لا أزال مذهولاً من هول ما رأيت. لم يخبرني أحد. رأيت بأمِّ عينيَّ ما لا أقدر على نسيانه. كانت قافلة الحياة الراجلة القادمة من تعز قد وصلت إلى جولة دار سلم، ووسط انهمار الرصاص على الشباب المنهك، يسقط أحدهم، ويبدو من سيمائه أنه لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره..، كان الدم يندفع من عنقه، والشباب يحملونه بأيديهم صوب ما يحسبونه إسعافا..، ولكن إلى أين؟! الجنود والعصابات الملثمة تسدُّ كل المنافذ. كان الشاب محمولاً على أكُفِّ زملائه وأصدقائه وهو يجود بأنفاسه الأخيرة..، وفجأةً وأثناء الجري به، وسط الغبار وصيحات الفزع، إرتفعت قدماه العاريتان..، وكانتا مسلوخت ي ن مجرَّحتين من أثر المشي الطويل من تعز إلى صنعاء!.. في هذه اللحظة الصاعقة تجمّدتُ من هول المنظر العاصف، والملخِّص للمشهد اليمني الآن: الأقدام المعطرة بالدماء، المثخنة بالتعب والحلم، في مواجهة الرؤوس المعتمة بالثكنات، المتخمة بالقتل، والقتل فحسب.
ما كان ضرَّ الدويلة العجيبة أن تستقبل الشباب الراجل القادم من تعز بالورود والغذاء وهو يهتف طوال خمسة أيام بلياليها الباردة «يمنٌ واحد»؟.
أقول الدويلة، لأن الدولة التي تحترم مواطنيها، وتحترم الحدَّ الأدنى من واجباتها، تقترف مثل هذا الجرم المشهود في حق أروع وأجمل شباب اليمن..، بينما لم تجرؤ أن تعاقب مجرمي قطع الكهرباء، أو مانعي البنزين عن العاصمة! ربما لأنها تعرفهم!
إنني أوشك أن أتساءل.. كيف لها أن تعاقبهم وهي تغمز لهم من طرف خفي..، أتعاقب الدولة نفسها؟!
أيَّة شجاعة بائسة يائسة في مواجهة الشباب الأعزل من السلاح، الشبا ب المضيء بالحلم، والجوع والسفر والإصرار، والأمل.
يقولون لي تغيَّرتَ! نعم تغيرتُ. وحدها الحجارة لا تتغير، ولا تغيْر! وحتى الحجارة يتفجر منها الماء..، الموتى والمجانين وحدهم لا يتغيرون!
غيّرتني نوافير الدماء المندفعة من أعناق الشباب الشهداء، أضاء قلبي وسط الظلام والانطفاء الطويل الثقيل، واشتعلت روحي بالألم والحزن، وأنا أرى آلاف الشباب يُحصدون بمنجل الكراهية والأثرة، واللامبالاة.
إنني لأعجب للصامتين. قولوا لا للقتل فحسب. لا لموت الكهرباء القاتل لوطن بكامله. إن دماء الشعب مقدسة، وهي فوق الأحزاب، وكراسي السلطة، والأشخاص. انظروا للعالم، وتمدُنِهِ، وتقدمه، واحترامه للإنسان أولاً وآخراً قبل أيَّة قيمة أخرى.
أيها الصامتون.. كم تبقّى من أعماركم. رِقّوا لمرأى الدماء المندفعة من الأعناق والرؤوس، وأثيبوا إلى ضمائركم..، وأنتم ترون فلذات أكباد هذا الوطن تُطعن بسكين الكراهي ة ، وتُحتزُّ بفأس الجهل، والجشع، والحقد.
على أقدامهم المقرَّحة جاءوا، من تعز إلى صنعاء. وصل أحفاد الفاتحين الأجداد، من جابوا الأرض وغيَّروا العالم.
من تعز العز انهمروا على صنعاء، ملائكةً وفراشاتٍ وأحلاماً. ما أجملهم! يخلقون بلاداً، ويحملون ميلاداً، ويرسمون بأقدامهم المجرَّحة خريطة جديدة للأمل والعنفوان والمستقبل.
شعرت بحرارة قلوبهم، بالطاقة الكامنة في هدير أصواتهم، والإرادة الثائرة في شلال دمائهم.
يهتفون على أبواب صنعا ء«يمنٌ واحد» فيستقبلهم الرصاص والبارود.. ياللعار! أي سقوط هذا لنظام مأزوم مهزوم؟.