ليس واضحاً تماماً ما إذا كانت فكرة سديدة أن يجري استباق مؤتمر الحوار الوطني المرتقب بشروط مهما كانت الحاجة إليها ملحة. فمن شأن ذلك أن يحول الحدث الذي يعول عليه في رسم خارطة البلاد السياسية وجبر ما تصدع من دعائم التعايش الوطني إلى مناسبة للمساومات وقطع الطريق على الحلول المكتملة علاوة على فتح الباب أمام سائر الجماعات السياسية والتحدرات الاجتماعية لطرح شروط، الأمر الذي سيفضي إلى إغراق الحوار في مواجهة بين شروط وشروط مضادة قبل أن ينطلق حتى. من الممكن أن تشير الأطراف المعنية بالحوار إلى مبادئ عامة أو إطار ضابط أما التقدم باقتراحات تحمل صفة الشرطية فهو إجراء سيبعث على ردود فعل مشابهة ولن يساعد في التئام شمل الأطراف المطلوب تحاورها. انقضى أكثر من شهر على بدء المرحلة الثانية من الفترة الانتقالية وهي المرحلة التي تقضي اتفاقية نقل السلطة أن يدعو الرئيس الانتقالي وحكومة الوفاق في مطلعها إلى عقد مؤتمر حوار وطني جامع لكل القوى السياسية وفئة الشباب والحراك الجنوبي وجماعة الحوثيين غير أن هذا لم يحدث بعد. لا بأس في ذلك مادام الأمر رهناً للانتهاء من باقي الأولويات الملحة، إلا أن تلك الأولويات نفسها لم تتم معالجتها على نحو حاسم. وفي مقابل ذلك، شرعت الجهات السياسية في عرض تصوراتها لتمهيد بيئة ملائمة للحوار. يوم الأحد الماضي، أعلن اتحاد قبائل اليمن في بيان له سبعة محددات للتعامل مع الوضع السياسي والأمني في البلاد، بعضها ورد بصيغة الطلب. فقد طالب الاتحاد الذي تأسس خلال الانتفاضة الشعبية لحشد رجال القبائل في مواجهة نظام الرئيس المعزول علي عبدالله صالح ب"عدم فتح باب الحوار ما لم يتم دمج الجيش والأمن ضماناً للمشاركة الوطنية الواسعة في هذا المؤتمر العام وبالتالي نجاح مخرجاته". كما دعا بيان الاتحاد إلى عدم الالتفات لما وصفها "المؤتمرات المشبوهة التي تهدف إلى تخريب الوحدة الوطنية وتضع العراقيل أمام حكومة الوفاق الوطني لإفشالها وتكريس الوضع السابق الذي أضاع على اليمنيين الفرص الكثيرة وحرمهم من الكثير من الحقوق". وأمس الاثنين، نشرت صحيفة البيان الإماراتية تقريراً خبرياً بشأن 12 شرطاً قال التقرير إن أحزاب اللقاء المشترك أبلغت الرئيس عبدربه منصور هادي أن خوض الحوار الوطني مرهون بالاستجابة لها. بين الشروط، إبعاد الرئيس المعزول علي عبدالله صالح عن رئاسة المؤتمر الشعبي العام وإزاحة قادة عسكريين من مواقعهم إضافة إلى إعادة تشكيل مكتب رئاسة الجمهورية طبقاً لسياسة التوافق التي يقوم عليها النظام السياسي المنبثق من الانتفاضة. تنطلق اشتراطات التحالف القبلي واللقاء المشترك من خلفية واحدة ومخاوف مشتركة من تأثير الوضع السياسي والأمني المضطرب في الإقبال على الحوار أولاً ثم تعطيل بواعث الوثوق بجدواه خصوصاً لدى الأطراف التي كانت تنتظر تغييراً جذرياً وشاملا. ولعل ما ساعد في إنضاج فكرة الشروط تلك اعتقاد نشأ لدى أنصار الانتفاضة الشعبية السلمية وأعضاء في أحزاب اللقاء المشترك بأن القبول بانتخاب الرئيس الانتقالي قبل هيكلة الجيش والأمن كان خطأً، يجب تداركه قبل الدخول في الحوار. يبدو هذا الاعتقاد تقديراً خاطئاً أو مبالغاً فيه على الأقل إذ أن انتظار هيكلة الجيش والأمن حينذاك كان سيستهلك الوقت ويهدر فرصة انتخاب رئيس انتقالي مع الإبقاء على الرئيس السابق متمتعاً ببعض السلطات في ظرف بالغ التعقيد. ويُخشى أن تضيف المخاوف الحالية التي تبرز في حزمة شروط مزيداً من الصعوبات في سبيل مؤتمر الحوار العام وتنسف ما تبقى من أواصر الثقة فينقضي الموسم المفترض لبدء الحوار دون إحراز أي من مستوياته. كما أن كثيرين لم يتشكل لديهم تصور مكتمل عن طبيعة الحوار المزمع فيضطرون إلى استعارة الأنماط التقليدية لتلك الحوارات التي شهدتها الحياة السياسية الوطنية واقترنت طبيعتها بنظام الجلسات النقاشية أو انتظام حشود المتحاورين داخل صالة واحدة. لكن الحوار المرتقب سيتجاوز مفهوم التجارب الحوارية السابقة كلية سواء بشموليته أو بآليات إدارته وإطاره الزمني فهو لن يقتصر على طرفين مختلفين حول قضية محددة كما لن تنحصر مهمته في التوفيق بين رؤى متقاطعة بقدر ما سيقرر مستقبل البلاد عامة. وسيكون من دواعي ذلك أن يشتمل على أنماط متنوعة من أساليب التحاور بما يكسر شرط وحدة المكان والزمن التي كانت يخضع لها المتحاورون في عمليات الحوار البسيطة، فيتيح هذا التعريف للحوار أن يتضمن جولات تحاور متفرقة ومحادثات في أكثر من قضية في وقت واحد إلى جانب لقاءات وجلسات تفاوض. تشكل المداولات التي جرت يومي 9 و10 مارس الجاري في مدينة بوتسدام الألمانية مثالاً مشجعاً على إمكانية خلق أرضية جيدة لبناء الثقة بين الأطراف. مداولات بوتسدام جمعت نائب رئيس المؤتمر الشعبي العام الدكتور عبدالكريم الإرياني وأمين الحزب الاشتراكي اليمني الدكتور ياسين سعيد نعمان وأمين التجمع اليمني للإصلاح عبدالوهاب الآنسي ورئيس حكومة الوحدة حيدر العطاس والقيادي السياسي في جماعة الحوثيين يحيى الحوثي إضافة إلى ناشطات مستقلات. وعلاوة على ذلك، تنبع قيمة تلك المداولات التي صاغت أفكاراً مركزة في قضايا الحوار ومرجعياته من أنها ردمت حاجز الرهبة الذي تتجمع عنده مخاوف الأطراف من فشل البدايات ودللت على إمكانية التوصل إلى حلول حيوية وواقعية لمجمل القضايا على الرغم من حدة الأصوات المروجة لبدائل غاضبة. تتبين أهمية الحوار الوطني من خلال المهام التي أناطته بها الآلية التنفيذية لاتفاقية نقل السلطة. فطبقاً لنص الآلية، يبحث المؤتمر في ثماني مهام أبرزها "عملية صياغة الدستور، بما في ذلك إنشاء لجنة لصياغة الدستور وتحديد عدد أعضائها" و"الإصلاح الدستوري ومعالجة هيكل الدولة والنظام السياسي واقتراح التعديلات الدستورية إلى الشعب اليمني للاستفتاء عليها". كما يبحث في القضية الجنوبية "بما يفضي إلى حل وطني عادل لها.." إضافة إلى "النظر في القضايا المختلفة ذات البعد الوطني ومن ضمنها أسباب التوتر في صعدة". "اتخاذ خطوات للمضي قدماً نحو بناء نظام ديمقراطي كامل" و "اتخاذ خطوات ترمي إلى تحقيق المصالح الوطنية والعدالة الانتقالية، والتدابير اللازمة لضمان عدم حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني مستقبلاً". بعبارة أخرى، سيتولى مؤتمر الحوار الوطني صياغة ثمار التغيير الذي انتفضت لأجله كل نواحي البلاد على مدى عام كامل وضحى في سبيله مئات الشهداء وآلاف الجرحى. وهذا ما يفرض حسن توظيف تلك الثمار حين يغدو مسار الحوار سالكاً ودفق الأفكار يصل عبر كل القنوات المتاحة.