عندما تحدث الكاتب والصحفي العربي الشهير محمد حسنين هيكل عن الثورة الشبابية الشعبية في اليمن في العام 2011، وألمح إلى أن ما يحدث هو صراع القبيلة مع الدولة.. أو بما معناه أن القبيلة تريد أن تحل محل الدولة، لم يتورع كثير من المتحمسين عن مهاجمته، واتهامه بالتخريف وغيرها من التهم التي وصلت طرافتها حد أن هيكل تلقى من صالح مبلغاً باهظاً ليقول ما قاله في ثورة اليمن. لقد اضطر هيكل لاحقاً إلى تأكيد موقفه المبدئي من الثورة الشبابية، لكنه لم يتنازل عن وجهة نظره، وهي وجهة نظر ما كان للمتحمسين إخضاع صاحبها للتهم والهجوم اللاذع، لولا أنهم لا يدركون معنى أن يقولها شخص قارئ للتاريخ وأحداثه، وصاحب تجربة وإنجازات كبيرة في هذا الجانب.
وكانت من السطحية جداً بعض المبررات التي ساقتها تناولات صحفية هنا وهناك، كرد فعل على حديث هيكل، منها ما ذهبت إلى تقديم النصيحة لهيكل أن يشاهد حضور شيوخ أبناء القبائل في مقدمة الاعتصامات والمسيرات، تاركة خلفها السلاح، وأخرى أن القبيلة صارت على قناعة بضرورة قيام الدولة المدنية الحديثة وصارت متفهمة لقيَم هذه الدولة في غضون أشهر قليلة.
وفي تلك الأثناء، كانت تكتلات وائتلافات قبلية مشائخية قد جرى اختصارها في تحالف قبائل اليمن لمناصرة الثورة الشبابية والشعبية السلمية، كانت أدواره غير المباشرة على قدر كبير من التأثير في مسار الأحداث وتداعياتها ابتداءً من قوائم عضوية المجلس الوطني، ومروراً بالتأثير على مواقف الأحزاب السياسية وانتهاءً بدورها في خلاصات التسوية السياسية التي عطلت الفعل الثوري، وأبقت على النظام السابق، عدا أن بعض الوجوه تغيرت على رأس الواقع والمناصب التي وفرتها خلاصة الوصول إلى حكومة وفاق انتقالية، قادت إلى تصعيد عبدربه منصور هادي إلى رئاسة الجمهورية في انتخابات كان هادي هو المرشح الوحيد فيها والمتفق عليه.
لا شيء بالتأكيد يقود إلى طمأنينة السير بشعار «الدولة المدنية» إلى التحقق الناجز، طالما أن تعقيدات جمة تكتنف واقع التحولات في مشهدنا الوطني العام، وطالما أن القوى النافذة والمؤثرة ما زالت ترى استحقاقها الاستثنائي في المشاركة داخل بنية الدولة والسلطة، ومن صنع القرار السياسي أيضاً، بل فوق ذلك كله هو شعورها اليوم بأنها عرضة للإقصاء وأن دورها التاريخي الوطني يستحق النضال من أجل استعادته.
وهذا الأخير برز بوضوح كإشهار تشكيل كيان «مجلس التلاحم الشعبي القبلي» وسط مشاركة ما يزيد عن 4 آلاف من مشائخ وشخصيات اجتماعية في مدينة صعدة في اليومين الأخيرين من الأسبوع الماضي.
بالضرورة كان لابد أن يستقيم هذا التساؤل أمام الحشد المتدافع من المدعوين إلى مؤتمر إشهار مجلس التلاحم في صعدة - مشائخ، شخصيات اجتماعية وعسكريين بصفة مشائخ – ماذا يعني أن يحدث هذا الآن ؟ وبصرف النظر عن كون هذا الحشد مسلحاً بالكامل، إنما في حاصل فعاليات إشهار المجلس يسهل إدراك بقاء فاعلية الاستقطاب القبلي وإلى جانبه الديني في الاشتغال السياسي، كفعل مارسته وما تزال تمارسه قوى السياسة، ومن خلاله أيضاً تمارس تأثيراتها ونفوذها وحتى وجودها النشط في النسيج الاجتماعي.
عناوين متعددة ترسم شخصية مجلس التلاحم القبلي المنعقد في صعدة، لكنها في الواضح لا تذهب إلى أبعد من إيضاح موقف القبيلة الملتزم من إقصاء وتهميش الساسة والأحزاب لدورها، تشير إلى ذلك كلمة تحضيرية المجلس، ثم تؤكدها «أهمية اصطفاف القبائل في هذه المرحلة وتداعياتها الخطيرة التي أثبتت الارتهان والعمالة للدور الأجنبي وارتهان القرار السياسي والاقتصادي للقوى الدولية ولإقليمية».
وطبقاً لذلك فإن «الدور منوط بإحياء واستعادة دور القبائل في مواجهة أشكال هذه العمالة والارتهان للقرار الأجنبي». وكذلك «استعادة دور القبيلة وقيمها في بنية المجتمع والنظام».
إلى ذلك تشرح كلمات الفعالية كيف تعرضت القبيلة ككيان والقبيلة كقيم في مجتمعنا إلى التشويه من قبل ما وصفتها «أرباب الفوضى الخلاقة التي أدخلها أدعياء التحديث» ومعهم السياسيون والأحزاب في جر القبائل إلى صراع مع بعضهم البعض وإشراك بعض القبائل في الحروب الداخلية ولا تفضل في الوقت ذاته إيضاح تهميش القبائل من المشاركة ضمن الفئات الممثلة في عملية الحوار الوطني المرتقب، «مع أن الثورة الشعبية ما كانت لتكون لولا مؤازرة القبائل ودورها البارز في أحداثها».
وجديرٌ بالإشارة أن «مجلس التلاحم الشعبي القبلي يقف على مسافة واحدة من بقية المكونات الحزبية والسياسية الأخرى، ولا يعد ضداً ولا بديلاً لمكانة المشائخ والشخصيات الاجتماعية» طبقاً لنظامه الأساسي الذي جرى إقراره من المشاركين.
ويتيح هذا التفسير لطبيعة المجلس تساؤلات عن ماهيته طالما وأنه سيقف على مسافة واحدة من الأحزاب السياسية، ولا يشكل بديلاً عن المشائخ!
وهي تساؤلات لا تجيب عنها حتى الاستدراكات اللاحقة من قبيل إنه يشكل امتداداً لإحياء دور القبائل، وتجديداً لتاريخها الحافل ب«الإنجازات، ونصرة الإسلام، وبناء الحضارات العظيمة».
ثم وصفه ب«تجمع يمثل الوعي الصحيح لتيار الصحوة القبلية الشعبية المتنامي، ويقدم واقعاً أنموذجاً حضارياً ينبثق من نهج القرآن الكريم»!