أكتب إلى القارئ، مخافة نسيانه أثناء الكتابة المستمرة عن الذين لا يقرؤون ما نكتب، أقصد الذين لا يتوقفون عن فعل الأشياء السيئة واللعينة في هذا البلد، تلك الأشياء التي نكتب عنها ولم تتغير، والتي تحولت بفعل الكتابة المستمرة عنها إلى أشياء عادية تصبح الكتابة عنها أو ضدها مجرد كلام. أوضح أكثر: القارئ الذي أعنيه بني آدمي مثلي، بسيط ويحلم بأشياء قابلة للتحقيق، وظيفة مناسبة وبيت يؤويه مع زوجة تحبه، وأبناء لا يضطرونه إلى التهديد والوعيد إذا أراد منهم التوقف عن اللعب أو الأكل أو النوم باكراً، والأهم من ذلك نظام حكم عادل ونزيه يوفر له فرصة تحقيق تلك الأحلام البسيطة، المؤجلة دوماً.
قارئ مثل هذا هو على الدوام متعطش لمن يكتب عن إخفاقاته، وأسباب نكساته، وعن أحلامه الصغيرة التي لم تتحقق، ومثله الكاتب، كلاهما يبحث عن ما يفسر خيباته، وتقريباً فإننا في كل مرة نشير إلى ذلك البعبع الكبير في قمة الهرم السياسي كوحش خرافي له ألف فم وذراع يبتلع كل شيء من حولنا. وهذا القول ليس صحيحاً تماماً، فيه بعض المواساة، وجزء من الصدق، لكنه ليس كل الحقيقة. بدليل أن الجميع لا يكتبون بالطريقة نفسها، والبعبع الكبير يشار إليه أحياناً بعكس ما نشير إليه نحن، فهو ربما المخلص الكبير والإله الصغير الذي أنقذ البلد من أشياء لم تخطر لنا على بال.
القارئ ربما لا يعرف إغراء الكتابة والانسياق خلف فكرة النقد، خاصة إذا كان من تكتب عنه هو أكبر رأس في البلاد، هناك شعور مربك ومخادع، يوهمك أنك أنجزت شيئاً بتحميل الرجل الكبير كل مآسي من حولك، وقد نكون صادقين، لكن ذلك لا يتعدى كونه فعل مواساة، تنفيس عن «ضبح ونكد وطني» ذلك أن هذه الكتابة لن تغير في اليوم التالي من حالة بائس ومعدم يقرأ مثل هذا الكلام على رصيف شارع بعيد ووحيد.
لكن ما يفعل الواحد أمام وضع يشعر فيه أن الرئيس وخبرة الرئيس يقفزون في وجهك من كل نافذة وباب، وأن وراء كل «طاقة» و«شاقوص» وحش صغير يلتهم أحلام من حولك، لذلك يفرغ المرء غضبه في كتابات تتفق وغضب القارئ، فيظن الاثنان للحظة أنهما انتصرا، لمجرد شعورهما أنهما قالا كل ما عندهما.
في الواقع أغلب الإخفاقات التي نعيشها لا تأتي من بيت الوحش الكبير، تأتي أحياناً من داخلنا، وغالباً من الموروث الكبير الذي تستدعيه الذاكرة المتوترة والقبيلة البدائية، والعادات السيئة التي تآلفنا معها، وغدت شيئاً عادياً لا يستدعي الذهول أو الاستنكار. ولذلك نذهب أحياناً للقارئ نفسه، الذي يشبهنا كثيراً ونبدأ في نقد ملابسه غير المرتبة، وطريقة أكله، وأسلوب حياته، ونظرته لمن حوله.
أسأل نفسي دائماً هل يمكن أن يأتي يوم أكتب فيه للقارئ عن مزايا الرئيس، ونضج الحكومة، وأسوق أمثلة من هنا وهناك عن القضاء العادل، وتجارب التنمية الناجحة، يا الله كم أرغب في ذلك، كم أتمنى أن تتغير الأحوال وتغيرنا معها، حيث لا نبدو وكأننا على علاقة سيئة بكل ما يرتبط بهذه البلاد.
بطريقة ما تتحول الكتابة التي لا تغير من الواقع شيئاً إلى فعل مواساة بين الكاتب والقارئ، مجرد رسائل يكتبها الأول للثاني دون أن ينسى في كل مرة محاولة أن تكون مؤثرة وقادرة على دفع التوتر إلى أقصاه، على أمل أن تتحول الرسالة إلى فعل كتابي محرض على التغيير والانقلاب، كما كان يقول الراحل نزار قباني عن الكتابة بوصفها عملاً انقلابياً.
كلام نزار يذكرنا بجدوى الكتابة على المدى الطويل، عن العمل التراكمي لها وتأثيرها على التمهيد أو التهيئة لولادة مرحلة جديدة في حياة المرء أو الوطن، يفترض أنها آتية، لكن السؤال المخذّل، أين تذهب الكتابة وماذا فعلت للقارئ والوطن منذ نصف قرن وأكثر؟ وكيف نستطيع الإجابة عن سؤال لماذا نكتب وكيف يمكننا أن نقيس جدوى الكتابة في حياة الناس؟
كم مرة قرأ القارئ عن الحكم النزيه وعدالة الفرص ومكافحة الفساد؟ بالطبع لا أحد يتذكر عدد المرات لأنها لا تعد أصلاً، أنا شخصياً فتحت عيني على قراءة مثل هذا النوع من الكتابات، ثم واصلت القراءة إلى الكتابة عن المواضيع نفسها، ثم ماذا؟ لا شيء يحدث، هذه الأشياء اللعينة لا تزال تحدث باستمرار، والأحلام التي كانت بسيطة وقابلة للتحقيق غدت مجرد مواضيع انشاء لكتابات مدلوقة على الصحف وفي المواقع الإلكترونية، لا تحقق شيئاً ولا تنتهي.
عندما وقف الفيلسوف والروائي الفرنسي سارتر مصدوماً أمام الحرب العالمية الثانية، وشعر معها أن كل كتاباته لن تغير شيئاً من الخراب المترامي حوله، راح يسخر من نفسه قائلاً: «كنت أتصور أنني لن أكون أكثر من ذبابة على شاربي هتلر».
جملة سارتر غير مشجعة اطلاقاً، وإلا ما كنت واصلت الكتابة لو أني أشعر بوقوفي على شاربي الرئيس، أريدأن أكون قرب قلبه أو على مقربة من أذنه ليسمع فقط، ثم ينظر من بين ما يقال له أينا أكثر حكماً وأقربنا رشدا، لأن هذا الرجل ربط كل شيء إلى يديه ورجليه، وعندما تريد أن توجه كتابتك لشخص مؤثر لا تجد سواه، والمشكلة أنه لا يرى في الكتابة النقدية سوى زوبعة إعلامية فقط، (أشتي أدري من حفظه هذه «الزوبعة» وهو ولا عاد رضي يفرط فيها).
لاحظوا أنني عندما أردت أن أكتب للقارئ وعنه، وجدت نفسي أكتب عن الرئيس مرة أخرى، والكثير من الكتابات تذهب في هذا الاتجاه، لكن لا فائدة، والظن أن بقاء الرجل كل هذه المدة الطويلة على كرسي الحكم يجعله ينسى أنه بشري يصيب ويخطئ، وأن الحقيقة والحكمة دائماً في مكان ما خارج القصر الجمهوري.
عند مدخل مدينة روما العظيمة الذي سيمر به القائد العائد من النصر، كان مجلس الشيوخ ينصب منادياً ومعه بوق يردد فيه: «تذكر أنك بشر.. تذكر أنك بشر». وهنا في صنعاء حيث لا انتصارات أبداً، لا أرى الآن سوى كتابات تتحدث عن كل المظالم والعذابات، وأبواق كثيرة ليس من بينها ما يشبه بوق روما. المصدر أونلاين