بحثت عن الأصل التاريخي لتسمية المدينةالمنورة ب"طيبة" فوجدته في حديث شريف، يقول في آخره الرسول الكريم: "هذه طيبة، هذه طيبة"، ولها من اسمها أوفر النصيب، فالبلد التي طابت لساكنها المصطفى، هي من تطيب لكل زائر، وينعم فيها كل مقيم وعابر، ولا يحتاج المرء إلى تركيز شديد لإدراك حجم الفارق النفسي الذي يعيشه بين "طيبة" وغيرها من المدن السعودية، بما فيها مكة، ويدرك معها قول الرسول الكريم مخاطباً الأنصار بعد فتح مكة: "معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم". كل شيء هنا يطيب لك، ويلامس جروحاً وأوجاعاً في نفسك المرهقة، يرمم فيك ما استعصى في ذاتك المتهدمة... روحانية المكان، وخشوع الوجوه، وطيبة النفوس، لا يشعرك مطلقاً أن شيئاً سيجرح شعورك، أو انتماءك المفترض لهذا البلد. قبيل فجر الثاني من شوال كنت أقف ضمن طابور طويل يدخلون من "باب السلام" لنلقي التحية على الحبيب المصطفى، وصاحبيه ورفيقي دربه: أبوبكر وعمر رضي الله عنهما، فقبر رسول الله أولاً ثم أبي بكر، فعمر، وعند ذاك المكان تجد صنوف المذاهب والأفكار والطرائق الدينية، فهناك العاقل الواعي لدينه الذي يدرك أنه لا يجوز شيئاً أكثر من التحية، ثم يفسح المجال لغيره في الزحام، وهناك من يدعو ويكثر في الدعاء، وله طريقته الخاصة في التعبد، وهناك من يبكي وينتحب، ويندفع مصحوباً بدموع ولهفة دينية، لا يدري أين يوجهها، فيدفع الناس بقسوة لا مبررة، من أجل تقبيل منبر رسول الله أو التمسح بجدران محاربه، قلت لنفسي: هل يدري هذا الأخ المسلم أنه يقبل ألمنيوم وأخشاب وأسمنت ليست من الإسلام في شيء، وهل يعرف هذا المتحرق شوقاً وبكاءً أن الألمنيوم مُصَنعٌ حديثاً وليس هو المنبر الحقيقي للرسول الكريم، صحيح الأخشاب كما هي، لكن السياج الذي يحيط بها مستحدث، لكن لا بأس، فالمسألة تحتاج إلى تفقه أعمق في الدين، فهذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، الذي أيد القرآن كلامه وشهد له رسول الله بالعلم يقف أمام الحجر الأسود ويخاطبها: "والله إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضرين ولا تنفعين ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك"، لكن ذاك عمر، وهؤلاء المتدافعين عند منبر ومحراب الرسول غالبيتهم من سكان شرق ووسط آسيا، خاصة باكستان وأفغانستان! وعند زيارة مقبرة البقيع الملاصقة لفناء الحرم النبوي يتكرر ذات المشهد، لكن هذه المرة مع معتنقي المذهب الشيعي، فهذه الساحة قُبرَ فيها أكثر من عشرة آلاف صحابي، لا يوجد أي دليل يشير إلى قبر أحدٍ منهم، سوى التخمينات، وليست دقيقة، ففي المقدمة قبر فاطمة الزهراء بنت رسول الله رضي الله عنها، ورغم أنه مجهول التحديد، إلا أن شيعة كُثر يبكون عندها، ويتوسلون، ويرجون الرحمة والشفاعة!، وأشياء ما نزل بها من سلطان، وفي المقدمة أيضاً قبر أمّنا عائشة رضي الله عنها، وفي عمق "البقيع" قبر داخل حوض أسمنتي على الأرجح أنه لذي النورين عثمان بن عفان، ولا يمكن أن تجد عنده شيعياً واحداً يقرأ الفاتحة، والمسألة في تقديري اجتهادات مذهبية لا يجب أن تضرب صلب الإسلام، وتكون مدعاةً للتفرق بين المسلمين.
وكما كانت الكهرباء المنطفئة آخر المودعين لنا في مطار عدن، فقد كانت أول المستقبلين في مطار تعز، في نهار ال 8 من شوال، تلا ذلك الاستقبال ضياع إحدى "دبات" مياه زمزم التي اصطحبتها من مكة، ثم صياح ضابط المطار: "هيا اخرجوا عنغلق الصالة"، ولا أدري أهذا مطار أم بقالة، وبعد لحظات من مغادرة المطار تذكرت أني نسيت هاتفي على كرسي الطائرة، ليس غبني على شاشة اللمس الأنيقة، بل على صور الذكريات في مكةوالمدينةوجدة، برفقة شريكة حياتي وأم أولادي.