إن ظهور قصيدة النثر في الخمسينيات بشكلها الصارخ و الجريء متخلية عن أقدس مقدسات القصيدة العربية القديمة شكل منعرجا حاسما في مسار الشعر العربي. فأحدثت صدمة لدى المتلقي العربي الذي ألف القصيدة بشكلها المعروف، كما طرحت قضية الإيقاع الداخلي الذي تمسكت به القصيدة النثرية، ففجرت تلك الإشكالية بين النقاد والشعراء وإلى يومنا هذا. أكد شعراء قصائد النثر أن كل قصيدة تملك إيقاعا مختلفا عن بقية القصائد النثرية الأخرى، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل إن كان لا يجمع بينها وحدة إيقاعية واحدة فلما تصنف إلى جنس واحد؟ لقد ارتبط مصطلح( إيقاع التجربة) كثيرا بالقصائد النثرية، فلكل قصيدة نثر إيقاع متميز عن بقية القصائد لان عالم الموسيقى فيها عالم شخصي خاص ليس الشاعر فيه تلميذا بل سيد وخالق 1. فلطالما فسرت شعرية قصيدة النثر بإيقاع التجربة، إن موسيقى الشعر تصبح جزءا من التجربة الشعرية نفسها لان هناك علاقة وطيدة بين الإيقاع وبينها، كما أن موسيقى هذا الشعر تأتي من فعل الكتابة نفسه، ومن المعاناة المستمرة والمغامرة مع المجهول اللغوي22.وهذا ما يتفق مع رأي أدونيس الذي يرى أن سر الموسيقى في الشعر الجديد ينبع من التناغم الحركي الداخلي. ولقد أثار هذا التوجه جدلا كبيرا ، فثار بعض النقاد والشعراء على هذا المصطلح بدعوى أن الإيقاع يتحقق عن طريق السمع ونحن لا نسمع هذا الإيقاع ، ومنهم من رفض المصطلح تماما واعتبروا أن اصطلاح الموسيقى الداخلية تسمية غير دقيقة بأن الموسيقى لا تكون داخلية ، بل خارجية والكلمة المنفردة صوت منفرد ، والكلمات المتلاحقة أصوات متتابعة لا تشكل لحنا 23. وهو ما ذهب إليه عدد من النقاد في العصر الحديث ، فرأوا أن الإيقاع مجرد عملية وهمية تفقد الشعر أهم عناصره الجوهرية التي تشكل إيقاعه ( الوزن والقافية )، فربطوا بين الإيقاع والوزن. ورفضوا ان تسمى قصيدة النثر شعرا لتخليها عنه لأنه جزء أصيل للنبض و للنغمة التي هي دائما حوار وصراع ما بين الساكن والمتحرك في بنية الكلمة العربية الصغرى والتفعيلة العربية والشطر العربي 24، فإيقاع القصيدة العربية لا يمكن أبدا أن يقوم على علاقات داخلية وخصائص صوتية، ويواصل سامي مهدي رفضه لفكرة الإيقاع الداخلي، فيحصر الموسيقى في الإيقاع المنتظم حيث يقول:عنصر الموسيقى هو الإيقاع المنتظم، أي الوزن، ولكنه شيء قد يتذوقه من يتذوقه و لكننا عندما نريد أن نخضعه لقياسات محددة ، أو نستكشفه على المستوى المادي ، فلا نجد له أثر 25 . ولعل ما أثار كل ذلك السجال بين النقاد والشعراء هو ذلك الغموض الذي ظل محيطا بمفهوم الإيقاع الداخلي و أوقعنا في الالتباس ، فرغم إمكانية تتبع الإيقاع الخاص بقصيدة النثر بالنبر والتركيب الصوتي للغة ، التكرار والتواري ، علاقة الحروف ... إلا أن هذا لا يعني قابليتها للخضوع لمقياس خارجي لأن قصيدة النثر لا بحر لها فالبحر هو القالب النظري المنتظم الذي يوجد خارج النص و مستقلا عنه ، أما قصيدة النثر فإن لكل منها إيقاعها الفردي المتغير، والإيقاع هنا يسرح في واد متغير المسارات والانعطافات ، وليس بحرا هادئا منتظم الحركة متكررها26. فبسبب ذلك التحرر من قيود الوزن و القافية لم يعد لقصيدة النثر قاعدة إيقاعية ، ولعل هذا ما دفع بالشعراء إلى استسهالها، ومن ثم كتابة مئات القصائد التي تنتسب إليها واعتبر كل ما كتب دون وزن وقافية قصيدة نثر، والحقيقة غير ذلك لأن الخلق بحرية أصعب جدا من الخلق بقواعد معينة 27. ومما لا شك فيه أن ذلك الرفض الشديد جاء نتيجة للصدمة التي أحدثتها القصيدة النثرية ، بتخليها عن الوزن والقافية، اللذين ظلا مقدسين على مدى قرون من الزمن ، وعندما حدثت القطيعة وقف القارئ العربي مندهشا لأنه لم يتعود إلا على رؤية الشعراء يتنافسون على الانصياع إلى أحكام العروض، ونجد محمود درويش بالرغم من اعترافه أن ما يكتبه أنسي الحاج ومحمد الماغوط شعرا، إلا أنه لا ينكر تحمسه الشديد للإيقاع الخارجي ، فيقول أنا من الأنصار الأشداء ومن المتحمسين جدا للإيقاعية في الشعر العربي والموسيقى الخارجية 28. ورغم ذلك الرفض الذي واجهته قصيدة النثر، فإن هناك عددا من النقاد اعترفوا بشاعريتها وفرقوا بين الإيقاع الخارجي والإيقاع الداخلي لأن ثمة فرقاً كبيراً وكبيراً جدا بين الإيقاع الخارجي المستورد من خارج أنا الشاعر، وبين الإيقاع الداخلي الحاد، فإن كان الإيقاع الخارجي يتولد من توارد الكلمات ضمن مسار عروض راقص فإن الإيقاع الداخلي يتولد من تماس الكلمات فتنفجر وتتحول طبيعة أجسادها من خلال برق شعري كثيف 29، بل إن هناك من ذهب إلى إعطاء أهمية خاصة للإيقاع الداخلي واعتبره جزء متميزا في العنصر الموسيقى في القصيدة الحديثة، جزء يتولد في حركة موظفة دلاليا، إن الإيقاع هنا حركة تنمو وتولد الدلالة 30. وقد ارتفعت الأصوات التي تنادي بانضمامها إلى مدينة الشعر. وتؤكد على أن الإيقاع الداخلي كفيل ليضمن لها الشعرية، فيقول نزار قباني: قد تكون قصيدة النثر خالية من نظام الموسيقى الذي ألفناه في القصيدة العربية و لكنها ليست خالية من الموسيقى بشكلها المطلق 31. وهناك قضية أخرى ينبغي التأكيد عليها، وهي أن التحول الذي أصاب البنية الإيقاعية كان انعكاسا للتحول الذي أصاب الذات الإنسانية و العالم بأسره. فعلاقة الإيقاع بالظروف المحيطة علاقة قائمة منذ القديم ولا يمكن إنكارها أبدا، وهو يرتبط بالحالة النفسية لذا فإن تغير البنية الإيقاعية للقصيدة العربية كان ضرورة من ضرورات العصر، والهزة التي أصابت الكيان العربي، كان لابد لها أن تصيب عروض الخليل وتفاعيله والحاجة إلى التجديد مستمرة لأن العصر يتطور فراحت قصيدة النثر تبدع لنفسها إيقاعا جديدا يتوافق مع النظرة الجديدة للعالم . كما أنه لا يمكننا قصر تلك الدعوة للخلق و التغير عن التغييرات في البنية الاجتماعية و السياسية والثقافية لأن موسيقى قصيدة النثر ليست موسيقى الخضوع للإيقاعات القديمة المقننة، بل هي موسيقى الاستجابة لإيقاع تجاربنا الجديدة، وهو إيقاع ليتجدد في كل لحظة 32. وهذه دعوة صريحة لتجاوز الإيقاع القديم، فالكتابة به قد تجعل المتلقي للشعر يشعر بالاغتراب. ولابد من الإشارة إلى أن حركة التمرد التي أسهمت في ولادة قصيدة النثر جاءت نتيجة لتأثر روادها بالاتجاهات الفنية الغربية ، كما أن هناك عاملاً آخر ساهم في خلق الإيقاع الجديد ، وهو اقتراب لغة الشعر من اللغة العامية . كما لا ننسى الدور الذي قامت به مجلة شعر البيروتية في الخمسينيات، فقد حملت لواء التجديد. ونادت إلى الإيقاع الداخلي رغم عدم نفيهم لكون الوزن و القافية عنصرين جوهرين في الشعر العربي القديم،لكنهم رفضوا الخضوع لها، وحاولوا البحث عن إيقاع جديد يعبر عن معطيات العصر وذلك لسببين: 1 - رتابة الإيقاع القديم. 2 - إن ذلك الإيقاع قد عبر عن عصره الذي ظهر فيه ، ولابد لهذا العصر من إيقاع يعبر عنه. إن الباحث في قصيدة النثر يجد نفسه أمام نص مختلف عما ألفه الذوق العربي شكلا وإيقاعا، فكيف يقبض على ذلك الإيقاع الذي خرق القواعد وأعلن الثورة عن كل ماله صلة بالإيقاع القديم؟ ورغم أن بنية الإيقاع الداخلي في قصيدة النثر كانت موضوعا لعدد من الدراسات النقدية، إلا أننا لا نكاد نعثر على تحديد دقيق وصارم له، يقول صابر عبيد: إن محاولة ضبط نظمها وتحديد قواعدها العامة مازالت بعيدة بعض الشيء عن تحقيق انجازات واضحة ومميزة وذلك لأن الإيقاع الداخلي خال من المعيارية لكونه يعتمد على قوانين النفس الفردية 33، حتى أن رواد قصيدة النثر أنفسهم في محاولتهم للتنظير للإيقاع الداخلي قد أشاروا إلى أنه إيقاع شخصي يختلف من شاعر لآخر، زئبقي لا يمكن ضبطه ضبطا دقيقا، واهتموا بعلاقة اللغة بالموسيقى، فاستغلوا الرؤى و الظلال والإيحاءات. فجاء الإيقاع من نغمات مختلفة تعلو وتنخفض وهو ما يشكل الموسيقى الداخلية التي قد لا نجدها في كل القصائد. وكمثال على ذلك نجد قصيدة محمد الماغوط (عتبة بين مجهول ) والذي يقول فيها: لا نريد قمما ولا رايات لا نريد هذه الأقواس المزدانة بالغضب، والتراتيل نريد أن نعود خافضي الرؤوس نريد أن نموت في قرانا البعيدة لساعات قليلة 34. نلاحظ أن هناك توازيا عموديا في هذا المقطع، حيث إن الأسطر الأربعة الأولى تشترك جميعها في صيغة الفعل المضارع، وبالرغم من إن الفعلين المضارعين الأولين منفيان والفعلين الثالث والرابع مثبتان، إلا انه يمكن اعتبار هذا النمط توازيا أيضا لان التوازي كما يكون بالملائمة يكون بالمعاندة أيضا 35. وقد جاء الإيقاع الداخلي لقصيدة محمد الماغوط حادا وصارخا وتولد هذا الإحساس بالانفعال من حرف المد الذي في الأداة (لا)، وكما أن تكرار الفعل (أريد) في الأسطر الأولى قد فتح مجال النص عل عدد من العلاقات المتداخلة ، فبدأ القصيدة بانفعال حاد (لا نريد) يحمل معه صرخة الوجدان العربي وضيقه من القمم والرايات والشعارات والتي ما عاد يحفل بها، وقد جاءت إشارة (الغضب) لتصعد من ذلك الانفعال. ثم فجأة يهدأ ذلك الانفعال إلى هدوء رهيب (نريد أن نموت)، فالماغوط الذي اختار الغربة بحثا عن الحرية لم يجدها، ويبدوا أنه لن يجدها لان الإنسان تتحكم فيه عدة مؤثرات، فهو مسلوب الإرادة وتعبر عن ذلك إشارة (خافضي الرؤوس)، وهي إشارة للكرامة المسلوبة لذا فهو يريد الموت، لأنه قد يجد فيه الحرية التي لم يجدها في الحياة، وهكذا ينشأ لنا إيقاع القصيدة الداخلي من حركة الانتقال من النفي إلى الإثبات ( نريد/ لا نريد)، وهي ثنائية ضدية تخلق نوعا من التوتر في الحركة التي تأخذ في التباطؤ من الانفعال إلى الهدوء التام وتعبر عن ذلك إشارة (الموت). لا نريد (الانفعال) قمما رايات الأقواس أن نعود الموت نريد( الهدوء) الهوامش 21 - ادونيس: في قصيدة النثر، ص: 85. 22 - عزالدين إسماعيل: مفهوم الشعر في كتابات الشعراء المعاصرين، مجلة فصول،الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، م1،ع4، 1981، ص: 54. 23 - عبد العزيز مقالح: أزمة القصيدة العربية- مشروع تساؤل ، دار الآداب، بيروت، ط1، 1985، ص: 73. 24 - جهاد فاضل: أسئلة الشعر(حوار مع سامي مهدي)، الدار العربية للكتاب، بيروت، د.ط، د.ت، ص: 121. 25 - م.ن، ص.ن. 26 - كمال أبو ديب: في البنية الإيقاعية للشعر العربية. HTTP://WWW.inaqi Writess.com 27 - ادونيس: في قصيدة النثر، ص: 78. 28 - جهاد فاضل: أسئلة الشعر(حوار مع محمود درويش)، ص: 314. 29 - عبد العزيز مقالح: أزمة القصيدة العربية، ص: 75. 30 - يمنى العيد: في معرفة النص، ص: 105. 31 - نزار قباني: الأعمال النثرية الكاملة، ص: 517. 32 - ادونيس: في قصيدة النثر، ص: 78. 33 - صابر عبيد: القصيدة العربية بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية، موقع سابق. 34 -محمد الماغوط: عتبة بيت مجهول، مجلة (شعر)، دار مجلة شعر، بيروت،س4، ع13، 1960، ص: 20. 35 - محمد مفتاح: التلقي والتأويل- مقاربة نسقية، المركز الثقافي، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 2001، ص: