أعرف أن بعض النقد شتيمة، والدفاع عن الزملاء الصحفيين لا يعني امتداح كل ما يكتب. أنا فقط مع حرية الصحافة. مع "بياعين الكلام" حد تعبير البعض. مع الذين يقولون ما يعتقدون ويؤمنون به، حتى وإن لم يجدوا من يستمع لهم، وبحسب الكاتب البحريني في صحيفة الخليج الإماراتية حسن مدن الذي نقل عن كاتب عربي ساخر، ف"إن المثقفين نضجوا حتى اهترأوا دون أن يسمع لهم أحد، فضلاً عن تطبيق ما يذهبون إليه". وأضيف من عندي أنهم في بلادي ما أن يكتبوا ما يعتقدون حتى يسجنوا أو يلاحقوا أو يخطفوا، فيبكي عليهم القراء ليوم أو يومين ثم ينسونهم. يحدث هذا بصورة متكررة في بلادنا، ولا داعي أن نبدو متفاجئين أو مصدومين. كتب الفرنسي الراحل مارسيل بانيول يقول: "تعوّد على اعتبار الأشياء العادية .. أشياء يمكن أن تحدث أيضاً"، فنحن عادة لا نتوقع حدوث الأشياء التي تقع بصورة منتظمة وطبيعية كالموت والزواج والمرض والثورات أيضاً، ولكنها تحدث بكل بساطة وتفاجئنا في أكثر من مرة، تماماً كالحكم الذي صدر بحق الزميلين سمير جبران ومنير الماوري في أول حكم لمحكمة الصحافة اليمنية.. فالاتجاه لدى السلطة في التضييق على حرية الصحافة كان يكفي لتوقع أي حكم يأتي في إطار الأشياء العادية التي تمارسها الحكومة تجاه الصحافة. هناك ما هو أكثر من قانون العقوبات المسلط على رقاب الصحفيين. والمخيف ليست القوانين التي يتم تفصيلها وفق مقاسات السلطة، ويتم تطبيقها وفق أهواء السياسة، فهناك ما هو أسوأ طبعاً، والزميل محمد المقالح وعائلته يدركون ذلك جيداً، ويتخوف غيرهم من أفعال مشابهة، ذاق البعض منها خارج المحكمة ما هو أسوأ من القرارات التي تصدر من داخلها، والزميلان جمال عامر والخيواني شاهدان على ذلك. فضلاً عن افتتاحيات الصحف الحكومية وتصريحات المصادر المسؤولة التي طالت بالشتم والسب أغلب الصحف والصحفيين الذين يعملون خارج الإعلام الرسمي. هذا وضع طبيعي باعتقادي في بلد يحتل المرتبة 167 في تصنيف حرية الصحافة وفق منظمة "مراسلون بلاحدود" الشهر الماضي، وهو التصنيف الذي يضعنا في المرتبة الأسوأ على مستوى الوطن العربي، وأغلب الظن أن الحال من بعضه في الدول العربية، فالخبر الذي نشرته قناة الجزيرة على شريط الأخبار عن محاكمة المصدر سبقه خبر الحكم بإغلاق صحيفة أخبار اليوم المغربية. الحال لا يسر إذن وينذر بما بعده، وهذا كلام نكرره ونحذر منه باستمرار، ويبدو أننا سنظل كذلك، ليس على مستوى وضع الصحافة ولكن على مستوى أغلب الأوضاع في البلاد، والمشكلة التي نعاني منها ليس في الكلام الذي يكتب أو ينشر، المشكلة تعامل الطرف الآخر معه، باعتباره مجرد أكاذيب وافتراءات يستحق من يقولها السجن أو الحرمان من ممارسة المهنة، تأملوا مثلاً ما ينشر على لسان رجال السلطة وإعلامها الرسمي، والمؤلم أن صحفيين ينتمون إلى المهنة ومسجلين في النقابة يفرحون ويحتفون بما تمارسه السلطة ضد الصحافة، بل هناك من يشمتون ويحتفلون، هذا شيء معيب فعلاً بحق الصحافة اليمنية نفسها. قلت إن الحكم متوقع، وحال البلد كله لا يسر، غير أن مبعث القلق ليس تماماً من الذي جرى ولكن من الذي سيحدث غداً أو بعد غد، فنحن أمام سلطة لم تعد تملك من الحياء ما يجعل الصحفيين يأمنون مكرها، وقد يلجأ بعض رجالها إلى ما برعوا فيه دائما، وهو العودة إلى الصميل المخبأ تحت بدلاتهم الأنيقة، هو في الحقيقة لم يعد مخبأ تماماً، والبعض يتفاخر بإشهاره في ارتداد سريع لأسوأ ما في دولة القبيلة من تخلف ومخاطر. الذي يفطر القلب أن أغلب قنوات الإعلام الرسمي لا تتوقف عن الحديث عن حرية الصحافة في اليمن. يقولون في ذلك أشياء كثيرة رتيبة ومملة، لا علاقة لها بالواقع ولا بالحرية أيضاً، ولا تلمس فيها خروجاً عن المألوف للقارئ والمشاهد منذ سنين، حتى إذا ما ظهرت قنوات إعلامية جديدة أو حتى قديمة بمضمون مختلف، اعتبروا في ذلك خروجاً عن الثوابت الوطنية، وتهديداً لوحدة الوطن وإهانة للرئيس الرمز، هذا الرئيس الرمز هو نفسه الذي وعد قبل ثلاث سنوات تقريباً بعدم حبس الصحفي في ما يتعلق بعمله، لكن الجميع يعرف ما يحدث بعد ذلك، ويتذكر القارئ كيف تم إغلاق صحيفة الأيام وكيف احتفت الحكومة بمنع قناة سهيل من البث من دولة الكويت. ليست أزمة حريات وصحافة بل أزمة بلد بأكمله، والحرائق المشتعلة في أكثر من مكان تشهد بذلك، ومن الطبيعي أن تتأثر حرية الصحافة سلباً وسط هذا "العصيد" الذي تعجنه السلطة ويضيع فيه الصحفي والعامل والموظف والبلد بأكمله.. غير أن هناك دائماً "شاقوص" للأمل ولو صغير، يمكن أن يكبر، ويفتح الطريق لما بعده، وبدون "فسحة الأمل" هذه لا يمكن الاستمرار في الكتابة والأمل بالخير والعدل والحرية. هذا الأمل نفسه هو الذي منعني من التقدم لرئاسة تحرير الصحيفة بطلب ملء هذا العمود حبراُ فقط، لطخة سوداء كبيرة على يسار الصفحة، دون كلمة واحدة عدا السواد، كنت أعتقد أن التعبير عن احتجاجي على قرار المحكمة بهذه الطريقة هو الوسيلة المناسبة، لاسيما وأنا أكتب في نفس المكان الذي كان يكتب فيه من حكم عليه بالتوقف عن الكتابة مدى الحياة، أثناء ذلك تذكرت أن السواد الذي يغلف الكثير من "الرؤوس" اليوم لا يليق بصحيفة تنشد الضوء دائماً، حتى ولو كان احتجاجاً.