فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل من رواية أروى
نشر في الجمهورية يوم 24 - 08 - 2008


في البدءِ كان الإس إم إس!
يستغربُ البعضُ أني لم أكتب روايةً حتى الآن رغم «حساسيتي الروائية العالية» كما يقولون!... رغم غزارةِ حياتي أيضاً: تعدُّديةٌ شيّقة، إبحارٌ دائم، رتْلٌ من الصُّدَفِ والأحداثِ والشخوص المتميزةِ المتنوعةِ الضافية!...
ليخلعوا استغرابهم الآن! هاهي روايتي الأولى (إمسكوا أنفسكم جيّداً: سأثقبُ فيها دماغي، سأكرعُ أسراراً مُذهلةً كبرى!)... الأخيرة أيضاً. لأني قرَّرتُ موتي في نهايتها. موتي الفيزيائي الحقيقي!...
من قرّرهُ حقّاً، أنا أم المرأة التي اخترتُها ملِكةً لِما تبقّى من حياتي؟... تلك التي اكتشفتُ في لحظةٍ حاسمة (قبل قليل فقط، عندما قرّرتُ أن أبعث رسالةً هاتفية: إس إم إس) أنها خُلِقتْ لي وحدي وخُلقتُ لها وحدها!...
هي شمسٌ بأعين سوداء واسعة (لعلّ ذلك أفضلُ ما يلخِّصُها بكلمتين)! ذكاءٌ ثاقبٌ وطاقاتٌ لامتناهية! جسدٌ رهيفٌ من موسيقى! روحٌ رشيقةٌ أيضاً! صوتٌ من عسل يغسلُ كلّ أوجاع الحياة! خطواتٌ راقصة! جَمالٌ قاتل! ملِكةٌ حقيقية!...
هي التي سيقول عنها صديقي أوسان: «أروى إعصارٌ من الرقّة اكتسحَ كلَّ شيءٍ في حياتي! جميلةٌ كإلاه! كلُّ ثانيةٍ قربُها عشقٌ وموسيقى وإبداعٌ ولذّة! يكفي أن أراها لِيسقط فوق صدري جبلٌ من السعادة، لا ينزاحُ عنه إلا عند فراقها!»... هي التي سيقول عنها صديقي شوقي: «أروى امرأةٌ لا نظير لها في كلِّ شيء! كلوروفيلُ حياةِ من تهبُهُ قلبَها! يكفي أن تُلامسَ أطرافُ أصابِعِهِ ساعدَها لِيَصلَ الجنّة!»... هي التي سأقول عنها: «كلُّ من يراها يعشقُها بالضرورة!... كلُّ من أحبَّها تحوّلَ مجنوناً، وكلُّ من لم تحب فقدَ عقلَه!»... دونها كنتُ أحيا «خارج النص»! قبْلها عِشتُ حياتي، رغم غزارتِها، خطأً كاملاً من الطرف إلى الطرف!...
من قرّر موتي: أنا أم هي التي أردتُ أن تكون كلوروفيل حياتي بِ «أثَرٍ رَجْعيّ»؟... أنسيتُ أن «العالَمَ مِلكٌ للمرأة، أي مِلكٌ للموت»؟... أليست هذه العبارةُ الجوهريّة، التي تهمسُ بها كلُّ الميثولوجيات والأساطير، أدقَّ تلخيصٍ لسيادةِ المرأةِ على الحياة، أي على الموت (من جدَّتِنا حواء التي هرولَتْ بنا عموديّاً من علِّيْينَ لأرض البوار، حتى اليوم، مروراً بخالتِنا هيلين ذات الكيد العظيم التي انفجرَتْ حربُ طروادة بِسببها، وعمَّتِنا شهرزاد التي أسكرتْ بمزمارِها ثعابين قابض الأرواح)؟... ثمّ أليسَ التوحُّدُ الجنسيُّ (الدخولُ لِملكوتِ المرأةِ والانتماءُ إليه، الركوعُ والسجودُ والابتهالُ في أعطافِه، التفجُّرُ في أروقتِه، ثمَّ الفناءُ والموتُ في محرابِه) تجسيداً بيولوجيّاً رياضيّاً رمزيّاً لهذه العبارة؟...
في بدء هذه الرواية كان إذن هذا الإس إم إس:
«عزيزتي أروى! أودُّ دعوتكِ لِمقهى بهوِ فندقِ ميريديان لندن، بجوار بيكادلي سركس، بعد غدٍ الخامسة عصراً!... إسمي باسل، صديقٌ قديم لِمُنيف وأَوْسان وشوقي! لعلهم حدّثوك يوماً عني وإن لم أرهم منذ حوالي 40 سنة! رأيتُ أوسان فقط هذا اليوم في روما!...
خالص الودِّ والتقدير!
باسل عبدالصمد»
أتصوَّرُ تماماً مفاجأتها وذهولها وهي تقرأ هذا الإس إم إس الذي زحلقتُ فيه (لأضمنَ مجيئها) 3 أسماء تقاسمت كلَّ خفقات قلبِها وأحلامِ حياتها ولَذَّاتِها الصغيرة! كلَّ عذاباتِها أيضاً: منيف وأَوْسَان وشوقي!...
أغربُ ما في الأمرِ أن ثمّةَ علاقةً قديمة، عميقةً جدّاً، مُبهمةً أحياناً، تربطنا معاً كرباعيّ: أوسان، منيف، شوقي وأنا!...
أوسان صديقٌ قديمٌ حميمٌ لي، لم نفترق يوماً منذ السادسة من العمر. كنّا معاً في نفس الصف الدراسي في المدرسة الابتدائية بحيّ الشيخ عثمان بِعدَن، حتى الرابعة عشرة من العمر، في بداية سبعينات القرن المنصرم!... لا ننفصلُ بعد المدرسةِ إلا قليلا!... نتكاملُ بشكلٍ مدهش: كان أوسان أوّل الصف دائماً في الترتيب السنوي، وكنتُ الثاني. لكني «الأوّلُ أبداً، الأفضلُ دوماً!» حسب رأي أوسان!... بالطبع لا تُهمُّني في شيء هذه التقييمات المدرسيَّة السخيفة، لاسيما وأن أوسان (الذي يعرفني أكثر من أيِّ إنسان آخر في هذا الوجود) كان يُكرِّر منذ أوَّلِ عامٍ دراسيٍّ مشترك لنا، وحتى اليوم، أني أذكى إنسانٍ عرفه في حياته!... ناهيك أن الأول (حسب رأي أوسان نفسه) في التقييمات الرسميّة التافهة لِمناهجنا الدراسيةِ الهشّة (المؤسسةِ على التلقين، وليس على تعليمِ المقدرةِ على الرفض والنقد والتفكير والاختراع) ليس الأذكى بالضرورة... هو أفضل الخرفان ليس إلا!...
شوقي صديقٌ حميمٌ لِكلَينا!... متفائلٌ بشوشٌ ممتعٌ جدّاً. شاعرٌ رهيفٌ ممحونٌ بالعشق، يهيمُ في ليلِ الكلمات، ينهلُ من الحياة بلا وَرَع!... كنّا ثالوثاً حقيقيّاً في المدرسة، لا نتوقف عن الضحك والثرثرة، وإن كان شوقي لا يشاركنا نفس الهموم أحياناً: يُدمنُ الشِّعرَ والبنات لا غير (كان شوقي أوسَمنا الأربعة)، يُدمِنُهما بجنون!... يحبُّ درّاجتَهُ الناريّة الحمراء-السوداء (من ماركة هوندا) أيضاً! يطوي عدَنَ بها كلّ يوم! يهيمُ بها بين الحين والحين، وكأنه يسابقُ الريح، حتّى وادي عقّان القريب من الحدود الجنوبيةِ الشماليةِ السابقة!... يتركُ برغبةٍ إغرائية شعرَهُ «الهنديّ» الأسيل (المنفوشَ بعشوائية على الطريقة الهيبيّة) يُرفرفُ على دراجته الناريّة كلّما انسابتْ في أزقّةِ وقفارِ عدَن!...
ظلَّ شوقي متمرِّداً على عادات المجتمع وهو يُطيل شعرَه خارج حدود المألوف!... سيستمرُّ وفيّاً لبعضِ مِيولِهِ المشاكسة حتى صباح 1 يونيو 2008، يومِ أهمِّ مناسبتين سنويّتين في حياته!... سيمتطي فيه درّاجةً نارية (بعد أن توقّف عن هذه العادة منذ أكثر من 30 عاماً) رماديّة اللون، من ماركة كاوازاكي... سيطوفُ بها شوارعَ عدَن لآخر مرة، قبل أن يجدهُ المارَّةُ مدهوسَ الفكِّ، مكسورَ الأنف، مُهشّمَ الجمجمة، مرميّاً على إحدى صخور «جبل حديد» في «جَوْلَةِ خُور مَكْسَر» بِعدَن. شعرُهُ الأسيلُ مُخضَّبٌ بشظايا هلاميّة من ماجما دماغه!... (أعترفُ لكم من الآن: ثمّة موتى كثيرون في هذه الرواية وقاتلٌ واحد!)...
لن أتحدّثَ الآن عن صديقنا اللدود، منيف! سيكون بالضرورة موضوعي الأثير بعد قليل!...
فرّقتنا الحياة جميعاً في الرابعة عشرة، قبل حوالي 40 عاماً من الآن!... منيف توجَّهَ لصنعاء بعد الثانوية العامة. أوسان للدراسة في روما. شوقي ظلّ تمثالاً خالداً في عدَن. وأنا ابنُ العالَم، أجوبُ الكرةَ الأرضية، لا أستقرُّ بمكان، بَلَدي الكوكبُ الأزرق، قبَيلتي الإنسان!...
الفصل الأول
أَوْسَان (1)
خلال أربعةِ عقودٍ تقريباً نسي كلٌّ منّا (أوسان، منيف، شوقي وأنا) الآخرَ في أغلب الأحيان. كلٌّ سبحَ في فَلَكِه، لولا بعض الأخبار التي كنّا نتلقّاها بين الحين والآخر من صديقنا شوقي، بؤرتِنا العدَنيّة!...
شوقي صديقٌ حميمٌ لأوسان، كما يبدو في الظاهر!... يتَّصلُ أوسان بشوقي من روما بانتظام، ويزوره قبل أيّ صديقٍ آخر كلّما سافر في إجازةٍ لعدَن... علاقتهما تخفي سرّاً لم أفهمه منذ طفولتنا حتى الآن! لعلّ شوقي يعتبر أوسان قرصاناً لا يتركُ له مجالاً يتألق فيه!... عندما كتب أوسانُ الشعرَ واستحوذنا شعرُهُ كثيراً، كنا نردِّد: «ماذا تبقّى لك يا شوقي؟»... أزعجَ ذلك شوقي الذي يعتبرُ الشعرَ مملكتَهُ الوحيدةَ الممنوعةَ علينا «عُشّاقِ العلوم والرياضيات»... لعله يُضمِرُ لأوسان عداءً رهيفاً وحذرَاً ما، منذ تلك اللحظة! يعتبرهُ «غريمَهُ الوحيد» في هذا الكون إذا لزمَ أن يكون لهُ غريم!... يُحبُّهُ بِقُوّةٍ أيضاً!...
أتَّصِلُ هاتفيّاً بشوقي، من أيِّ مكانٍ في الدنيا، مساءَ كلِّ خميس!... أبعثُ له بطاقات البريد من كلِّ مدنِ العالم (طقسٌ دِينيٌّ لا أفرِّطُ به!... يؤرشفُ بطاقاتي في ألبومات عديدةٍ متخصِّصة، يسافرُ عبرها في أرجاء الكون، هو الذي لم يغادر اليمن قط!)...
وجّهتُ لِشوقي هذا السؤال عشرات المرات خلال 40 سنة:
- ما أخبار أوسان؟...
- أكمل دراستَهُ في الكيمياء الزراعية في روما في نهاية الثمانينيات. لم يعدْ لليمن بعد ذلك!... هو الآن موظّفٌ دوليٌّ مرموقٌ في الفاو (منظمة الأغذية والزراعة العالمية التابعة للأمم المتحدة)، أبٌ لبنتٍ ووَلدٍ بديعَين سعيدَين ناجحَين، وزوجٌ لِحسناء لُبنانية-إيطالية، ليلى، تعملُ معه في مقرِّ نفس المنظمة في روما، طاف معها الكونَ، يحيى معها بعشقٍ وسعادة، كما يبدو، منذ أكثر من 30 عاماً وإن لا أفهم كيف يمكنُ ذلك!... (لعلّنا نُسمّي عشقاً وسعادةً هذا الكسلَ الذي يصيبُ الزوجين حتماً بعد 30 عاماً من الحياة المشتركة، ويحوِّلهما «موظفَينِ مدى الحياة» في جهازٍ بيروقراطيٍّ يُسمِّيانه الحب!)...
قاطعتهُ (لنا، شوقي وأنا، في نظرية العشق تقاربٌ ملحوظ في وجهات النَّظَر):
- عندك حق! 30 عاماً أكبرُ من العمر البيولوجي لأيّ عِشقٍ إنسانيٍّ حقيقيّ!... ما أسهل أن تتدثَّرَ الحياةُ المشتركةُ في زمنٍ كهذا ببطانيّاتِ أهلِ الكهف!... العشقُ الحقيقيُّ لا يغفو أبداً! هو سُموقٌ وتسلُّقٌ يوميٌّ على شفا هاوية! ذلك يعني: إذا لم يتجاوز نفسَهُ كلَّ يوم، ويصعد من قمّةٍ لِقمّة، فهو مدانٌ بالهرولةِ في هاويةِ الرتابة والاسترخاءِ والعطب!...
استأنفَ:
- أوسان «مجنون ليلى»، بالمعنى الحَرْفيِّ للكلمة، مدى الحياة (يا للضحالة!)، حالةٌ متطرِّفةٌ (مرَضِيَّةٌ ربما!) في وحدانيّته!... رأيتُها معه في أكثر من إجازة في عدَن. ربما يصعبُ على من يُعاشر رائعةً مثلها أن لا يكون أُحَادِيَّ العشق! لكن اعذرني إذا اعتقدتُ أن الحياةَ الثنائية المتأبدة، أيّاً كانت، موتٌ مؤكد!...
- أوافقك من جديد! عبارة رامبو: «الحبُّ يلزمُ إعادةُ ابتكاره!» تثير تأملي دائماً!... أُفضِّلُ الزواجَ تعاقداً لِ 5 أو 7 سنوات، يتمُّ تجديده (مثل الفترات الرئاسية في الدول الديمقراطية) مرّتين أو ثلاث في أفضل الأحوال، إذا لم نرد أن يتحوّلَ الحبُّ فساداً، والآخرُ طاغيةً، والحياةُ المشتركةُ انجرافاً نحو الوُحدةِ والتخثُّرِ والسأمِ الحتميّ!... لكني لم أفهم ما تقصد بِ «حالةٍ متطرِّفةٍ في وحدانيّته»!...
- بعد وصول أوسان لروما للدراسة، وقبل حياته مع ليلى قضّى سنتين جميلتين يكتشف خلالهما عالمه الأوربيّ الجديد!... سمَّاهما بعد أن تعرّف على ليلى: «جاهلية العشق»!... تسميةٌ غير مناسبة، لا أحبُّها شخصيّاً!... يحاول تناسيهما كما لو لم يكونا جزءاً من حياته! ينكرهما قدر ما يستطيع، يناضل لِمحوهما من ذاكرته!... سنتين عاش فيهما أوّل توحُّداته الجسدية مع مُدرِّسةِ لُغةٍ إيطالية طافحةِ الرغبات، تلتْها علاقةٌ غراميةٌ ناعمة مع صديقةٍ صغيرة، كتكوتةٍ جدّاً، تعرَّفَ عليها في حفلةٍ راقصة!... لا أفهم كيف طمَسَتْ ليلى قلبَهُ وقالبَه لِيرفض ماضيه قبلها، وكأنه لم يحدث!...
- كيف وصلتَ إلى هذا الاستنتاج الغائر؟، سألتُ شوقي...
- لم يكن سهلاً بالفعل! لاحظتُ أن أوسان لا يُحدِّثني عن حياتهِ الخاصّةِ في تلكما السنتين إطلاقاً. أثارني تحفُّظُهُ الشديدُ كلّما سألته! جرجرتُه بدهاء أحياناً ليحكي قليلاً!... وصلتُ لاستنتاجي عندما لاحظتُ أنه يتحدَّثُ عنهما (مدرِّستَهُ الشهوانية القديمة، ومعشوقتَهُ الكتكوتة الصغيرة) وكأنهُ يشعرُ بالذنب: «لو رأيتهما الآن فلن أعرفهما! نسيتُ أشكالهما تقريباًَ! نسيتهما تماماً!»...
الجميعُ يثقُ بِشوقي ويُحبُّهُ لأنه طَيِّبٌ بالسليقة، ماكينةُ حُبٍّ للآخرين، يصغي للجميع بتفانٍ وإخلاص!... يتلصّصُ في أسئلته أحياناً وكأنه يعتبر أن واجبَهُ المقدّسَ أن يكون ذاكرتنا الجمعِيّة!... المشكلةُ الوحيدة هو أن شوقي لا يثق إلا بي عندما يريد الفضفضة أو البوح! وأنا لا أستحق الثقةَ بالطبع، لأني سأفشي لكم، دون خجلٍ وبطيبةِ خاطر، كلّ ما قاله لي!... لا تصدقوني إذا حلفتُ أمامكم يوماً أني سأكتمُ السرّ: لا أعترف بِمبدأ كتمان السرِّ، لا أعترف بِمفهوم الِسرِّ أيضاً! جميعنا، في رأيي، مِلكٌ لمختبرِ التجربةِ والمعرفةِ الإنسانية، نحيى لِنعزفَ معاً سيمفونيةَ الوجود، ونُصغي لها في نفس الوقت!...
سألتُ شوقي:
- ألم يتعثَّرْ أوسان قليلاً في حبٍّ عابر هنا أو هناك، خلال 30 عاماً من عشق ليلى؟...
- حدثَتْ له قصَّتان سأحكيهما لك! استنطقتُهُما منه بصعوبةٍ هائلة!... نقاؤه ووفاؤه العشقيّ فيهما متطرِّفٌ كما ستلاحظ! مَرَضِيٌّ في رأيي! لو كنتُ محلّهُ لشعرتُ بالندم!...
- ماذا حدث له؟، سألتهُ بتلصُّصيةٍ جليّة...
- عندما تعرَّفَ أوسان على ليلى كانت بِرفقة صديقتها الدائمة سعاد، إيطالية-لبنانية مثلها! سقطتا معاً، في نفس الوقت، في حبِّ أوسان، بعد أوّل لقاءٍ لهما معه في مقهى الجامعة!... كان في أوجِ تألُّقِهِ حينها وجاذبيتهِ وانفتاحهِ على الحياة!... بعد أسابيع من لقاءاتهم المشتركة، صرّح أوسان حُبَّه لِليلى! (اختارها رغم أنه كان يُحبِّهما معاً، ولو بنسبةٍ متفاوته!)... أخفَتْ سعاد خيبتَها وآلامَها! ظلَّتْ صديقةً لهما، كأنّها لم تعتبر اختيار أوسان لليلى فشلَ حياتِها الأكبر!... تزوَّجَتْ بعد ذلك ببائع ثلّاجات يخلو من عذوبةِ وكياسةِ أوسان!...
ظلّتْ سعادُ تزورُ ليلى وأوسان بين الحين والحين، رغم ابتعادِ سكنِها في ضواحي روما عن شُقَّتِهما في الحيّ الأرستقراطي المتاخم لِ «بازيليك سانت بيير»، كعبة المسيحيين الكاثوليك في حيّ الفاتيكان... لم يذبل حُبُّها الخفيّ لأوسان! بالعكس، ظلّت تمارس كلَّ يوم طقوساً مرتبطةً به: شُربَ الشاي العدنيّ يوميّاً، تحضيرَ «العُشّار» وتناولَهُ مع كلِّ غداء، تَذَكُّرَ كلِّ تفاصيل لقاءاتهما بهوَس، وضعَ خاتمِ العقيق اليمنيّ الذي أهداها يوميّاً!...
أثَّرَ انفصامُ حياتِها، بسببِ حبِّها الجريحِ لأوسان، كثيراً على علاقتها الزوجية! لاسيما وأن زوجها كان فضّاً فجّاً أيضاً... تدهورَتْ هذه العلاقة مع مرّ السنين، وانتهت بطلاق نهائي في لحظةٍ دراميّة!...
لم تمر سعاد في حياتها بِلحظةٍ شكسبيرية قاتلة مثل مساء الطلاق!... لم تعرف ما ستعمل بعد ذلك، من أين تبدأ!... كانت بحاجةٍ لمن تتحدَّث معه!... فكَّرتْ بأوسان بالتأكيد، وبأوسان وحده! لم ترهُ وليلى منذ أشهر طويلة!... تَعرِفُ أنه كان وحيداً ذلك المساء لأن ليلى كانت تشتغل ليلتها في داخليَّةِِ مدرسةٍ ثانوية!...
استعدَّتْ سعادُ للقاءِ أوسان بأحلى عطورها، وأجمل وأعرى فساتينها، كأنها في ليلة زفاف!... لم تكن تحت مفعولِ مُخدِّرٍ أو مُنوِّم، لكنها كانت لا مباليةً بشيء!... (اللامبالاةُ قوّةٌ فوق-طبيعية لا يمتلكها إلا الآلهةُ والجلادون والمحكومُ عليهم بالموتِ المؤكد!)... كانت تُفكِّرُ بِليلةٍ ليلاء تنتقمُ بها من كلِّ شيءٍ في الدنيا، لاسيما من ليلى ومن نفسها أيضاً!... تُفكِّرُ بِمغامرةٍ كبيرة تبدأُ بعدها صفحةً جديدةً من حياتها!... كانت في أوجِ الشوقِ والاشتعالِ والرغبةِ بأوسان في تلك الليلة بشكل خاص!...
قرَّرتْ أن تذهبَ لدعوتِهِ للعشاء في مطعم «أجاتا ورميو» (أفضل مطعمٍ في روما، حسب رأيه!... طالما سمعتْهُ يروي تاريخ المطعم منذ تأسيسه في 1890)... تُزمعُ أن تتحدّثَ معه هناك طويلاً في خلاءٍ شهيٍّ على ضوءِ شمعتين رومانسيّتين، قبل دعوته لاختتام السهرة بكوكتيل بيناكولاداس الخادع، في مقهى قريبٍ من المطعم (تعرفُ كم يحبّ أوسان ذلك الكوكتيل!)... قبل مغادرة روما في صباح اليوم التالي والاختفاء عن أعين أوسان وليلى إلى الأبد!...
وصلَتْ سعادُ لِباب أوسان! رآها بتلك النعومةِ الفاتنةِ لأوّلِ مرة! عطرٌ مثيرٌ باذخ تنساب بين ثناياهِ أقدسُ الروائح: رائحةُ طفل، رائحةُ جسدِها!... جسدٌ في أوجِ تألُّقهِ وانفتاحِه! وجهٌ جميلٌ جدّاً، ضاحكٌ زاهر!... عَرَفَ خبَر طلاقها! فرَحٌ غير أليفٍ يُرفرفُ في ملامحها وهي تذوقُ طعمَ الخلاص والحريّة لأول مرة!... طلبتْ منه تهنئتها، كانت سعيدةً بذلك بشكلٍ عاصف!... لِسُعاد ابتسامةُ طفلٍ عندما تتحدّث، في عينيها براءةٌ أبديّة... قالت: «أريد أن أحتفلَ بطلاقي هذه الليلة! أشعرُ كأني ولدتُ من جديد!»...
سعادُ شهيَّةٌ بشكلٍ مخيف، تسيلُ جمالاً ورِقَّة! ثمّة شهوةٌ مكتومةٌ داكنة تسيل من نظراتها!... رغباتٌ سخيّةٌ مُبهمَة!... عاشقتُهُ الخائبةُ تريدُ أن تثأرَ من سنينِ القهرِ والكبتِ التي عاشتْها لأجله!... ليمحُ أوسانُ كلَّ آلامها الآن، لِيغطسَ قليلاً في نهرِ أشواقِها الذي صبَّ منذ سنين في محيط اللاشيء! لِيردَّ الاعتبارَ لِعشقِها الجريحِ ليلةً واحدةً فقط!... حُبُّهُ القديمُ لِسعاد يتلوّى بين أضلاعه وإن حاول قمعَه. يشعر من نظراتها أنها ستحتضنهُ بِشراهة بين لحظةٍ وأخرى!... عشقُهُ الوفيُّ لِليلى مساميرٌ مغروسةٌ في أعصابه!... أيقنَ أن الليلة ستمرُّ بشكلٍ لن يستطيعَ السيطرةَ عليه!...
بعد صراعٍ داخليٍّ ضاغطٍ صامت، اعتذر لها بأدب على عدم مقدرتهِ على مرافقتها للعشاء!...
خيبةٌ جديدةٌ قاضية: غادرتْ سعادُ بيتَهُ بأدب أيضاً! وداعٌ كثيفٌ صامت قرب الباب، قبل أن تديرَ ظهرَها باتجاهِ الليل!...
استلقى أوسانُ على السرير حال مغادرتها، وضع مخدّةً على رأسه، تنهّد كطفل!... دموعٌ حرّى تصعدُ من أعماقهِ الدفينة، بكى طويلاً بصمتٍ وحرارة، نام بثيابهِ حتى الصباح، تحرسُهُ أشباحٌ تقيّةٌ زاهدة لم تغتسل من نفاقِ وفائِها ونتَنِ تَصومُعِها وتَعبُّدِها منذ 30 عاماً!... ياللوَرع البليد! ما أتعسَ هذا الناسك الأمين! قليلون مثلهُ يُمكنهم إفقارُ حياتهم إلى هذا الحدّ!...
تركَتْ سعاد روما صباح اليوم التالي بدون رجعة!... بعد أسبوعٍ من ذلك، في الخامسة فجراً، اتصل بائعُ الثلاجات، زوجُها السابق، ليخبر أوسان وليلى بنبأِ وفاتِها الغريب بالسكتة القلبية، في أحدى ضواحي ميلانو!...
لم يتصالح أوسان مع نفسه حتّى اليوم!... يكفي أن يتذكّر ليلةَ دعوتها له للعشاء ليبكي!... لا أدري ما الذي يُثير ندمهُ بشكلٍ محدّد، لكني أعرف أنه لا يوجد إنسانٌ في الكون كان سيرفض دعوةَ سعاد في تلك الليلة القدَرِيّة الغادرة!...
ليبكِ أوسانُ طولَ عمرهِ وأعمارِ حيواتِهِ في الأزمنة القادمة! لن يُطهِّرَهُ ذلك من الجريمة التي اقترفها تلك الليلة!...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.