تختلف كل من قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، في الرؤيا الشعرية والفلسفية التي ترتكز عليها، بالإضافة إلى تقنيات الكتابة، وطبيعة التشكيل اللغوي، والإيقاعي، ومقومات البناء الفني، والاشتغال الرمزي، والتعامل الإبداعي مع اللغة كأداة أساسية يشتغل عليها الشعر، ويدور في فضاءاتها ويتخذ منها مادته الأصلية في الفعل الإبداعي، بحيث تتجلى كلٌّ منهما بطابعها الخاص ومقوماتها الفنية والرؤيوية الخاصة. وتتنوع نصوص المجموعة الشعرية التي بين أيدينا(كتف مائلة) لمحمد الشلفي، بين كلٍّ من قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، وإن كنا لا ننكر على قارئ ما أن يلحق نصوص هذه المجموعة بقصيدة النثر، إذ أن ما يميز هذه المجموعة أن الطابع العام الذي تسير فيه نصوصها يكاد يكون واحداً، سواءً من حيث اللغة، أو الأسلوب الشعري إن جاز لنا التعبير، رغم تنوع النصوص بين النثر والتفعيلة، إلا أن الناص استطاع أن يخلق لغة خاصةً به في اشتغالاته الشعرية، لغةً ذات نكهةٍ خاصةٍ سكبها في فضاءات نصوصه الشعرية، هذه اللغة أقرب إلى قصيدة النثر منها إلى قصيدة التفعيلة.
فحين كتب الشاعر نصوصه متخذاً من قصيدة النثر وسيلته في الكتابة والتعبير، فقد حاول أن يكتبها بشروطها وتقنياتها الخاصة، كفن شعري جديد في الرؤيا والفن، بل إنه وهو يكتب قصيدة التفعيلة قد حاول أن يكسبها خصائص قصيدة النثر، ويجترح لهذه القصيدة الملتزمة إيقاعياً (قد نستخدم الإيقاع هنا بمعنى الوزن) مصوغات وجودٍ أخرى من عوالم قصيدة النثر بتقنياتها الجديدة، ورؤياها الإبداعية المختلفة.
ولعل من أهم المرتكزات التي اعتمدها الشاعر في هذا الصدد وتجلت في نصوص هذه المجموعة الشعرية، هي خفوت الإيقاع الذي إن كان نابعاً من طبيعة النص نفسه بالنسبة لقصيدة النثر، باعتبار نسف التفعيلة أو الوزن الخليلي، هو أول شروط قصيدة النثر أو يمعنى آخر أسسها، ومصوغات وجودها، أقول إذا كان الأمر كذلك فإن خفوت الإيقاع يكاد يكون مختلقاً في قصيدة التفعيلة، أو قادماً إليها من خارجها، على يد الناص الذي حاول أن يكتب نصاً قائماً على التفعيلة دون أن تكون هي جوهره الأصلي: ها أنا أنفى من وطني فتطاردني الأسماء لأكتب تاريخي بالأسماء لكني أمحوها حتى تتسع الخارطة عليك امتلئي بي.. من آخر قرنٍٍ مرَّ هنا عثرت قافيتي نسي الأصحاب قوافل حلمي وموائد إفطاري وتحدث أهلي والقرية عني: كيف أسبُّ الآلهة؟ وكيف أغادرهم وحدي نحو الشمس لأبحث عن حقي في أن أختار طقوسي؟ فالحب أيا وجعي أكبر...(كم ينقصني قلبك/ الديوان ص:46)
لعل في هذا النص ما يؤكد ما ذهبنا إليه، إذ تسيطر عليه لغة هادئة، ذات نبرة إيقاعية خافتة، رغم تكرار بعض الكلمات والحروف، إلا أن النص ظل خالٍ من الصخب الإيقاعي وظل أقرب إلى النثر منه إلى الوزن، ولعل كونه قائماً على تفعيلة ذات بحر شعري هادئ، قد ساعد على ذلك، وهو بحر المحدث، الذي تخفت إيقاعيته أكثر، حين لا يتساوى عدد تفعيلاته، كما في قصيدة التفعيلة التي لا تلتزم بعدد محدد من التفعيلات كما في العمود، بل تخضعها لعملية توزيع مرنة وفقاً لمستوى الانفعال الشعري، زيادةً ونقصاناً، قوةً وضعفاً، وهو ما تجلى في هذا النص، بالإضافة إلى ما تميز به من لغةٍ هادئةٍ، وألفاظ سهلة كادت تكون أقرب إلى المحكي، أو اليومي، العابر، مما أدى إلى خفوت الغنائية، وتواري الإيقاع الخليلي، أو بمعنى آخر تأخر الوزن أو تواريه خلف اللغة، وبروز اللغة بمضامينها ودلالاتها الإيحائية الشعرية، إلى الأمام، بحيث احتلت المكانة الأساسية في الملفوظ الشعري، وتراجع الوزن ليغدو ثانوياً.
ولعلَّ ما يتصف به هذا النص يكاد يسير أو يشترك معه في ذلك معظم نصوص المجموعة القائمة على التفعيلة، التي من أهم صفات الالتقاء بينها جميعاً، ومن أهم أسباب أو عوامل خفوت طابعها الإيقاعي في الوقت نفسه، هو اعتمادها على تفعيلة هادئة، هي تفعيلة البحر المحدث(فعلن فعلن فعلن...) بالإضافة إلى تفعيلة البحر المتقارب (فعولن فعولن فعولن) بينما تغيب بقية البحور الشعرية ذات الإيقاع الصاخب( كالكامل مثلاً).
ويلعب الشاعر على هذين البحرين، مستعيناً بمقدرته الشعرية، وما يمتلك من تقنيات شعرية، وأساليب فنية، في ترويض هذين البحرين ليصبحا أكثر هدوئاً، وأقل صخباً بحيث يكاد يقترب بهما من لغة النثر المهموسة همساً، والتي تكاد تقوض الغنائية، لتحل محلها السردية، وتنسف الخطابية، بإيقاعاتها المجلجلة، لتحل محلها لغة عاديةً ذات نبرة هامسة تزداد هدوءا وخفوتاً حين تعانق لغة الملفوظ اليومي والعابر...التي تشتغل عليها قصيدة النثر وهي تلقي أضوائها على الهامشي والعادي والعابر.
ونصوص هذه المجموعة الشعرية تتأرجح بين قصيدة النثر، وقصيدة التفعيلة ذات الإيقاع الخليلي، هذه الأخيرة التي ما تنفك تلعب على خيط رفيع بين إيقاعيتها المفترضة، وجنوحها المفتعل نحو قصيدة النثر، ويتجلى هذا ليس في نصوص المجموعة وحسب بل إنه يظهر منذ العتبات الأولى للمجموعة، إذ أن العتبات بدءاً بالعنوان، ومروراً بالعناوين الفرعية للنصوص، والإهداء، وانتهاءً بالتعليقات الشارحة للعناوين الفرعية، تقوم على بنية مزدوجة، أو متأرجحة بين (الوزن -اللاوزن).
فعنوان المجموعة (كتف مائلة) يمكن أن نعتبره جملةً موزونةً تحقق فيها الوزن(كتف مائلة_فعلن فعلن) وكذلك الحال في معظم عناوين النصوص (اللوحةُ الأمُّ- لوجه أبي-أحلامٌ لائقةٌ-لم يتوضأ صديقي بالمساء-جريدةٌ مبتورةٌ- ظلٌّ للظل- كم ينقصني قلبك- تحت ظرف- في المرةِ الأخيرة- اجعل لي آية- إعادة تشغيل- شفاهٌ صغيرة- كتفٌ مائلةٌ) وهي ثلاثة عشر عنواناً من بين خمسة عشر عنواناً، أي أن عنوانين فقط هما اللذان كانا بلا وزن.
وهذا معناه أن هاجس الوزن كان مسيطراً على الشاعر، سواءً أكان ذلك ناجماً عن الوعي أم عن اللاوعي بالنسبة له، وهذا الوزن وإن كان له دورٌ ما في شعرية هذه العناوين، إلا أنه لم يكن جوهرياً، أو عنصراً أساسياً، ترتكز عليه شاعرية هذه العناوين، إذ أنه يكاد يكون مضمراً، أو يمعنى آخر، أنه لم يكن صاخباً وإنما كان هادئاً حتى لا نكاد نميزه أو نلتقطه، إذ لا يمكن إلا لأذن موسيقية مدربة أن تدرك بعده الإيقاعي، وذلك لأن تلك العناوين عبارة عن جمل مبتورة قصيرة، بالإضافة إلى خفوت وقعها الصوتي فيما عدا بعض العناوين مثل ما يحدث بفعل التكرار في(ظلٌ للظلِّ ).
ولهذا فإنها كما قلنا سابقاً، تكاد تكون مبنية على ثنائية، (الوزن –اللاوزن) إذ يمكن عدها موزونةً ويمكن عدها غير ذلك لأن الوزن لم يكن جلياً فيها بحيث يكون ملفتاً، وهذه الثنائية أو الازدواج(الوزن- اللاوزن) تتجلى لنا أيضاً -وإن بشكل آخر- في عتبة أخرى هي عتبة الافتتاح، التي هي الإهداء،-وإن لم يكن هناك عنوان يصرح بأنه الإهداء- إذ جاء على قسمين أو بنيتين هكذا: إليك: من سيحدثني عن الرقص والأهرامات ومدنِ الربيع؟ إليَّ: من أين جئتَ وهذي الجهات تنوءْ تبوءْ بإثمك ليلاً على غسقٍ من كلامٍ وهمسْ وهذي الصباحات غادرت الصحوَ عند انبلاج الهوى.
إذ كان المقطع الأول نثرياً بينما كان الثاني قائماً على التفعيلة:(فعولن فعولن) ولعلَّ هذه البداية بالنثر وتقديمه على التفعيلة، سيجيء أول نص في المجموعة ليدعمها حين يكون نثرياً، بحيث يكون ذلك، وكأنه إعادة توازن يظطلع به المتن، في مقابل إيقاعية العتبات، بل إنه ليوحي بأقدمية النثر، على التفعيلة عند الشاعر، وربما يؤكد أو يرجح عفوية الإيقاعية في العتبات، إذ أن الوزن ثانوياً كما يتجلى في طبيعة النصوص وأسلوبها كما يظهر ذلك في المتن، ويؤكده هذا النص حين يبدأ بلا وزنٍ ثم ينتهي بالوزن الخليلي: (ظلُّ للظل) ظلٌ متعب يهمله الصبح على قارعة الدقات المتهالكة.. الأجسام العابرة تتخطاه بسرعة أكبر والمباني تغيب في الفضاء المشحون.. بما يتبخر من أفواه العابرين سوف يستعد لظلٍّ كهذا.. يذهب إلى الميدان الواسع ليستطيع تجريده تماما.. يجلس القرفصاء في محاذاة الرصيف كبائعة الفل القابعة بجانبه والنساء (اللواتي) يحاولن الحصول على تأشيرةٍ للقاء أزواجهن في المجهول... ها أنا أسألهم عن فستانك يكسر ما خبأ داخله الواشون هواة الليل ورجالاً حفروا لي قبل طلوعِ الضوء حديثاً. لم آبه قبل الموت لأشيائي (من هنا يبدأ الوزن) ولا لخيوط الفجر تغادرني لم آبه لمداك المغروسِ بخاصرتي، ولا لبقايا دمعٍ يغفو من تعبٍ حين يسافر خلف البحر إلى ما أدري وإلى ما لا أدري.
وأنا أمتد كمعركةٍ تخترق الصمت بلا أعراف وأقص رواياتي للعشب وعنك.. تحبين اللغة العصرية والمنفى وتقترحين الوردة والسفر المحكم والتاريخ الأزلي إليَّ. أمتد إلى الغرب شمالاً.. جسدي لا يشبهني وسرير غواياتي صعبٌ وبلا سابق إنذارٍ كيف يعيد الكل حكايانا؟ فأنا أدرك معنى أن يحترق الصوت وأدرك كم ينقصني قلبك!
ولعل التوزيع الطباعي والكتابي قد اختلف في كثير من النصوص، فتجلت بعض تقنيات الطباعة واستخدام الفراغات والبياض، بشكل أكثر في النصوص النثرية، بينما غلب على نصوص التفعيلة طريقة الطباعة المعروفة لدى الكثيرين، ولعل قصيدة النثر والتفعيلة في هذه المجموعة قد تميزت كلٌّ منهما، بسمات وفروق، لا تتوقف عند الإيقاع أو وجود الوزن من عدمه وحسب، بل تعدتها إلى اللغة والصورة، والتشكيل اللغوي للنص، وإن كان التوقف عند الوزن قد استغرق منا مساحةً كبيرةً هنا، بحيث لم يعد أمامنا سوى الإشارة إلى شيءٍ من هذا بشكل مختزل ومقتضب، وذلك من خلال مقارنة نتركها للقارئ، بين كل من نصين أحدهما تفعيلة والآخر نثري: وهما (نص معادلة)ص54والنص الآخر(اجعل لي آيةً)ص62، حيث اختلفت اللغة وطريقة البناء والدفق الشعري، حيث يمثل النص الأول، أقصى ما تجنح إليه قصيدة النثر من حيث البعد عن الغنائية، والتشكيل اللغوي، وقيام شعرية النص بالارتكاز على مفهوم جديد للشعرية،(اكشاف الشعرية في العالم) بينما يمثل النص الثاني، وإن كان قد اقترب من قصيدة النثر، إلا أنه يكاد يكون عالقاً في فضاءات المفاهيم الشعرية التي كانت عليها القصيدة قبل قصيدة النثر، وهي الغنائية، والذاتية، والإيقاع، والصورة، (إضفاء الشعرية على العالم من خارجه).