هو رجل الدولة الذي لم يختلف مع أحد، الواقف في الظل، المنصرف للعمل، الصامت في كل الظروف، البعيد عن كل الأضواء، نادراً ما تدركه عدسات الكاميرا، أو تقترب منه الميكرفونات، وفي المقابل كان عبدالعزيز عبدالغني رجل المشاريع الاقتصادية والخطط التنموية، فحتى هذه اللحظة تعد الخطة الخمسية التي نفذها حين تولى رئاسة الحكومة في عهد الرئيس الحمدي هي أنجح خطة عرفتها اليمن. ما يعرفه الشارع اليمني عن عبدالغني أنه كان نقالاً مجتهداً لتحايا الرئيس، يوزعها بأمانة على كل الناس، وما لا يعرفونه أن للرجل خبرة اقتصادية وإدارية عالية، فهو الحاصل على البكالوريوس والماجستير في الاقتصاد والإدارة من جامعة كالورادوا بأمريكا عام 1962 بعد أن كان ضمن بعثة الأربعين ال40 طالباً الذي توجهوا للدراسة في أمريكا عام 1955، ثم عاد مثقلاً بالمعرفة، ليتدرج في المناصب التخصصية من العمل مدرساً بكلية بلقيس بعدن، حتى أسس وتولى رئاسة البنك اليمني للإنشاء والتعمير في 1969، ثم محافظاً للبنك المركزي اليمني في 1971، ثم وزير للاقتصاد 1972 – 1974، وتولى رئاسة الحكومة بعد استقالة حكومة العيني في 1975م. والراحل عبدالغني يمكن وصفه بما وصف به الكوريون الجنوبيون "بان كي مون" بأنه: "الرجل السمكة"، فالكوريون رأوا في وزير خارجيتهم سمكة لا يمكن الإمساك به ليحدد موقف أو رأي أو قناعة، بل رجلاً متملصاً متمرداً على المواقف والآراء، دبلوماسياً يجيد الكلام المفتوح الذي لا يغضب طرف.... مرت الأيام وقذفت ب"كي مون" إلى نيويورك ليعمل أميناً عاماً للأمم المتحدة، وقذفت بعبدالغني إلى الرياض ليموت هناك صامتاً، كما عاش، في حادث أرادت لها السلطة أن يبقى "ثقب أسود"، لا أحد يعرف حقيقته. كانت المرة الأولى التي صافحت فيها عبدالغني حين ذهبت برفقة الأستاذين عبدالباري طاهر وفارس السقاف، لتقديم واجب العزاء للواء يحيى المتوكل بوفاة نجله المهندس أحمد، ووجدت عبدالغني واقفاً عند باب قاعة معهد الميثاق يتقبل التعازي بوجه حزين كئيب، كما لو كان الفقيد ابنه، ثم عشرات المرات التي حضرت فيها جلسات مجلس الشورى للتغطية الصحفية خلال 2002 – 2004، وكنت أجد رئيس المجلس "عبدالغني" يقول بعد كل متحدث: "شكراً. الكلمة للأخ...."، ولا يزيد. وعقب الجلسات يغادر إلى مكتبه في الطابق الثالث لمقابلة الأعضاء، وسماع مطالبهم. ظل عبدالعزيز عبدالغني صالح المولود في قرية حيفان بتعز عام 1939 القاسم المشترك، والمظلة الجامعة لكل الأطراف، بعيداً عن كل الصراعات السياسية والحزبية، ورغم أنه عضو الأمانة العامة "المكتب السياسي" للحزب الحاكم، إلا أنه كان يحوز على تلك الوظيفة بحكم موقعه الوظيفي في الدولة، ولم يمارس أي مهام حزبي مطلقاً، وهذا ما جعله قريباً من الجميع، ويمكن فهم نفسية عبدالغني من خلال بيته، فكلما مررت في الحي السياسي بحدة أجد أن عبدالغني هو المسئول الوحيدالذي لا يرتفع سور بيته أكثر من متر ونصف، وربما كان السور هو رسالة عبدالغني إلى الناس معبراً عن بساطته وشفافيته. وحين وقَعَ الرئيس صالح في أول صدام حقيقي مع القبيلة عقب نشر إعلام الحزب الحاكم لمقال "الطبع الذي غلب التطبع"، وشتم الشيخ الراحل عبدالله الأحمر بكلام مشين، تداعى رجال القبيلة إلى منزل الأحمر وأصدروا بياناً تضامنياً، قرأ الرئيس فيه "الرعب المكتمل" وقرر تدارك خطأه، وتشكيل لجنة وطنية تذهب للاعتذار وإرضاء الأحمر في منزله، ولم يجد الرئيس من هو أنسب لرئاسة اللجنة من عبدالعزيز عبدالغني، وفي ذلك دهاء كبير من الرئيس، وفيه: إذا قَبِلَ الشيخ باعتذار اللجنة أراح واستراح، وإذا لم يقبل سيتم تسويق الرفض على أن الشيخ يرفض اعتذار عبدالغني لأنه شخصية مدنية وليس شيخ قبلي، وهنا سيضرب صالح بين الشيخ وأبناء تعز، لكن الداهية صالح وجد من هو أدهى منه، فقد قَبِلَ الشيخ الأحمر الاعتذار، وقال: "نقبل اعتذار اللجنة ورئيسها الشخصية الوطنية الكبيرة، الصديق العزيز الأستاذ عبدالعزيز....". لقد انتظر الناس طويلاً متى سيكتب عبدالغني مذكراته، فهو "الصندوق الأسود" للرئيس صالح، والرجل الذي يدفن في جوفه حقيقة كل تاريخ اليمن منذ العام 1975، بما فيه من صراعات واغتيالات، وفساد وانجاز. لم أجد في ذاكرتي ما أغضب الناس من عبدالغني غير موقفين، الأول حين تهجم على أحزاب المشترك أثناء الانتخابات الرئاسية 2006 وذاك أمر اعتيادي في سياق معركة ديمقراطية، والآخر هو ما جرح قلوب الناس وذاكرتهم حين التزم الصمت إزاء محرقة النظام لمخيمات الاعتصام بتعز في 29 مايو الماضي، أي قبل خمسة أيام من حادثة انفجار دار الرئاسة، فقد توقع الناس أن عبدالغني واجهة تعز في السلطة، سيأخذ بأضعف الإيمان ويدين المحرقة، دون أن يستقيل. لقد صنع حسناً المجلس الوطني للثورة حين عزى بوفاة عبدالغني، وما حز في نفسي هو أن أجد هذا النظام الذي تعود استثمار الموتى حتى في سجلات الناخبين، يجرح اليوم مشاعر الناس ويسوق أكاذيبه عبر الإعلام الرسمي، بأن "إصلاح تعز يبتهج بوفاة عبدالغني"، وهو يعرف أن أعضاء الإصلاح لا تسمح قيمهم النكاية والتشفي بالموتى، وما حصل كان ابتهاجاً بانتصار ثوار ليبيا الذي جاء قبل إعلان وفاة عبدالغني، وأظن أن الرجل قد توفي قبل وقتٍ طويل، لكن النظام لم يجد شيئاً يصرف به أنظار الناس عن ليبيا أفضل من وفاة عبدالغني وعودة مجور. نقلاً عن صحيفة الناس بالاتفاق مع الكاتب