة ببطءٍ وشغفٍ وعبادة وحريّة... السرير بالنسبة لها لحظةُ خشوعٍ للاحتفال بالحواس، قصيدةٌ عضويَّةٌ حرّةٌ، لغةٌ بيولوجية ترفدُ لغةَ الروح، تُهيِّجُ دورتَها الدمويّة...
لكنها اليوم، قبيل مغادرتي لضواحي باريس، تثرثر، تحاول أن تستقرئ ما يختفي وراء هذه «المهمّة العلميّة» الجديدة، أن تستشفّ إجاباتي، أن تلمح في منعطفاتها ما يفسِّر هشاشة حضوري، ما يستشرف البرنامج الخفيّ لهذا الشهر الذي سأطير فيه بعيداً عنها...
لغتُها الشعرية طافحةٌ على السرير هذه المرّة! لعلّ الشعر كان دوماً عزاء المحرومين، مأوى الضائعين، فتوح المهزومين، فنتازيا المقهورين، منهل الظامئين والمغلوبين على عشقهم... تلجأ اليوم للشعر لإغرائي واستعادتي والاستيلاء عليّ لأنها تعرفُ أنه نقطة ضعفي الخالدة. تعرف أني رضعتُ عشقَ الشعر منذ طفولتي. ورثتُ جيناته من أبي الذي كان، طوال سنوات معرفتي به، مغرماً مسكوناً ممحوناً بالشِّعر... أدمنتُ ونَشرتُ الشِّعر صغيراً. ثمّ أحرقتُ يوماً ديوان شعري لأرى أحرفهُ مغسولةً بالنار، لأقرأ صفحاته في صيغتها الأخيرة المشتعلة، لأكتب بعد ذلك قصيدةً أخيرة عن «نهاية الشعر»، عن آخر حسرات الديوان المحترق!... لكني أعشقُ الشعر بشكلٍ مُطلق، أعرفُ أني إن كنتُ في هذه الدنيا الفانية أهْلاً لِلَقبٍ واحدٍ فهو: شاعرٌ فقط، شاعرٌ لا غير. «شاعرٌ متقاعد» على حدِّ تعبير فردوس...
لعلّي أديرُ أبحاثاً جامعيّة علميّة (هذه مهنتي)، أكتبُ روايةً أدبيةً بين الحين والحين. لكنهما ليستا أكثر من هوايتَي شاعرٍ قديم يُشغِلُ بهما سنوات تقاعدِهِ الشعريّ. لا يدَّعي أنه يهبهما نفس ذلك الشغف والعشق الذي انتزعهما منه الشعر منذ الطفولة. هما هوايتا شاعرٍ مهزوم خرسَتْ ملكاتُه الشعريّة إلى الأبد، صار حبيساً عن الشعر يوم أوحَتْ له آلهةُ الشِّعر بآخر قصائده، فردوس. لم يعدْ بعدها يحتاج للشعر، لأنه صار يمتلكه...
أغادر المنزل في الفجر. عينا فردوس قصيدةٌ قلقةٌ حائرةٌ حزينة ترثي غروب العاطفة، نهاية الشعر، تتحدّث عن الخراب القَدريّ الذي يدقُّ مفاصل الزمن...
(2)
أعشقُ لحظةَ بدء كلِّ لقاءٍ مع حنايا، على هامش مؤتمر علمي في كاليفورنيا أو روما، أو أثناء دعوات علمية في باريس أو لندن. أحترق ببطء في انتظار هذه اللحظة. أعِدُّ نفسي لكلِّ تفاصيلها الصغيرة بكلِّ خشوعٍ وتفان. أمارس طقوسها بنفس الوتيرة: عندما يكون موعدنا باريس، أصِلُ قبل حنايا بيوم أو بساعات كافية، لأسكن في شقَّةِ عمارةٍ صغيرة خاصّةٍ بضيوف مُجمَّع مختبرات أبحاث قرب جامعة أورسيه (باريس 12)، في ضواحي جنوب باريس. تفصل عمارتي عن عمارتها عشرات أمتار فقط...
أتوجَّهُ لانتظارها في مطار شارل ديجول، أو في محطة قطار الأوروستار الذي يربطُ باريس بلندن مخترقاً أحشاء بحر المانش. أصِلُ دوماً قبل موعدِها بأكثر من ساعةٍ ونصف...
أنتظرها أمام باب الخروج قبل حوالي ثلاثة أرباع ساعة. أراقب كلَّ شيء: أوبرا أصوات وإعلانات وضوضاء المطار، قسمات وجوه العابرين وأنماطهم، جِماعَ الضوء الخارجي بأضواء النيون في الصالة، خلجات وهموم المنتظرين حولي... لا أُضيع تفصيلاً صغيراً في لحظة مقدَّسةٍ كهذه. أقف مواجهاً باب الخروج في نهاية رواق مرور الواصلين، كي ألمح حنايا في الواجهة لحظة انفتاح الباب الأوتوماتيكي مباشرة، كي أراها كلّاً وهي تخرج من الباب تنظر يساراً ويميناً بحثاً عنّي، ثمّ تلمحني أمامها في نهاية الرواق، تتقدّم بضعة خطوات في طريقها إليّ بابتسامة بعيدة، بلمعةٍ في العين لا تخلو من ظلال سعادة...
لم تصل بعد. تتأخر دوماً عن الخروج، أنتظر بقلق شديد...
أراها أخيراً تخرجُ من الباب بحقيبة سفرها الرمادية، بفستانٍ حريريٍّ أبيض، من ماركة «كينزو»، تتخلَّلُهُ بعض النقوشِ الفيروزية التجريدية الأنيقة، اشتريناه معاً في رحلتها السابقة لباريس. شَعرُها الكستنائي الفاتح أقصر من قبل، حديث التسريحة كأنها خرجت للتو من صالون كوافير. وضعتْ خاتمها وعقدها العُمانيَّين اللذين أفضِلهما... أحزرُ لمعة عينيها وابتسامتها. أتحوّلُ، من رأسي إلى قدميي، «سكانيراً» يلتقط صورها «بِيكسلاً بيكسلاً»، الصورة بعد الأخرى... تقترب، تصل...
قُبْلةٌ في الشفتين أنتظرها بِلوَعةٍ، أحلمُ بها منذ أمَد، أغدو إثرها مثل إلهٍ في يومهِ السابع...
أستنشق حنايا في هذه اللحظة بالذات التي يختلط فيها عطرها المفضَّل، أوبيوم سان لوران، بنسمةٍ خفيفةٍ دافئة من رائحة جسدها الذي هدهدَهُ حراكُ الرحلة. أعشق نكهة هذه النسمة الطازجة، أُقدِّسُها، أبحثُ عنها بين طبقات العطر التي تفوح من كلِّ جسدها، أُسَمِّيها: عَطْرُ العَطْر، عرَقُ الآلهة...
همساتٌ ومناجاةٌ خفيفة. ألمح لمعةَ عينيها خلالهما. ثمّ قُبلةٌ عميقةٌ طويلة تعيشها كلُّ خلايا جسدي، تحتفلُ بها، تستنشقُها، تبتلعُها ابتلاعاً... هاأنذا مستعدٌّ للإقلاع في أحضان حناياي...
تاكسي يُقِلُّنا نحو عمارةِ سكنِها، تتخلَّلُه قبلات عميقةٌ مشتاقة. نصعد مع حقيبة السفر إلى الغرفة. الشوق في أَوْجِه. ساعاتٌ من العناق الحار أمام نافذة غرفتها المطلّة على غابة أورسيه. السماء صدفيَّة اللون، مملوءة بسحب هائمة. حنايا، مثل فردوس، لا تملُّ التحديق السادر الولهان بالسماء المثخنة بالسحب المسافرة. لعلّ ذلك ولعهما المشترك الوحيد...
ثمَّ عناق طويلٌ في السرير. كلماتٌ ملتهبة. دموع...
نخرجُ قبيل المغرب لنمشي في وسط باريس. نتوجَّهُ للعشاء في أحّدِ المطاعم الدولية في الحيّ اللاتيني أو مونبارناس، أو في أحّدِ المطاعم الفرنسية الراقية حول الشانزليزيه. أشعر دوماً بالسعادة وأنا أقودُ ملعقتي إلى ثغرها لأُذوِّقها شذرات من أطباقي، المرّةَ تلو الأخرى.. أكرِّرُ سؤالاً ينفلتُ منّي بعفوية، لا أملُّ سماع الردِّ عليه:
- كيفك؟ هل أنت سعيدة؟...
- نعم، أنا بخير، حبيبي!...
عمّاذا نتحدث عندما لا نتحدَّث عن عواطفنا، ذكرياتنا، أشواقنا، حياتنا وهمومنا اليومية، وعندما لا نُعلِّق بشغف أو بسخرية على ما يدور حولنا؟... نتحدَّث عن الدماغ، الروح، التفكير، الخيال... عن برنامج عمل حنايا خلال هذا الشهر...
موضوع أبحاث حنايا هو «رسم الخارطة الدقيقة للدماغ في أبعادها الثلاثة». يعرف العلم منذ زمن أن الدماغ مناطق مستقلة عديدة جدّاً. لكلِّ منطقة وظيفة ذهنية محدَّدة: اللغة، انسكلوبيديا الذهن، تفسير سلوك الآخرين، النظر، المشاعر، تقييم الخطر، حركة الجسد... مشروع عمل حنايا هو رسم هذه الخارطة بشكل دقيق، أي تحديد دور كل عصبون من عصبونات كُرتَي الدماغ في أداء هذه الوظيفة الذهنية أو تلك. مشروعٌ موسوعيُّ الحجم لانهائي التعقيد، يدلو فيه، كلّاً بدلوه، باحثون من مجالات مختلفة، يؤثِّثونه معاً، كتفاً بكتف...
وسائل البحث متعددة: 1) أجهزة تصوير الدماغ المربوطة بتحليل الكمبيوتر، مثل أجهزة تصوير الدماغ بتوموجرافيا إرسال المواضع، أو بالرنين المغناطيسيّ الذريّ (أحّدُ أهم اكتشافات العلم قاطبة في السنوات الأخيرة، إن لم يكن أهمَّها إطلاقاً) تعطي صورةً رقميّةً ديناميكيّةً دقيقة للدماغ تُحدِّد نشاطاته في هذه اللحظة أو تلك. 2) حالات المصابين بِتلفٍ في بعض مناطق الدماغ تسمح بربط العلاقة بين المناطق التالفة والوظائف الذهنية الناقصة أو المُختلَّة لدى أولئك المرضى... تخصّصات ومناهج البحث كثيرةٌ أيضاً، تُغنِي بعضها البعض: علوم العصبونات، العلوم الذهنية، الرياضيات، علوم الكمبيوتر، العلوم الاجتماعية، علوم اللغة...
سألتُها:
- ما هو برنامج عمل هذا الشهر؟
- سأشتغل مع فريق من أطباء الدماغ ومتخصصين في العلوم الذهنية والاجتماعية بدراسة «قاعدة بيانات» من صور أدمغة مرضى. يوجّه الفريق (أثناء العملية الجراحية، عندما تكون كوفية جمجمة المريض منزوعةَ العظام، مفتوحةً على مصراعيها كطاسة...) أسئلة محدَّدة للمريض تشبه الامتحانات المدرسية. يكون المريض حينها مخدَّراً في حالة سكونٍ شبه كلّي، لا تنشطُ أثناء إجاباته إلا المناطق المرتبطة بالإجابات. ثم يعطي الفريق، مثل المدرِّس، تقويمات ودرجات لإجاباته تُشخِّص وتُحدِّدُ مدى الخلل. أنطلق أنا من هذه التقويمات والدرجات، من صور أدمغة أولئك المصابين، من نظريات متخصصة في الإحصائيات الرياضية، ومن نمذجةٍ رياضيةٍ اقترحتُها لعلاقات العصبونات مع بعضها... أنطلقُ من كلِّ ذلك لِتحديد العلاقة بين المناطق التالفة في الدماغ وهذه الوظيفة الذهنية المختلّة أو تلك... نقارن هذه النتائج أيضاً بنتائج توجيه نفس الأسئلة لأناسٍ غير مصابين، يتمّ تصوير نشاطات أدمغتهم أثناء الإجابة على نفس الأسئلة، أو أثناء التفكير...
أذهلتني عبارة «يتمّ تصوير نشاطات أدمغتهم أثناء التفكير»! شعرتُ بِ«دوش» من الماء المثلَّج ينسكب على ظهري... كلُّ ما كنتُ أعرفهُ هو أن أجهزة تصوير الدماغ تستطيع مثلاً إدراك إذا كان الإنسان، في لحظةٍ ما، يفكِّر في صورة أو في مكان جغرافيّ، من خلال رؤية الموقع «المضيء» في الدماغ، أي ذلك الذي تحدث فيه الخلجات الكهروكيماوية... لكن يبدو أن معلوماتي تجاوزها العلم بكثير... طلبتُ من حنايا الشرح. تردَّدَتْ قليلاً لأن ذلك مرتبطٌ ببرامج علمية خاصة تمسُّ أخطر المواضيع العلمية وأكثرها أهمية في الغرب (تلك التي أدّت لِتقدُّمِهِ ولِسيادته على العالم): التفكير، العقل، الدماغ...
أنتهت حنايا بتوضيح أنها، ضمن فريق دوليٍّ أمريكي فرنسي ألماني بريطاني متعدِّد الاختصاصات، تساهم في تطوير برنامج كمبيوتر اسمه «قارئة الفنجان» هدفه قراءة تفكير الإنسان!
وعدتها بالكتمان، شرحتْ لي الخطوط العريضة لِطُرقِ عملهم: يوجِّهُ الفريق العلمي أسئلة متنوعة لعدد من الناس. يتمُّ تصوير نشاطات أدمغتهم أثناء الردّ. يدرس الفريق العلمي تفاعلات الدماغ أثناء الإجابات. ثم يتمُّ تعليم برنامج كمبيوتر طرائق تحليل الفريق العلمي للإجابات وتحديده لِتداخلات وهويّات مناطق الدماغ التي اشتغلت أثناءها. إثر ذلك يتعلَّمُ الكمبيوتر كيف يصل لنفس نتائج الفريق من مجرد تصوير نشاطات دماغ الإنسان وهو يفكِّر، دون أن يُعبِّر شفويّاً عمّا يفكر به! أي أن الكمبيوتر يتعلّم كيف يقرأ باطن الإنسان!
أضافت لِتُضاعف دهشتي وإذهالي:
- ثمّة أيضاً برنامج آخر أسمه «الفيلسوف، كاشف الأسرار» يربط برنامج «قارئة الفنجان» بقاعدة موسوعيّة من المعارف العلمية والثقافية والاجتماعية، النظرية والتطبيقية، لِينتهي بتقديم تقرير شامل، يمكن قراءته على شاشة الكمبيوتر بعد دقائق فقط!
- تقرير؟... سألت حنايا غير مصدِّقٍ ما أسمعه!
- نعم! تقرير مكتوب، هو عبارة عن تحليلٍ فلسفي عميق لما يدور في دماغ الإنسان ممزوجٍ بآراء وتحليلات «الفيلسوف» التي تربطُ، كما قلتُ قبل قليل، هذه التحليلات بمعارف علمية جوهرية، ذات طابع شمولي عام. ينطلق «الفيلسوف» من كل ذلك، يفذلكه، لِيُخرج أخيراً تقريراً مثيراً مذهلاً وعميقاً جدّاً، له طابع فلسفيّ أوسع من الوصفِ المقتضبِ المباشر الذي يسردُهُ برنامج «قارئة الفنجان»!
بلغَتْ صعقتي ذروتَها وأنا أسمع هذه الأسرار العلمية الخفية، شديدة الجوهرية والعبقرية والأهمية القصوى! توسَّلتُ حنايا أن تُجرِّب هذه الأجهزة معي، أن تريني تقرير «الفيلسوف» وهو يقرأ، يُنظِّرُ، ويُحلِّلُ ما أفكّر به. وعدتني أنها ستعمل الإجراءات الإدارية اللازمة للسماح لي بالتجريب، خلال يومين فقط. لأن علاقات علميّة قويّة تربط مختبرات مجمّعنا العلمي... تعهّدتُ بالالتزام بكل الشروط الأمنية والإدارية لذلك...
أشعرُ بالرجفة! ماذا تبقّى للإنسان الآن؟ هاهو اليوم يتقيأ دماغه من فمه وأنفه، يضعه في فنجان، يراقبه كقارئة فنجان، يُحلِّله كفيلسوف، يكتب تقريراً عنه، ثمَّ يُعيده لقُمقُمِه...
عندما لا أتحدث مع حنايا عن الدماغ، نتحدّث عن أهم انتاجاته: الخيال. تشرح لي حنايا سيرورة الخيال كنشاط ذهني، كعملية «معالجة معلومات». تُلخِّص لي بصعوبة ما يعرفه العلم عن هذه الوظيفة الدماغية شديدة التعقيد والأهمية والعبقرية والعظمة: كيف يتمُّ إنتاج الخيال في الدماغ بواسطة عملية «دمجٍ ذهنيٍّ» لطوبات من المفاهيم الصغيرة، ماذا يحدث في «فضاء الدمج»، ما هي العمليات الرياضية التي تتم في ذلك الفضاء... أصغي لها بشذوهٍ تام وإن لم أفهم كلَّ ما تقوله. يذهلني شرحها الرياضي للخيال ك«سيرورة» حاسوبية، كبرنامج «معالجة معلومات». تذهلني طريقتها في تفكيك ما تسمّيه فردوس: «العرفان»، هذا المفهوم الصوفيّ الغامض الجميل الذي ترعرع طويلاً في حضارات فارس وبين النهرين...
أتذكّر حينها فردوس التي يُهمُّها ويسحرها موضوع الخيال، بنفس مقدار حنايا، ولكن من منظورٍ شعريٍّ بحت...
حوار مع فردوس في صحيفة أدبيّة:
- ما هو المشروع الشعري الذي تنتمين إليه؟
- كسر حدود اللغة، تحرير الإنسان من قيود المنتهى...
- طريقك إليه؟
- الخيال، الحلم!
- هل لكِ أن توضّحي ذلك؟
- لا أقصد هنا الخيال «النقابي»، الحلم «الأرضي»، ذلك الذي يتخيَّلُ فيه الإنسان وجبةً غذائية أفضل، عمارةَ سكن أكثر راحة وثراء، حياةً يومية أقل قساوة... لا أقصد أيضاً الخيال والحلم الذي يُعبِّرُ عن رغبات نفسيّة مكبوتة...
- ماذا تقصدين إذن؟
- الخيال العلوي «اللدُنِّي»، الحلم الميتافيزيقي. ذلك الذي يكسر حدود الزمن، قيود الواقع، يتجاوز ترسيمات الأشياء وقوانينها الفيزيائية...
- كيف الوصول إلى ذلك؟
- عبر «العرفان»! عبر الدماغ الذي يهرب من قوانين الدماغ...
بعد الدماغِ الذي يضع الدماغَ في فنجان لِيقرأه، هاأنذا أمام الدماغ الذي يهرب من الدماغ! ما أروع رياضيات حنايا وشعر فردوس! أؤمن أن الرياضيات والشعر هما لغتا خالق الكون! احتاجَ لهما يوم خلق السموات والأرض. لعله احتاجَ للرياضيات في الستة الأيام الأولى، وللشعر في اليوم السابع!...
فردوس وحنايا لا تؤمنان بالآلهة، شأنهما شأن معظم سكّان الغرب (مثل فرنسا التي عرفت حرباً ضروساً بين الدين والعلم، لاسيما في عصر التنوير، انهزم أثناءها الدين على كل الجبهات. فرنسا التي انفصل فيها الدينُ عن الدولةِ، منذ أكثر من قرن، حيث لا تعترفُ المدرسة الحكومية بأَيّ دِين، بما فيه المسيحية)... ما يثيرني هو وسيلتهما للتعبير عن ذلك. فردوس تستخدم الشعر، تستشهد بستيفان مالاراميه: «التقيت بالعدم! باللاشيء-الحقيقة!». حنايا تستخدم لغة مختلفة تصبُّ في نفس المعنى عندما تتحدّث عن «الدماغ الذي صنع مفهوم الآلهة»...
أعشق فردوس وحنايا. معهما أعيش في بُعدين متعامدين، هذه سيمفونيتي! لعلَّ أبي الذي أسماني: شمسان (اسم الجبال البركانية القابعة في شواطئ خليج عدَن) تناغمَ في ذلك، بدون وعي، مع ما وهبتني الحياة لاحقاً: شمسي الأولى، فردوس. والثانية، حنايا... فأنا أدِيمٌ تُقدِّسُ هاتين الشمسين، تستضيء بهما، تغتلي بدفئهما. أنا، لا غير، أرضٌ لِشمسَين، معبدٌ لآلهتين، مَخدعٌ لحُلمَين، جوفٌ لِقلْبَين...
نمشي طويلاً في باريس قبل العودة لِشُقَّةِ حنايا. نعشق كثيراً المشي في العواصم والمدن الكبرى التي نلتقي بها، لاسيّما باريس. نُقبِّل بعضنا بدفء ورِقَّة في كلِّ شارع، في كلِّ جسر، في كلِّ غابةٍ ومقهى، في كلِّ مكان تعانقنا فيه في زيارات سابقة، في كلِّ موقعٍ زرعنا فيه ذكريات قديمة... عادةٌ لا إرادية، عنيفة، صادقة، نعشقها بشكل مفرط، لا نجيد ترويضها ولا نستطيع تقنينها، لا نرتوي منها أبداً...
لكلِّ شارع، لكلِّ ساحة وحديقة وركن وطريق... اسمٌ اخترعناه يحلُّ محلّ الاسم الرسمي، لِيُخلِّد شيئاً من ذكرياتنا فيه، أو ليحفظ تعليقاً ما خطر ببال أحدنا أثناء المرور به: شارع الخاتم المتمرِّد (الذي أضعتُ فيه فصّ خاتمٍ من العقيق اليماني، حاولت حنايا عبَثاً تثبيتَهُ في حلقة الخاتم، أكثر من مرّة)، شارع القُبلة اللامنتهية، كنيسة الوعد (التي عمَّدنا قربها، بالعناق، وعداً مشتركاً خطر ببالينا بالصدفة، في نفس الوقت)، فندق ال«شورت» المفقود (الفندق الذي نست فيه حنايا بنطلونها الشورت)، نافورة آية الكرسي، مقهى الإيميل الحزين، محطة قُبلة الوداع، شجرة فطائر «الكريب» بالشكولاته، شارع الوعكة (وعكة غرامية حادّة، تجاوزناها غراميّاً في أيّام قليلة)، منعطف الشحرورة (كنّا نقابلها في السابعة مساء بالتحديد، في منعطفٍ ناءٍ في غابة أورسيه، عندما نتجوّل فيها بعد الخروج من مختبرينا!)، شارع سندويتش فخوذ الضفادع (الذي تناولناه معاً بشهيّةٍ هائلة ذات ظهيرةٍ ممطرة)...
لكلِّ يومٍ من أيام الشهر حدثٌ خالد نحتفل به (في ديننا، حنايا وأنا، نحتفل بالذكرى الشهرية للأحداث الحميمة وليس بالذكرى السنوية): عيد عناق الأرجل (في الأول من كلِّ شهر، لتخليد يوم الأول من ديسمبر الذي التقينا فيه في مطعم مع حشرٍ من الزملاء. طلبتُ سرّاً من حنايا التي كانت تواجهني في الطاولة أن تضع قدميها فوق قدميّ أسفل الطاولة، طوال الوجبة، لشدّة شوقنا لبعضنا ولاستحالة القُبلة فيه)، عيد ميلادها الشهري (نحتفل به في الثاني من كل شهر. ولدت حنايا في الثاني من مارس، لذلك نحتفل بواحد على اثني عشر، 12/1، من عيد ميلادها في الثاني من ابريل، بسدس عيد ميلادها في الثاني من مايو، بربعه في الثاني من يونيو، بثلثه في يوليو...) عيد القُبلة الأولى (في الثالث من كل شهر، لتخليد الثالث من مايو العظيم، يوم القبلة الأولى)، عيد الرسالة الأولى (في الرابع من كل شهر)، العيد الوطني (في الخامس من كل شهر، يوم تعارفنا في أورسيه في حفلة أقامها المجمع العلمي ضَمَّتْ باحثين من مختبرات شتّى، قبل ثلاثة سنوات من الآن)...
في هذا الشهر سنحتفل بكلِّ المناسبات الخالدة معاً، وجهاً بوجه، ثغراً بثغر، هنا في باريس، وليس من خلال الرسائل والايمايلات، كما هي العادة في الغالب... سنضيف مواعيد وتواريخ وذكريات جديدة لأجندة عشقنا. سنواصل تغيير خارطة باريس وتسمية شوارعها وأركانها وساحاتها بما يُخلِّد هذا الشهر الذي يفترش طويلاً أمامنا...
نَصِلُ عمارتها. الغرفة مصمَّمةٌ بإتقان، جميلةٌ كحلم. جدارها مكسوٌّ بالأحمر الخفيف في النصف الأسفل، والبرتقالي الفاتح في النصف الأعلى، يفصلهما شريطٌ أفقيٌّ بنفسجيٌّ تتخلَّلُه منحنيات ورديّة حمراء ناعمة. مجرَّدُ تذكُّرِ ذلك الجدار يُذكي فينا معاً، حنايا وأنا، تيّاراً كهربائياً من الأحاسيس والأشواق القويّة الدافقة...
هي مستلقيةٌ وسط السرير. جسدٌ من حرير. صوتٌ مخمليّ. حامورةٌ ورديّة. أظافر حمراء. أعين واسعة. مسحوقٌ عطريٌّ عُمَانيٌّ عبِق، أسفل الأذنين، يفتح النفس. رشّاتٌ مُتقنَةٌ من أبيوم سان لوران تغسل كلَّ جسدها. ينبوع عطرٍ يغسلُ ينبوعَ صدقٍ وصفاءٍ ورقّةٍ وعشق. يغسل العشقُ بِنُورِهِ من يشاء...
لا تتعرَّى، لا تخلع ثيابها. تتخشَّب فجأة. لم تعد نفس حنايا الرقيقة الشفافة، الوديعة البسيطة، صافية السريرة، ذات القلب البلوري الذي يمتحن الضوء فيه نفسه... ثمّة ثالثٌ يحُوْلُ بيننا على السرير: الأديان؟ الشيطان؟ العادات والتقاليد؟ القرون الظلامية؟... ثمّة ثالثٌ يُحدِّد تغيُّرات الطقس الجويّ ويرسم خارطة الطريق. لا اعرفها على السرير. نُقبِّل بعضنا بنفس الحرارة والشوق والعمق. بنفس العشق... ثمَّ يحقُّ لي، بعد كفاحٍ طويل، بين الحين والحين فقط، لمسَها ومداعبتَها، شربَ شهقاتِها الصغيرة والإصغاءَ المفتون للذَّتها الساحرة...
عدا ذلك، قُدِّر لي الاحتقان الدائم، الحرمان الكامل من لمساتها ومداعباتها، من حرِّيتها في عناقي وعشقي، من مجرَّد لمسِها لِبشرة صدري فقط أو تقبيل كتفي العاري لا غير...
هذه الشابّة الحرّة الشامخة المخلوقة بجينات العصافير تنقبض، تتحوّل إلى لعبة بلاستيكية مُغلَقة، لا تبادلني العشق، لا تبادر، لا تعطي، لا تحترم مبدأ «التماثل الهندسي» الذي بدونه يصيرُ العشقُ تصفيقاً بيدٍ واحدة، لا تتجرأ التمرُّد على الثالث غير المرئي الذي يُحدِّدُ خارطة الطريق، تنهال عليَّ بقطيعٍ من اللاءات الكاسرة!... تتحوّل إلى حارس سجن، تتقوقع، تختفي، تلتحف الملايات كَكَفن، تُطفئ الضوء... يتحوّل السرير في لحظةٍ صغيرة إلى مقبرة. تحتضنني كجُثّة، أعانقها كصليب... أنكمشُ فجأة لأني أحيا على إيقاعها، لأني لستُ أكثر من صدأٍ لخلجاتها، لأني لا أستطيع التوحُّد معها وسط مراسيم جنائزية... أُعطِّفُ رغباتي، أحمل أحزاني كعصفورٍ جريح...
هذه الألمعية في خفايا علوم العصبونات الذهنية، التي تعرف كيف ترسم خارطة الروح بِيُراع الرياضيات، التي ستفتح لي أبواب برنامج «كاشف الأسرار»، التي ستجعلني أكتشفُ السيرة الذاتية للآلهة، أفكِّكُ قصص الأديان، وأُنهي دَيْناً عريقاً واخزاً بيني وبين والدي... ليست ألمعيّةً في علوم الجسد، ترسم خارطته بأسلاك شائكة، تستخدم عبقريتها لتحويله شبكةً من مناطق محرّمة، كثباناً من عُقدٍ وعراقيل...
أشعر بالقهر والظلم: يكفي غالباً عشقٌ طفيفٌ لِيتوحَّدَ البشر منذ آلاف السنين، ببساطة وسعادة، فيما نحن العاشقَين الحقيقيَّين، اللذين خُلقنا لنحيا بحريّة وتفجّر وانطلاق واحتفالٍ دائم، نتخبَّط في متاهات سخيفة، نلهث في أروقةٍ موصدةٍ مظلمة، هنا داخل هذه الغرفة الباريسية الرومانسية المواجِهة لغابةٍ هادئةٍ جميلة وقمرٍ صامتٍ رقيق!... أشعرُ بالحزن والألم: تنغلق حنايا على نفسها، تتخندقُ في غرفة معزولةٍ داخل سجنٍ خفيّ، حواسُها ومشاعرُها تُقرفصُ في كهفٍ صامتٍ مظلمٍ بارد، هي التي خُلِقَتْ أساساً للغرام والعشق والعبادة واللذة العنيفة...
الليل خيمةٌ قَبَليَّة تحوم حولها أرواحٌ شاحبةٌ نحيلةٌ مقهورة...
عندما تشعر أني ظامئٌ لعاطفتها وعطفها واهتمامها ولمساتها ومبادراتها، وأني أتوق أن تُترجم لي (بِلمسةٍ رقيقةٍ واحدة مثلاً) أنها لا تعتبرني مغتصباً، قرصاناً، غازياً، باحثاً عن تحقيق نزوةٍ ليس إلا؛ عندما تحسُّ حاجتي المحترقة لأن تؤكِّدَ لي (بِلَمسةٍٍٍ حرّةٍ خفيفة) أنها تشاركني نفس العشق الهائل؛ عندما تشعر بعنفِ حاجتي الصامتة لذلك، تبكي!... تبوح بكلماتٍ تُقطِّع القلب، لا أسمع فيها أكثر من أصداء نداءات قبيلتها العُمانية...
أكتم مشاعري حينها لئلا أمُسَّ مناطق غائرة مؤلمة... ثمّة فعلاً ثالثٌ غير مرئي عليه اللعنة!...
من هي حنايا؟... شابَّةٌ من سلطنة عمان تعيش في لندن. لا اعرف أكثر من ذلك تقريباً. كما لا تعرفُ هي أكثر من كوني يمنيٌّ من عدَن يحيا في فرنسا. متزوجة؟ لا اعرف ولا أودّ معرفة ذلك. مثلما لا تعرف ولا تودُّ معرفة تفاصيل حياتي الأسَرية. كلُّ ما نعرفه هو أننا نعشق بعضنا من الأعماق عشقاً عاصفاً صادقاً، بدأ يوم التقينا بالصدفة لأول مرّة، في حفلةٍ رسمية في مجمع المختبرات العلمية المجاور لجامعة أورسيه، قبل ثلاثة سنوات...
كانت حفلة لتوقيع تعاقد أبحاث مع دولة أوربية اسكندنافية. أصرَّ ممثِّلوها أن تكون حفلةً رسميّةً تبدأ بالنشيد الوطنيّ للبلدين! تقليدٌ غير أليف إطلاقاً في الأوساط العلمية... كنت واقفاً أثناء النشيدين الوطنيين، مثل كلِّ المدعوِّيين، عندما لمحتُ فتاةً تبعدني ثلاثة صفوف، جالسةً دون اكتراث! الجميع مستقيمٌ إلا هي!...
بعد مراسيم التوقيع، بدأ الحفل. توجَّهتُ نحوها. لاحظتُ على التو أن لها نفس لونِيَ النحاسيِّ الفاتح، ولهجةً تقترب كثيراً من لهجتي العدنيّة. هي من مواليد صلالة في سلطنة عمان!... شعرتُ بتيارٍ كهربائي مفاجئٍ عنيف وأنا أتفحَّصُ أثناء دردشتنا جمالَها البدويَّ الأوربيَّ النادر. أثارني أيضاً تناغم أمزجة مدينتينا، صلالة وعدَن...
سألتُها، منذ البدء، «لماذا لم تقفي مثل الجميع أثناء النشيدين الوطنيين؟» أجابت بهدوء أنها تسخر من «مفهوم» النشيد الوطني بشكلٍ عام، تستخف من ممارسة هذا التقليد! كلُّ ما يرمز للحدود الجغرافية بين البشر، كلُّ ما يُميِّزُ بين أبناء نفس «النوع البيولوجي» يثير قرفها. أضافت: «النشيد الوطني هو نشيد القبيلة وقد أضحَتْ بحجم وطن! أنا ضدّ نشيد القبيلة! أنا مع عالَمٍ بلا حدود!»...
أتذكَّرُ الآن، على السرير، عبارتها هذه! يالِلْبَونِ الشاسع! هي طليعيةٌ هكذا بشكلٍ يفوق كلّ قياس. بينما هنا، على السرير، على بُعد سبعة ألف كيلومتر من القبيلة، تتحوَّل مصنعاً للحدود والجمارك والعراقيل. لها، هنا على السرير، نفس نبرات الصوت الخاضع لِشقيقةِ انتيجون، إسْمِن، وهي تقول (في التراجيدية الإغريقية «انتيجون» لِسوفلوك): «أنا ولدتُ في تِيْبْ، لا أستطيع أن أفكّر وأسلك إلا مثل أهل تِيْبْ!»...
عندما تشعر حنايا بالرغبة في النوم، تقول لي: «لو سمحْتَ!». أفهم أنه لم يعد عليّ إلا أن أغطِّيها بالملايات كي تنام كطفلة، أن أعطِّفَ جسدي، أن أخْرُجَ مطروداً من الجنَّة إلى أحضان الشيطان...
إذا حالفني الحظ أسمع هذه العبارة وأنا على وشك إغلاق الباب:
- قُبلة أخيرة!...
نعود لتكرار نفس الطقوس، بنفس اللوعة والرغبة. ثمّ أسمع من صاحبة الجلالة «لو سمحْتَ!» أخيرة، مُطْلَقة، قاطعةً مانعة، لا رجوع بعدها...
أخرج صوب عمارتي في ساعة متأخرة من الليل، كجنديٍّ مهزوم، أحملُ كلَّ خيبات العالم فوق كاهلي. لا افهم شيئاً مما يحدث. كيف يطيب لها أن تُدميني شبقاً وتُحرمني منها في نفس الوقت؟ ماذا ارتكبتُ من ذنبٍ في الحياة لأتأرجح بين لظى وصقيع هذه المعادلة الزجزاجيّة؟...
أتستعرضُ بذلك فقط روعة جسدها، دفق وطزج حناياه، حيويّة وخصوبة أنسجته الركينة، رقّة وتوقّد أعضائه الحميمة؟...
أتعتقدُ حقّاً بمقولة «الشيخ» بودلير: «لا يتلذّذ الرجل مع معشوقته الحقيقية»؟ (مقولةُ عاشقٍ متقاعد يحتفل بشيخوخته، لا أكثر ولا أقل!) ألا تُفضِّلُ عليها مقولة محمود درويش: «إذا كان لا بدَّ من عشقٍ فليكن كاملاً كاملاً...»؟
أهي ساديّةٌ (لا أعتقد)؟ أنانية (لا أظن)؟ أتعشقُني حقّاً (لست أدري، ربما، أتساءل...)؟ أتلعبُ أمامي دورَ إمبراطورة، أو فينوس، أو آلهةٍ أنثوية تريدني أن أدفع ضريبة كلّ خطايا رجال العالم، تعاقب عبري «حمران العيون» من البشر، تثأر من نهبهم، شراهتهم، فظاظتهم، نزعتهم الاغتصابية؟...
أتنتقمُ لِفردوس التي أهملتُها البارحة؟ أتريد أن أدفع ثمن محاولتي عصيان الآية القرآنية: «ما جعلَ الله لِرجُلٍ من قلبين في جوفه»؟...
أم أنه للوصول إلى السماء الثامنة،
للذوبان في عطر العطر،
للاغتسال بعرَقِ الآلهة،
لبلوغ حنايا حناياي،
يلزم كثيراً من الكشف والمعاناة والمكابدة،
يلزم أوّلاً الغوصُ في أعماق التاريخ بحثاً عن الثالثِ اللامرئي، عن سرِّ كاشف الأسرار هو نفسه؟...
أدخل غرفتي وحيداً بشاربي المفلفل الكثيف المعقوف. أشاهده في المرآة. كم هو مدعاةٌ للسخرية في هذه اللحظات بالذات!... أبكي صامتاً. لا تسمعني حنايا. أصرخ بلا صوت: «حرام عليك!...»
(3)
لزم أن يقترب الفجر لأستعيد تفاصيل ما قالته حنايا عن «كاشف الأسرار». كنت أظن أن برنامجاً مغامراً شديد الطموح والتعقيد كهذا لا تتجرأ الخوضَ فيه إلا أفلامُ التخيُّلِ العلمي. لكن العلم يسير كما يبدو بخطوات خفيّة لا هوادة في تسارعها، لاسيما في المجالات الأكثر أهميّة واستراتيجية في دُنيا الغرب: الدماغ والتفكير...
لعلي لاحظت ذلك حال وصولي فرنسا للدراسة، في منتصف السبعينات، بعد الأزمة البترولية بقليل. كان الشعار اليميني المشين الذي لا يخلو من العنصرية: «نحن ليس لدينا بترول، لكن لدينا أفكار!» كثيرَ الرواج حينها... ما أثار إعجابي بالمقابل هو أن الطالب يتعلَّم هنا أن حياة الإنسان على الأرض لا تُحدِّدها المصادر والثروات والإمكانيات الطبيعية، بقدر ما يُحدِّدها مدى الأفكار وحدود المعارف! لا يحتاج الإنسان للفحم مثلاً، كَفَحم. يحتاج للطاقة فقط، التي يمكن توليدها بطريقة أو بأخرى: بالفحم، أو بالبترول (الذي كان يعتبر إلى زمن قريب ماءً مُلوَّثاً ليس إلا)، أو بالتفاعلات النوويّة، أو بأي فكرةٍ أخرى. ماء الشرب ليس مشروطاً بالآبار، بل يمكن استخلاصه من البحر أو بوسائل أخرى. الرمل الذي لم يكن له أهمية كبيرة في الماضي، أُستخدم أوّلاً في صناعة الزجاج، وها هو يستخدم اليوم كمادة رئيسة في صناعة الأقراص المدمّجة «سي دي روم»، و«سيليسيوم» أجهزة الكمبيوتر! انعقاد الاجتماعات التي تضمُّ بشراً من أماكن جغرافية متباعدة لم يَعد اليوم مشروطاً بالسفر، بالإمكان عقدها بطريقة «الفيزيوكونفرنس». أنترنت، قبل هذا وذاك، منح البشرية إمكانيات وموارد جديدة لا حدود لها، لم تخطر ببال قبل ذلك...
قلتُ لِنفسي: إذا كان لديّ موضوعٌ أريد أن أقدِّمه لحضرة كاشف الأسرار وأقرأ تحليلَهُ وتقريرَهُ عنه، فهو: حنايا! حنايا نفسها، لغز ألغازي: ثلاثة سنوات من عشقٍ رقيق عارم التقينا خلالها في أرقى عواصم العالم، في كثير من فنادقها ودورِ ضيافة جامعاتها. زرنا متاحفها وعبرنا شوارعها حتى ساعات متأخرة من الليل. تبادلنا العناق والذكريات، لم نتوقف عن المراسلة والاتصالات... وفصلتْنا مع ذلك خارطةُ طريق مستحيلةُ التفسير والإدراك!...
كنتُ أتوق لأن أختبرَ بأم عينيّ ما قالته حنايا عن كاشف الأسرار (الذي بدا لي إعجازاً علميّاً خارقاً)، وأخاف في نفس الوقت أن أُعرِّي أمامه معشوقتي (التي أحرص أنا نفسي على تغطية جسدِها قبل النوم بالملايات). راودتني مع ذلك رغبةٌ شديدة، لم أستطع كبحها، في أن أفكِّرَ أمامه بكل تفاصيل لقاءاتنا، وبكل ما تقاطر إلى أذني عن طفولتها أثناء حوارات متباعدة، لأتأكَّدَ أوّلاً أن كاشف الأسرار استطاعَ فعلاً قراءة ما يدور ببالي وأدركَ كنهَ ما أفكّر به، ثمّ لأصغي لتحليله واضاءاته بعد ذلك لأسرار خارطة الطريق...
حنايا تتحدّث بصعوبة عن طفولتها. هي مثل أهل عمان منغلقةٌ على نفسها متحفِّظةٌ كتومة... عُمان بلدٌ صامت، باردٌ جدّاً (لا أعني الطقس الجويّ بطبيعة الحال)، يجيد فن إخفاء نفسه عن العالم، يمارس بمنهجية العزلة والتستر والحياة في الظلّ، في الزوايا المظلمة الخفيّة... لو أقيمت حلبةُ رقصٍ كونيّةٌ شبابيةٌ صاخبة يحضرها ممثلٌ عن كل بلد، فممثلُ عمان سيصلها من باب خلفي، بالخنجر والعمامة الفولكلورية والقميص التقليدي، سيتنحّى بوقار في أكثر زواياها ظُلمَةً ليشربَ كأساً من القهوة العربيّة دون أن يتحدّث مع أحد، سيغادرُ الحلبة في العاشرة مساء معتذراً (بابتسامة مقتضبةٍ، بحشمةٍ وحسنِ أدبٍ جم)، قائلاً إن عليه إن يغادر للنوم...
كنّا نتجوّل في سنترال بارك عندما عرفت من حنايا أن هناك رجلا خدش بمخالبه طفولتها إلى الأبد: سلطان بن محمد البوحديد! يثير هلعها حتى اليوم. تخاف مكْرَه حتّى وهي تعيش في لندن، بعد كل هذه السنين التي أبعدتها عنه... قالت:
- سلطان قريبٌ من قمّة السلطة، إن لم يكن الأقرب! لعله أكثر الناس نفوذاً. أسمتهُ حنايا: «قائد ميليشيا الظلمات»، لأنه يدير كلَّ شيء خلف الكواليس. يشتغل في الظل، يميل إلى ذلك، لا يمكنه إلا أن يكون كذلك حتى لا يحفر قبرَهُ بِيده، لأن الظلّ يمنع الآخرين من رؤية حجم سلطته ومدى تورطاته، ويضمن له ما يُفضِّلهُ على الدوام: فضاءَ نفوذٍ هو سيّدُهُ الأوحد دون منازع أو سلطان آخر...
أدار مؤسسات اقتصادية حسّاسة قابضة، كان وزيراً للاقتصاد والمالية والتجارة، لكنه كان دوماً أحد مفاتيح الأمن في البلاد إن لم يكن مفتاحها الأهم. يُوجِّهُ مباشرةً حيناً ومن الخلف حيناً آخر شئونَ المكتب السلطاني والبلاط. ذلك ما يهمه أساساً... السمعة المحمودة التي أكتسبها عند إدارة الوزارات والمؤسسات لم تكن إلا بغرض ذرِّ الغبار في الأعين، واكتسابِ صورةٍ مقنَّعةٍ تسمحُ له بإخفاء طبيعته الأخطبوطية. ثمَّ هو، قبل كلِّ هذا وذاك، شديدُ الغنى، متعدِّدُ المليارات الموزعة بعناية وذكاء في الخارج، بين عقارات وأموال سائلة وممتلكات وأسهم بورصة...
سألتُ حنايا: كيف وصل إلى ذلك؟
أجابت: كان والده الشيخ محمد بوالحديد تاجراً في عمان التي كانت فقيرة قبيل الطفرة البترولية. أرسله للدراسة في مصر، ثمَّ في لندن... أبي (شقيق سلطان من الأم) عاش في منزل سلطان الذي كان طبيعياً أن يضمّه لرعايته منذ أن توفّت أمهما وهما صغيران. ثمَّ رافق أبي أخاه للدراسة في الخارج...
في المنزل كان سلطان الطفل المدلّل، الأمير الصغير... أختلف أبي عن سلطان في أشياء كثيرة: كان وسيماً بشكلٍ غير اعتيادي، بهي الطلعة، فارع الطول، مغامراً، متمرِّداً، شديد الثقة بنفسه، يستقبح مفهوم القبيلة ولا يطيق سجون عاداتها وتقاليدها... كان حلمه أن يكون ممثلاً سينمائياً لا أكثر ولا أقل! لم يهتم كثيراً بالدراسة كسلطان الذي واظب عليها في مصر ولندن، قبل أن يعودَ إلى عمان ويتسلّقَ بلمحةِ بصر هرمَ الاقتصاد والإدارة. عاد أبي بعده بأشْهُر بزوجةٍ إنجليزية، وبميولٍ ثورية قادته للانضمام إلى الجبهة الشعبية لتحرير عمان ولعبِ دورٍ قياديٍّ فيها...
واظب سلطان، مثل أبيه، على توجيه دفّة القبيلة وإدارة طقوسها اليومية. أضحى واجهتَها الرسمية، مايسترو موازينها وأعرافها وعلاقاتها. اختار سلطان بالطبع جانبَ السلطان (لكل امرئٍ من اسمه حظٌّ ونصيب). ثمَّ دخل في مؤامرة قتلِهِ لصالحِ السلطانِ الابن (لِسلطان حاسّةٌ سادسةٌ نموذجية تسمح له باختيار المرمى المنتصر على الدوام).
مثل السلطانِ الابن كان سلطانُ حريصاً على ضرب الثورة الناهضة بكل الوسائل. جاءهما مدُّ الدول المجاورة التي دبَّرت أيضاً مؤامرة اغتيال الرئيس المتنوِّر إبراهيم الحمدي في شمال اليمن وضمنَتْ لِليمن قبوعاً ثابتاً في وحْلِ القبيلةِ والتخلفِ والفسادِ حتّى اليوم. استنهضَ السلطانُ وسلطانُ القبائل. كان الثاني المبعوثَ الرسمي للأول إليها والمهندسَ المبدع لِتحريضها وكسب ولائها بكلِّ الوسائل، من الدعاية المضادة للثورة واستنهاض النعرات وتمجيد الماضي والأعراف، إلى المدِّ المالي والكرم والحديث المطرَّزِ بالتأدب والمدح...
تمَّ إخماد الثورة وإن صمد بعض مناضليها الأكثر عناداً وبسالة. كان والدي أحدهم. استُخدِمَت ضد هؤلاء القوة والاغراء ووسائل ماكرة متعدِّدة... لم ينس سلطان حمايةَ أخيه. اختطفه وأخفاه في رعاية قبيلةٍ قريبةٍ منه. أرسلَ والدتي، التي كانت حاملةً بي، للوضع في «مستشفى الجمهورية» في عدَن (مستشفى الملكة اليزابث، كما كان يسمى أيام الاستعمار الإنجليزي). ثمَّ تمكّن من تهريب أبي ليلحقها إلى عدَن...
بعد أن كسب سلطان أخاه بهذه الحماية والثقة، أغراه بالنفوذ والمال وبعضٍ من سلطتِهِ وممتلكاته. أسال لعابَه. فسلطانُ الذي كان سابقاً «فأر أنابيب» أضحى «حوت أنابيب»، ازداد دهاءً وتجربةً ومعرفةً بكل مفاصل الحياة العمانية، لاسيما بعد عودته من لندن وانخراطه في كل المطابخ السياسية الناجحة. تميَّز على الدوام بمهارته في فنّ الإغراء وإسقاط النفوس. يؤمن بشكلٍٍ قاطع أن أي إنسان في الكون قابلٌ للشراء إذا قُدِّم له السعر المناسب! ثمّ هو يعرف طبيعة أبي وحاجاته الدفينة. يعرف أن أبي، في عمق أعماقه، يشبهه بشكلٍ أو بآخر...
كان سلطانُ واثقاً أن الثورة في عدَن، التي أصرَّ على تهريب أبي إليها، لم تكن ممتعةً كفيلمٍ سينمائي، إن لم تكن أقصر الطرق التي ستجعل أبي «يُعَطِّف» ثوريّتَه ويبحث عن دربٍ آخر... وعدَهُ أيضاً بمنصب سفير، «أقرب الوظائف إلى دور الممثل السينمائي»، كما قال له بما لا يخلو من السخريّة!
وقعَ أبي في صُنّارة أخيه. خان آخر رفاقه. عاد إلى عمان بصحبتي وأمي. ثمَّ طلّق أمي بعد أن ضمن له سلطان حضانتي. عادت أمي إلى لندن مقهورةً حاقدة لتبدأ كفاحاً طويلا من أجل استعادتي، دام سنوات، وانتهى بصفقة غامضةٍ أجهلُ كلَّ تفاصيلها...
عُيِّنَ أبي سفيراً. أحبَّ ذلك كثيراً. بدأ يجول العالم. ثمَّ فقد اهتمامه بالمال والأعمال! عشق حسناء إيرانية، لها علاقةُ قرابةٍ بعائلة شاه إيران، «هرب» ليعيش معها في ضيعةٍ هادئةٍ نائية في أمريكا!... كان ابتعادُه المفاجئ عن العمل الدبلوماسي فضيحةً تركها عبئاً على سلطان، كادت أن تنفجر في وجهه لولا أنه استطاع لملمتَها وتحجيمَ آثارها بمراوغته ودهائه واستخدامه للقوة والنفوذ والإغراء في نفس الوقت، وإن لم يستطع إطفاء حقدِهِ الشخصي على أخيه «الخائن»...
في جولةٍ مع حنايا في روما (بين نافورة دوتريفي، ساحة أسبانيا، وحديقة سيركوس ماكسيمو)، بعد حوالي سنة من لقاء سنترال بارك، أضافت لِسيرتها ما يلي:
كنتُ وديعةً بيد سلطان. لم يعاملني بسوء. زوجته وأطفاله كانوا يحبونني كثيراً بلا شك... غير أنه ظلَّ ساخطاً على والدي بعد هروبه. كنتُ أكرهه كثيراً لأنه يجيد إظهار صورة إنسانٍ بسيطٍ متواضع، حسن الأخلاق، لكنه يخفي شيطاناً ميكافيلياً، خطيراً جدا، يمكنه عمل أي شيء للوصول لأهدافه حتى وإن اضطره ذلك سنيناً من الانتظار...
عرفتُ فيما بعد من أمي، التي كانت زميلة سلطان في الجامعة، أنه يكرهها لأنه أحبَّها في نفس وقت أخيه، إن لم يكن قبله بقليل، لكنها اختارت أبي ورفضت عمّي... لم يغفر سلطان لها ذلك. طوال سنين حياتي في بيت سلطان غرس في ذهني أن أمي باغية، وأنه مارس العشق معها في الخفاء عن أبي قبل زواجهما، وأنّها طلبَتْ منه النوم معها بعد زواجها بأبي، لكنه رفض!...
كان يراني صورةً مصغَّرةً من أمي لأني كنتُ أشبهها شكلاً وسلوكاً. لم يتوقف عن شتمها وعن القسَم بأنه سيضمن لي تربيةً معاكسة. لعله كان يحتقر الحب والجنس (لا أظن أنه أحبَّ أمي فعلاً، لكنه اشتهاها لا غير، بشكلٍ أو بآخر) وإن كان يميل للحديث عن بطولات غرامية مع فتيات من شرق الأرض إلى غربها. له، حسب الدعاية التي يحب أن يُسرِّبها في محيطه القريب، عشيقات من أمريكا وفرنسا وايطاليا وألمانيا والهند وإيران... الحق أن الشيخ سلطان بن محمد البوحديد لا يستطيع أن يعشق أحداً غير نفسه!
كان يجيد حكاية الأمور، تقبيحها أو تجميلها، حسب رغباته وسجيّته. حاول تربيتي لأكون عكس أمي تماماً. أحاطني بطاقمٍ من المربيات والداعيات المهنيّات اللواتي لم يتوقفن أيضاً عن شتم أمي «العاهرة» وأبي «الفاشل». حاصرنني بكلِّ المحضورات، أضعاف محاصرتهن بقية بنات القصر. لعلي صرتُ بسبب ذلك سلفيَّة متطرِّفةً في لحظةٍ ما...
(4)
بعد يومين وصلتُ إلى مختبر العصبونات الذهنية، في الصباح الباكر. كان لي موعدٌ مع رئيسه. استقبلتني حنايا في بهو المختبر بفانيلة بلون الخردل (صفراء مُخضرَّة) أنيقةٍ عليها بعض النقوش اليابانية البنفسجية، ببنطلونٍ بُنيٍّ كاكي من ماركةٍ راقية، بابتسامةٍ نابضة ولمعةٍ في العينين أعشقُها بشكل خاص...
في أحد جدران البهو صُوَرٌ لعلماء لم أعرف منهم إلا دو بوركا الذي توجدُ منطقةٌ في دماغ الإنسان تحملُ اسمَه. اشتهر بأنه درس بعض الإرتباكات اللغوية لِمريضٍ أحبس متعثِّر النطق، اسمه لوبورن. ثمَّ أجرى لدماغ ذلك المريض بعد موته عمليةَ تشريح في عام 1861، ليجد «ثُقباً»، أو خللا في منطقة محدَّدة فيه (تسمى اليوم بمنطقة دو بوركا)، مسئولةٍ عن النطق.
في وسط بهو المختبر علبةٌ زجاجية ضخمة تحوي كُرَتين ثلاثيتي الأبعاد مرسومةٌ عليهما خارطةُ الدماغ الإنساني. لعلَّ خارطة الكرة الأرضية الجغرافية والجيولوجية بالمقارنة بها أشبه بلعبة طفل...
قابلتُ رئيس المختبر بصحبة حنايا التي قامت بتقديمنا لبعضنا. شرح لي أني سأبدأ بعد بضعة أيام فحصاً وامتحاناً شاملا لدماغي بغرض إدخال خصوصياته وطوبوغرافيته لبرنامج كاشف الأسرار، قبل أن يبدأ البرنامج قراءة وتحليل أفكاري. سيستغرق الفحص أسبوعا كاملا!...
- أسبوع كامل؟، سألتُ مستغرباً...
- نعم، لا يمكننا بعدُ أتمتةَ هذه المرحلة التمهيدية الضرورية. يلزم حالياً فريقٌ من حوالي تسعة متخصصين لدراسة نتائج أسبوع الفحص، وتكييف المؤشرات العامة لبرنامج كاشف الأسرار، بشكلٍ يَدَوِيّ، لتنسجم مع مقاسات دماغ الممتحَن. نحتاج لسنين كثيرة من الأبحاث قبل أتمتةِ هذه المرحلة بشكل كامل (أو بعض أجزائها على الأقل) وتأهيلِ الكمبيوتر ليحلَّ محل الفريق العلمي، ويوجز هذه المرحلة التمهيدية في ساعاتٍ قليلةٍ فقط. لكنها في الوقت الراهن مرحلةٌ طويلة، شائكة، قد تكون مملّةً جدّا بالنسبة لك...
وافقتُ على شروط وبرنامج الفحص، وقّعتُ على عددٍ من الأوراق الإدارية التي تُلزمني بعدم الحديث عن تفاصيل الأجهزة التي سأراها، وتفاصيل برنامج العمل... ثمَّ قال لي إنه سيقدِّم لي بعض التعليمات النهائية قبل بدء اللقاء مع كاشف الأسرار مباشرة، ليستطيع الأخير قراءة أفكاري «ساخنة»!...
ثمَّ بدأتُ أسبوعاً مكثَّفاً من الامتحانات الدقيقة التي صُوِّرَتْ خلالها نشاطات دماغي دون توقّف. إمتحاناتٌ لدراسة مستوى وسرعة نشاطي الذهني، سرعة اتصالات عصبوناتي، سرعة الفهم، درجة الانتباه، الذاكرة... ثمّ امتحانات وتحليلات لمدى الاضطرابات الذهنية والعاطفية... إمتحانات أخرى لتحليل المستوى الثقافي العام... قُدِّمت لي صورٌ وأفلامٌ تمَّ تصويرُ ودراسة تفاعل دماغي معها أوَّلاً بأوّل بدِقّةٍ ميكروسكوبية... إمتحانات أخرى كثيرة وطويلة ارتبطت باللغة، بأسلوب التعبير، والاضطرابات اللغوية الممكنة...
عرفتُ أنهم في المختبر يركِّزون بشكلٍ استثنائي على تحليل اللغة كونها منظومةَ إشارات للتعبير عن الأفكار، ووسيلةً متميزة لنقلها. لمختبرهم أبحاث طليعية وتخصصات نادرة في هذا المجال... تمَّ تسجيل ردودي والتصوير الديناميكي لنشاطات دماغي في نفس الوقت، بُغية التحديد الدقيق لخارطته الخاصة. قبل ذلك مررت امتحانات متخصصة بالاعتقادات الكاذبة (درجة أولى، ودرجة ثانية)، وامتحانات أخرى لقراءة الأفكار الكاذبة، وتحليل العواطف من النظرات...
في بداية الأسبوع مررتُ أيضاً امتحانات كتابية. سألني الكمبيوتر:
- هل تكتب باليد اليسار أو اليمين؟
- أنا «أضْبَطٌ»، يمكنني، مثل بعض الناس، استخدام اليدين في الكتابة.
ركَّز الفريق على حالتي باهتمام أكبر. لعلّهم في المختبر يبحثون عن عيّناتٍ مثلي لإغناء أبحاثهم، لاسيما وأن طوبولوجيا الدماغ تختلفُ قليلاً عندما تُستخدمُ اليدُ اليمين، أو اليسار، أو الإثنتين معاً للكتابة... كدتُ أضيفُ لإجابتي الأخيرة: «لعلّي لذلك أعشق فردوس وحنايا في نفس الوقت!»، لكني كتمتُ ذلك...
عقد الفريق أكثر من اجتماعٍ يوميٍّ لِمقارنة النتائج أوّلاً بأوَّل. تمَّ إعادة بعض الامتحانات من جديد وبِطُرقٍ مختلفة عند بروز اختلافات في التحاليل بين أعضاء الفريق العلمي. ثمّ مررتُ امتحانات خاصة بالمخيخ لدراسة نشاطات التوهم... تلتها امتحانات هامة ومطوَّلة مسَّتْ «الذهن الاجتماعي»، الوعي بالذات، الأحكام الأخلاقية والقرارات الشخصية... تمَّ تصوير دماغي بدقّة هائلة عند رؤية مقاطع محدَّدة من بعض الأفلام والصور بُغية فهم وإجلاء قسمات وملامح بسيكولوجيتي و«مسلَّماتي الحدسيّة» الاجتماعية...
لم أتوقف خلال كلِّ الأسبوع من مواجهةِ شاشةٍ ضخمة امتلأت بفيلمٍ مسرحُهُ وبطلُهُ الوحيد: دماغي. امتلأت الشاشة ببعض مناطقهِ أو بهِ كلِّه، بخارطةٍ لتضاريسِهِ تزدادُ تحديداً ساعةً بعد ساعة، بالإشارات الجرافيكية الملونة، بالأسهم المتحركة، بالألوان المختلفة والوسائل «متعدِّدةِ الوسائط» الراقية... أسبوعٌ كامل التصقَ خلالهُ بِجمجمتي أخطبوطٌ من اللاقطات والكشّافات الالكترونية الصغيرة الموزّعة على مواضع مختلفة في رأسي للتنصُّتِ على رعشات عصبوناته، والمربوطة بأسلاك رفيعة (أو باتصالات لاسلكية) بكمبيوترات جبّارةٍ عديدة. واجهتني شاشات كمبيوتر لم تتوقّف من إخراج رسومات جرافيكية ملوَّنة وتحليلات لمقاطع معيّنة من دماغي وطباعة تقارير مصغَّرة عنها... بعضُها كانت ترسم جمجمتي منزوعةَ الفوهةِ العظميّة، يملأها حساءٌ مُلوَّنٌ كثيفٌ يقبعُ داخل طستٍ من عظام...
فوق كشّافات ولاقطات قلنسوةِ جمجمتي حزمةٌ متنوِّعة من أحدثِ ما وصل العلمُ إليه من أجهزة تصوير الدماغ، أشبه برادارات وغوّاصات وهيلوكبترات التجسُّسِ العسكرية... لا تتوقَّفُ شاشاتُ الكمبيوتر من تحليل صور هذه الأجهزة ورسم الخرائط الديناميكية المتغيّرة لخطوط المواصلات الكهروكيماوية التي تربط محطَّات عصبوناتي. الدماغ على الشاشة يُشبه كوكباً مكتظّاً بمليارات الأنفاق والسراديب والممرّات والقنوات التي تعبرها ملايين المليارات من النمل بسرعة جنونية... وفي الجهة الخلفية من دماغي، وراء جدارٍ زجاجي، هيئةُ الأركان بكامل طاقمها: أقصدُ فريقاً علميّاً رفيع المستوى، يعقدُ بكلِّ أعضائه اجتماعات متواصلة وكأنه في حالة طوارئ دائمة...
لفت انتباهي هذا الحوار مع الكمبيوتر الذي سألني في منتصف الأسبوع:
- لو كان لك أن تختار مسقطَ رأسك فماذا ستختار؟
- رأس الرجاء الصالح!... (لعلَّ هذه الإجابة خطرت ببالي قبل ذلك، في آخر زيارةٍ سياحيّة لي مع فردوس إلى جنوب أفريقيا)
- لماذا؟...
- أحبُّ كثيراً أقصى القارة الأفريقية، حيث يتعانق المحيط الهندي بالمحيط الأطلسي! أعشقُ بشكل خاص تلك البقعة الجغرافية الميثولوجية التي تتوحّدُ فيها أمواج الأوّلِ الدافئة مع أمواج الثاني الباردة. منطقةٌ متميَّزة الثراء: تحملُ لها أمواج المحيط الهندي مناخَها، دفأَها، أسماكَها وقواقعَها ونباتاتها، وتحملُ لها أمواج المحيط الأطلسي كلَّ خصوصياتها أيضاً. تختلف فيها درجة حرارة الماء 14 درجة بين نقطتين لا تفصلهما غير عشرة كيلومترات فقط، إحداهما في المحيط الهندي والأخرى في المحيط الأطلسي!... لذلك هي أغنى مناطق العالم بالنباتات والأسماك المتنوعة والطيور النادرة...
كدتُ أضيف لإجابتي: «لعلي لذلك أيضاً أعشق فردوس وحنايا في نفس الوقت!»... كتمتُ ذلك. استغربتُ حينها من الكمبيوتر وهو يسألني هذه المرّة:
- ماذا أردتَ الإضافة؟
- لا شيء...، أجبتُ.
- هل أنت متأكد من ذلك؟
- ...
رمقتُ لحظتها، في إحدى شاشات الكمبيوتر، إشارات وخطوط حمراء غريبة وتقارير مستعجلة قُدِّمت لتحليل الفريق العلمي (تلتها همسات واختلاف في الآراء وتحفّظات، ونظراتٌ شزرتني بتفحّصٍ سريع)... أعيدت جراء ذلك من جديد امتحانات خاصة لدرجة مصداقيتي وتحديد النقاط التي لا أنوي الحديث عنها... أيقنتُ حينها أنه حتى وإن لم ينته بعدُ أسبوعُ دراسة طوبوجرافيا دماغي، فلدى الكمبيوتر صورةٌ جزئيةٌ عنه لا يستهان بدقَّتِها... ثمَّ فوجئتُ بالفريق العلمي يضحك عند قراءة تقرير صغيرٍ عاجل وصلهُ من الكمبيوتر!... سألتُ أحدَ أعضاء الفريق في نهاية ذلك اليوم عن سبب ضحكهم. أجاب أن الكمبيوتر، الذي يميل أحيانا لاستخدام الفكاهة لاسيّما عندما يرى الفريق في حالة استغراق وتفكير مُرهِقَين، علَّقَ قائلاً: «نحنُ أمام حيوانٍ برمائي!...»
(5)
في لحظةٍ مفاجئةٍ من اليوم الثامن من الفحص قال لي رئيس المختبر:
- يبدو أن عند كاشف الأسرار صورةً كاملةً دقيقة لِخصوصيات بُنيةِ دماغك وطريقةِ عمله! هو جاهزٌ الآن لقراءةِ كتابِ أفكارك والتفاعلِ معها. لو كنتَ نائماً تحلمُ أمامهُ الآن، فبإمكانه سردَ ما تحلم به وكتابةَ تقريرٍ عنه!... بعد دقائق إذن ستبدأ لقاءك بكاشف الأسرار. نُحبِّذُ أن يكون الموضوع الذي تفكِّرُ فيه موضوعاً يُهمُّكَ كثيراً، يُثيرك جدّاً، تتجاذبك فيه آراء وفرضيات مختلفة، ذكريات قويّة، تضاربات واستفسارات عديدة... يُهمُّنا جدّا اختبارَ مقدرات الكاشف على استشفافِ المواضيع المعقّدة، بعد أن نجح كثيراً في السنوات الماضية في قراءة وتحليل مواضيع التفكير الصغيرة لعددٍ كبيرٍ من الأفراد!...
قلتُ لنفسي: سأحاول خوض موضوع حنايا، بشكلٍ أو بآخر، مُلَفِّقاً اسمَها وهويَّتَها بما أستطيعُهُ من تغليفٍ وتوريات، كي يُجلي لي كاشفُ الأسرارِ خفايا هذا العشق الذي تخنقُهُ «خارطة الطريق»!... لولا أن رئيس المختبر أضاف:
- ستستلم التقرير بعد أقلِّ من نصف ساعة من انتهاء لقاءِك مع كاشف الأسرار. ثمَّ سيبدأُ الفريقُ العلمي اجتماعات لتحليل التقرير معك من الغد، لأخذ رأيك فيه، ولمناقشة جدواه في ضوء الصور الديناميكية التي سنأخذها لدماغك... سنحتاج كثيراً لرأيك الشخصي وانطباعاتك الدقيقة حول كلِّ فقرات التقرير، حول مدى إدراكِ كاشف الأسرار لما كنتَ تفكِّر به. يُهمُّنا بشكلٍ خاص تقويمك لِعمقِ تحليله لمواضيع تفكيرك الرئيسة وإجلاء ما لم يلتقطهُ منها إطلاقاً أو ما يلتقطهُ جزئياً فقط... أتمنى لك تفكيراً مثمراً، تقريراً عميقاً، وحظّاً سعيدا!...
سحبتُ إثر ذلك موضوع حنايا من مائدة التفكير في حضرة كاشف الأسرار. كان آخرُ ما يمكنني أن أرتكبهُ هو «تعريتَها» أمام زملاء عملها! شعرتُ أني سأنكشف تماماً عند النقاش معهم مهما حاولتُ إخفاءَ شخصيتها وتمويهَ سِيرتها، لأن اللاقطات الالكترونية التي ستُغرَسُ في تلابيب وأقبية دماغي، وبرامجَ الكمبيوتر العبقريّةَ التي ستُحلِّلُ حركاته وسكناته، المدجَّجةَ بآخر نتائج علوم «الذكاء الاصطناعي»، ستكشفُ سريعاً النقابَ عن مغالطةٍ جسيمة، رديئةٍ جدّاً...
في تلك اللحظة بالذات صعدَتْ من عمق أعماق دماغي ذكرياتٌ كثيفةٌ غامضة استطعتُ تناسيها بضعة عشرات سنوات وإن داهمتْني في الحلم هنا وهناك! صعدَتْ بقوّة وهدوء وثقة وكأنها بانتظار هذا الموعد منذ زمنٍ طويل... ثمّة في حياة المرء لحظاتٌ غريبة تظلُّ نائمةً في الغور، منسيَّةً لزمنٍ طويل، قبل أن تتحرَّرَ من قمقمِها وتندفعَ نحو السطح في لحظةٍ قدَريَّةٍ مفاجئة...
مسرحُ تلك الذكريات الخلاءاتُ الرمليّةُ المحيطةُ بحيّ الشيخ عثمان في عدَن، مسقط رأسي... وسطُ المسرح طفلٌ لم يكمل الرابعة عشرة من العمر، نحيفٌ إلى حدٍّ ما، يلبسُ قميصاً أخضر غير متقن الكواية، وبنطلوناً أسود غير مضبوط النهايات. بجانبه والدُه الطويلُ المتينُ الجسد، بِوجهِهِ ذي اللون الأحمر الفاتح، بعمامته وقميصه التقليديين الأبيضين اللذين يهبانه طلعةً دينيةً جليلة...
أخذني أبي ذلك اليوم لنتجوَّلَ وحدَينا في الكثبان الرملية المحيطة بِحَيِّنا في عدَن، في ساعة نهاية العصر، نفسِ الساعة التي اختارها منذ سنوات لتَلْقِيني دروساً كئيبةً في الفقه والتفسير والنحو والفرائض والبلاغة...
في تلك الساعة العذبة التي تخفُّ فيها وطأة شمس عدَن الماحقة، يتنقلُ أصدقائي في الشارع أو في الخلاءات الرمليّة المجاورة من حارةٍ لِحارة، من ملعبِ كرةٍ لِملعب كرة، من مغازلةٍ لمغازلة... وأنا أتنقَّلُ من شرح الكافوري إلى الزمخشري، من تفسير الصاوي إلى الطبري، من أحاديث الترمذي إلى ابن ماجه، من الزُّبد إلى ألفيَّةِ ابن مالك...
لم يتجوَّل أبي معي رأساً برأس قبل ذلك اليوم. لم أعهده أيضاً بِروحِ فكاهةٍ رفيعةٍ كهذه، بالغَ اللطف والظرافة والإصغاء لما أقوله. أعترفُ أنه كان دوماً لانهائيَّ الحنان والرقّة، لكن المشي أو الحديث معه يعجُّ من طرفِهِ إلى طرفِهِ بِ«الذِّكر» والفقه والشعر الصوفي والنحو وكلّ ما لا يثيرُ متعةَ طفلٍ بِعُمرِ شمسان... اكتشفتُ مع ذلك في تلك الجولة أن دروسه الفقهية القاسية وأشعاره الغليظة يمكنها أن تكون أيضاً واحةَ تسلية وإمتاع! غمرني ذلك اليوم بطرائف لغوية، ضحكتُ لِبعضِها بقوة. أتذكَّرُ لغزاً شعريَّاً رائعاً (لم أنساهُ من ذلك اليوم) اكتشفتُ من مدلوله أن الإنسان بإمكانه أن يكون (بطريقةٍ شرعيّة!) عمّاً لعمَّتِه وخالاً لخالتِه! طلب مني أن أفسِّر ذلك في ضوء الإشارات التي تحملها هذه الأبيات:
لي عمةٌ وأنا عمُّها ولي خالةٌ وأنا خالُها


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.