(أرضنا نجران وجيزان سترجع) ما سبق كلمات مغناه كنا نرددها بنشوة وتفاعل منقطع يعكس مدى تفاعل مجتمعاتنا القروية الصغيرة التي دخلت أتون حروب الجبهة الوطنية المدعومة من نظام الجنوب ضد حكومة صنعاء نهاية عقد السبعينات وبداية عقد الثمانينات في المناطق الوسطى والعدين وشرعب. حينها كنا صغارا نعيش قلب المعمعة كالببغاوات نردد ما يردده الكبار وفقط، حتى الكبار لا يدركون أبعاد ما يرددون وينساقون تصديقا لها، فقط هذا ما تفرضه الجبهة الوطنية من شعارات تستغل بها العاطفة العامة للناس تجاه الأراضي اليمنية التي تحت الجارة الكبرى.
كانت بلدي في محاذاة مناطق من تطلق عليهم الجبهة بالمرتزقة المدعومة من حكم صنعاء، وهي مناطق حتى ما قبل الحرب كانت تربطنا بهم علاقات جوار ودم ونسب، وفجأة انقلب الحب والمودة إلى كراهية واستعداء بفعل ضخ الدعايات السوداوية وصار القتل بالمجان أمرا يسيرا للأنفس البريئة.
كأطفال ومحاكين لبيئتنا الاجتماعية، كنا نرقص طربا، ونحتفي بنتائج الغزوات والمعارك الجبهاوية الليلية الأشبه معاركها الطاحنة بكرنفال افتتاح برج دبي، والتي تستخدم فيها أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة، وفي الصباح ليس أمامنا إلا استقبال قتلانا وجرحانا العائدون من قلب الفتوحات (هذا إن عادوا)، وبجرأة متناهية كنا نزاحم أقدام الكبار لمشاهدة أبطالنا مسلوخي الجوانب والأطراف ومقلوعي الأعين، لنستمع بفخر عن كمية الخسائر التي ألحقوها بالمرتزقة عملاء السعودية رأس الامبريالية وذنب الرأسمالية والشيطان الأكبر، أعداء الوطن من الجانب الحكومي وسكان المناطق المجاورة، مرددين بنشوة لا تضاهى (أرضنا نجران وجيزان سترجع).
كعادة الحركات السياسية والثورية، لم تكن الجبهة الوطنية تفصح عن أهدافها السياسية في إسقاط حكم صنعاء، وإنما كانت ترفع عدد من الشعارات التي تستجدي عاطفة الرعاع والتي تجد في الغالب طريقها إلى القلوب وذلك لمناصرة أهدافها المخبوءة، فقد كانت الجبهة الوطنية تسوق أن وجودها مرتبط بالانتقام من قتلة الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي، وعن استعادة الأراضي اليمنية تحت السعودية، وغير ذلك من الشعارات التي تدغدغ مشاعر البسطاء وتجد لها صدى في أعماقهم، ذلك أن قلوبهم مجبولة على حب الرئيس الحمدي وتمتلئ حقدا على قتلته، أو يعتنقون فكرة وحلم عودة الأراضي اليمنية تحت السعودية (نجران وجيزان وعسير) وهاتان قضيتان لا يختلف عليهما اثنان من اليمنيين أجادت الجبهة الوطنية اللعب على أوتارهما بامتياز.
لم يدرك البسطاء أن وجود الجبهة الوطنية كان سياسيا يسعى لضم الشمال للجنوب في وحدة قائمة على الاشتراكية العلمية لا أكثر، وأنهم – أي البسطاء - ضحوا وباسلوا لأجل عدد من مضامينهم المجتمعية السامية تحت خديعة كبرى للشعارات الجبهاوية الواهمة.
كنا جميعا في المناطق الوسطى وشرعب والعدين وغيرها، ضحايا حسابات ودوافع سياسية، حتى أولئك ممن كانوا يحسبون على المجتمعات المحلية الريفية عقلاء من الشخصيات الاجتماعية والسياسية والعسكرية، وقعوا في فخ الشعارات كالبسطاء، لم يعملوا عقولهم حتى للإجابة على سؤالي (لماذا من يريد الانتقام للرئيس الحمدي لم يذهب إلى المركز في صنعاء حيث وكر النظام؟؟) و(لماذا لم يذهب من يحب استرداد أراضينا عسير ونجران وجيزان ليحارب في حدود السعودية لاستعادة الأراضي؟؟) لم يدرك العميان في مجتمعاتنا أن الانتقام للحمدي واسترداد الأراضي لا يمكن أن يؤتي من أراضي المناطق الوسطى البعيدة كل البعد عن الحدود وصنعاء، لقد كانت فعلا عقولا كالجبال أضلها باريها حين تردد بصنميه مفرطة كببغاوات (أرضنا نجران وجيزان سترجع)، في كلا الجانبين يمني يقتل يمني، ويدمر أراضيه وممتلكاته، وليس ثمة من تحرير حتى لشبر من نجران أو جيزان أو عسير سوى في الشعارات، وليس ثمة من انتقام للرئيس الحمدي سوى في الشعارات أيضا ونبقى نردد (أرضنا نجران وجيزان سترجع).
اليوم يعود ذات الشعار (استعادة الأراضي اليمنية التي تحت السعودية) لكن بثوب سلالي طائفي مذهبي ديني مقدس، انتقلت حماه من الأيدلوجية الشيوعية (نظام الجنوب سابقا) إلى الأيدلوجية الشيعية (أنصار الله الحوثية شمالا) فالحوثية لم تكن تنفك وهي تردد شعار استعادة أراضي نجران وجيزان وعسير كأراضي يمنية لا يمكن التنازل عنها – بهدف دغدغة لهيب العواطف الكامنة لدى المواطن المسكين - رغم علمهم أن من باعها وسلمها للسعودية باتفاقية دولية مبرمة هو الإمام يحي الذي يعمل الحوثيون لاستعادة حكمه، ويقينهم أن تلك الأراضي لن تعود، ورفعت إلى جانب شعار استعادة الأراضي الصرخة (الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام) وحشدت حركة الحوثية لشعاراتها كافة إمكانياتها المادية والإعلامية والعسكرية، لكن فتوحات الحوثية لم تسترد شبرا واحدا من الأراضي تحت السعودية!!!، كما لم تقتل أمريكيا واحدا!!!، ولم تتجه قواتها شمالا نحو حدود السعودية، لكنها أدارت ظهرها للسعودية واتجهت للاستيلاء على صعده ومن ثم الاتجاه جنوبا نحو عمران وحرف سفيان وحاشد وشرقا نحو مأرب والجوف وغربا باتجاه حجة أي أنها تتغلغل داخل العمق اليمني لترتكب مجازرها الشنيعة بحق المواطنين اليمنيين وتوغل في التنكيل بهم وتعمل على تهجيرهم وسجنهم فيما تردد (أرضنا نجران وجيزان سترجع) و(والموت لأمريكا) وها هي مؤخرا تصنع حمامات دم في دماج ضد السكان من أطفال ونساء وشيوخ.
حتى اليوم الحوثية تمارس نفس غواية الشعارات، أشبعتنا شعارات، ولم تسترد شبراً واحداً من الأراضي، كما لم تمس شعرة من ذقن أمريكي واحد، لكنها استباحت الوطن والمواطن اليمني المذبوح (سواء كان حوثيا أو قبليا أو سلفيا أو عسكريا) وقدمته ككبش فداء للمحرقة، لقاء تحقيق نزوات سياسية هادفة لعودة السلالية والمذهبية السياسية للحكم لا أكثر، والمواطن المخدوع يردد بعاطفة ووله كببغاء الصرخة وحلم عودة الأراضي، بل ويجتهد مع الحوثية لرفع سلاحه في قلب أخيه المواطن اليمني البريء، وليس باتجاه الحدود أو أمريكا.
نفس غلطة الأمس تكرر اليوم، ولم نسأل حتى أنفسنا (لماذا ترفع الحوثية شعار استعادة الأراضي اليمنية من تحت السعودية ولا تتوجه بقواتها إلى السعودية، ولكنها تتغلغل في أراضينا اليمنية؟؟؟ ثم لماذا ترفع شعار الموت لأمريكا وإسرائيل وتقتل اليمنيين؟؟ وهل من تقتلهم وتشردهم الحوثية في صعده وحجة والجوف وكشر وحرف سفيان وحاشد ودماج يمنيين أم أمريكان؟؟) لا أدر هل نحن شعب أهبل ساذج يسير ببلاهة، أم شعب طيب عطوف مندفع وراء عواطفه دون تفكير، نمتلك قابليه كبيرة للتشكيل والتطويع.
ألم ندرك أن من يرفعون شعار عودة الأراضي اليمنية هم من باعوها إبان حكم أئمتهم لليمن بموجب اتفاقية الطائف التي انتهت بإمضاء حكومة ووفد الإمام يحي حميد الدين والتي أعلنت صراحة أن ما تحت اليمن لليمن، وأن ما تحت السعودية للسعودية، وبذلك انتهى أمر الأراضي اليمنية باعتراف الإمام مع الاحتفاظ فقط ببعض الامتيازات الخاصة التي منها معاملة اليمني داخل أراضي السعودية كمواطن سعودي قبل أن يلغي صالح هذا الامتياز باتفاقية توقيع الحدود مع السعودية منتصف عقد التسعينات من القرن العشرين، ألم ندرك أيضا بأن من كان يسوق بالأمس لاستعادة الأراضي اليمنية من الحوثيين، صاروا حماة للحدود السعودية بموجب اتفاق ابرمه الحوثيون داخل السفارة السعودية مع السفير السعودي مقابل دفع السعودية خمسة مليون شهريا للحوثي، وخمسمائة تأشيرة وكميات قليلة من البترول، بمعنى أنهم باعوا الشعار والدثار بحفنة مال ومصالح.
لم ندرك بعد أن من يبيعنا اليوم على استعداد تام لبيعنا غد، وأن من يستغل قضايانا وعواطفنا ليس لأجلنا وإنما لأجل تحقيق مآرب وأهداف سياسية، ما أشبه الليلة بالبارحة، ما أشبه الحوثية بالجبهة الوطنية، وما أشبهنا كمواطنين سذج في زمن الحوثية، بالمواطنين السذج في زمن الجبهة الوطنية، لم يتغير شيء سوى فاصل الزمن.