يسوّق الاميركيون محاولة "القاعدة" تفجير طائرة ديترويت، ليلة الميلاد، على انها اشد خطرا عليهم من عملية 11 ايلول نفسها، باعتبار ان تلك الهجمات لم يسبقها انذار، اما الجديدة فتأتي بعد حرب طويلة ضد الارهاب وتشدد امني عالمي والف حساب. تدمير البرجين في نيويورك كان افضل ذريعة لاميركا لابتلاع بلدين وتثبيت هيمنتها على قلب العالم. قبضت على عنق آسيا في افغانستان واقامت فيها ابراج مراقبة للتحكم والفصل بين العوالم الآسيوية المختلفة: الصيني والروسي والهندوسي والاسلامي بشقيه السني الباكستاني والعربي والشيعي الفارسي. وامسكت العراق بجريرة افغانستان واخذت بدربها خزانات الوقود في الشرق الاوسط ورسمت وجها مشوها له لم يكتمل بعد وقد لا يكتمل قريبا.
بعد المحاولة الفاشلة في ديترويت، سرعان ما تلبّس الرئيس اوباما شخصية سلفه بوش على رغم ان الرئيس الحالي بنى مجده الانتخابي على الظهور بمظهر النقيض للرئيس السابق، لكنه فعل مثله عندما دل باصبعه الى هدف جديد هذه المرة هو اليمن.
هذا "البلد غير السعيد" كان منسيا على رغم فقره وحروبه الداخلية التي تحولت اقليمية و"حراكه الجنوبي" الذي يهدد باعادة انفصال عدن عن صنعاء. فجأة سرق انظار العالم في فترة الاعياد وصار الشغل الشاغل لصناع القرار في عواصم القرار.
اوباما يقطع اجازته ليتابع اخباره ويرسل موفديه لتقصي احواله، براون ينسى اهتماماته الداخلية ليتفرغ للدعوة الى مؤتمر دولي في شأنه، باريس وبرلين وموسكو والرياض والقاهرة وطهران تتابع تفاصيل ما يجري فيه، اجهزة الاستخبارات ترسل عملاءها الى اراضيه، الاساطيل تبحر الى مياهه، الموازنات المالية تفتح لدعمه.
اليمن صار أولاً تاركا وراءه افغانستانوباكستان المشتعلتين والملف النووي الايراني الساخن ومشروع الدولة الفلسطينية المعلقة. فهل بات فعلا وجهة الحرب الاميركية الثالثة؟ وهل ستصير جبال حضرموت ولحج وصعدة اليمنية نسخة جديدة لتورا بورا الافغانية ومرتفعات بيشاور الباكستانية؟
واشنطنوصنعاء الرسمية تنفيان ذلك. لكن كل ما يجري على الارض وفي الكواليس يثبت ان القرار بذلك صار في حكم الامر الواقع! فتنفيذ "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" وعده بنقل المعركة الى الارض الاميركية اعطى اوباما ما يحتاج اليه من ذرائع ليبرر انقلابه على نفسه ويقول للاميركيين إنه لم يتخل عن الحرب ضد الارهاب وانه ليس ضعيفا كما يشيع خصومه الجمهوريون والديموقراطيون معاً. وبالنسبة الى البيت الابيض فإن هذا التنظيم المحلي نجح في وقت قصير في تحويل نفسه من تهديد اقليمي الى أنشط أجنحة "القاعدة" خارج باكستانوافغانستان بطموحاته العالمية.
والمعركة الاميركية مع هذه المجموعة لها انصارها والمريدون. اوباما يريد تغيير صورة المتردد بصورة الحازم (والحزم لا يكون إلا بالحرب على عكس ما كان يدّعي)، والصقور في واشنطن لا يرتاحون إلا على وقع ضجيج نشر القتال في العالم وبيع السلاح، وحكومة صنعاء المربكة بالفوضى والتقهقر والتمرد تنتظر من السماء سندا لها في معاركها الخاسرة او طوق نجاة من الغرق، والانظمة العربية لامبالية او عاجزة عن تقديم المساعدة او حماية نفسها فتجد في هذه النجدة الاميركية نوعا من حماية.
لكن مثل كل الحروب التي خاضتها واشنطن من قبل ضد الارهاب، فإن الحرب التي يعد لها في اليمن قد ترتد نتائج عكسية، ذلك ان فقراء هذا البلد يحتاجون الى الخبز والعمل لاسكات جوعهم وتمردهم لا الى صواريخ "كروز" و"توماهوك" تعزز نقمتهم وتبث روح الانتحار في صفوفهم. فخطر "القاعدة" حقيقي في اليمن لكنه سيصير اخطر بعد كل ضربة جوية او صاروخية تستهدف قرية او مزرعة.
غير ان ما يهم اميركا، على ما يبدو، ليس تنامي خطر "القاعدة" بل اشاعة هذا الخطر لتوظيفه في وضع اليد على موقع استراتيجي مهم في لعبة الصراع الكوني على النفوذ، فهذا الموقع الحساس لا يشرف على منابع النفط في الخليج فحسب، بل يطل ايضا على ممراته الحيوية في خليج عدن وبحرب العرب ومن شأنه ان يجعل البحر الاحمر بحيرة اميركية مقفلة على رغم انف الامن القومي العربي. ومن هنا ليس مستغربا كذلك ان يصار الى الربط بين "القاعدة" في اليمن والعودة المفاجئة لخطر القراصنة الصوماليين على الضفة المقابلة لإحكام القبضة على المقلبين الشرقي والشمالي من المحيط الهندي بالاساطيل والجيوش.
وهكذا يكون الدرس الوحيد الذي تعلمته واشنطن من حربي افغانستان والعراق هو سرقة بلاد برمتها بقليل من الاموال والرجال، اما مترتبات ذلك فمسألة اخرى. عن النهار اللبنانية