على هامش عمليات العنف التي تنفذها القاعدة وأشباهها؛ يتكرر تعليق نمطي من بعض الجهات يقرر أن الحل الوحيد للمشاكل في العالم الإسلامي هو.. العلمانية، وإبعاد الدين عن السياسة والحكم تنزيها له من أوساخ السياسة وملعنة السياسيين! وتعليقاً على المعارك الدائرة بين الحوثيين ورجال القبائل في عمران وغيرها؛ قرأت تعليقاً يدعو إلى المطلب نفسه: العلمانية! وغرابة هذا التعليق الأخير يمكن ملاحظتها أولاً في أن ما يجري هناك ليس حرباً دينية بالتعريف الأوروبي الغربي للحروب الدينية بين المذاهب المسيحية؛ حتى وإن كان أحد الطرفين يدعي أو يتسمى بأنصار الله.. والطرف الآخر يعد موقفه إسلامياً لأنه دفاع عن وجوده وأرضه في تلك المناطق، ورفضاً لقوة تريد بسط هيمنتها استيحاء لظروف تاريخية وأوهام سياسية قديمة! الغرابة الأخرى التي تنطبق أيضاً على حالة توصيف أعمال القاعدة، وهي للأسف شائعة في الأوساط الفكرية والسياسية من غير الإسلاميين؛ أن أصحاب هذه الدعوة يؤكدون بكلامهم أنهم لا يفهمون أن مبدأ العلمانية دين قائم بذاته؛ طالما أنه يمتلك تفسيراً أو رؤية للحياة والأخلاق والقيم والتعاطي معها، ويحدد علاقات الناس ببعضهم، ومع الدولة.. ومع التعاليم السماوية نفسها سواء بالاعتراف بها مع إقصائها عن الحياة العامة لدى المعتدلين منهم، أو رفضها ومحاربتها عند المتطرفين العلمانيين بوصفها أفيون الشعوب.. إلخ المبررات المعروفة عن أصحاب هذا الموقف! وفي هذا الإطار فلا تمييز بين الدين السماوي والعلمانية.. وما هو الدين أصلاً إلا أنه يقدم للإنسان رؤية تجاه العلاقة التي ينبغي أن تحكم علاقته مع الأطراف الثلاثة المذكورة.. وهو كما الفلسفة له موقف تجاه الأسئلة الأساسية التي تشغل حياة الإنسان: من أين.. وإلى أين.. ولماذا؟ على أن هذا المنطق في تبرئة العلمانية من كل سوء، وتقديمها كمنقذ للإنسانية من مصائب الأديان ومتطرفيها عندما تتجاوز حدود الكنائس والمساجد؛ لا يستقيم مع حقائق تاريخية ومعاصرة نرى بأم العين فيها أن العنف والقتل ارتبط بالأنظمة العلمانية أكثر مما ارتبط بغيرها.. وأن العلمانيين بنوعيهم أقاموا أنظمة قتل ورعب وسفك للدماء باسم العلمية والتقدم والتنوير، وأذاقوا البشرية من الويلات ما لم تعرفه مع غيرهم! (لم نذكر معابد اليهود عند ذكر الكنائس والمساجد؛ لأنهم ليسوا مغفلين إلى هذه الدرجة؛ فلولا ارتباطهم بدينهم؛ لما حافظوا على شخصيتهم اليهودية وتقاليدهم، ولما أعادوا بعث لغتهم الميتة منذ مئات السنين، ولا أنشأوا في الأخير دولة صارت خلال خمسين سنة قوة نووية عظمى محكومة بأحزاب دينية صراحة أو تمويها!).
••• لو رحنا نستعرض بعض الأسماء في التاريخ الإنساني القريب؛ فسوف نجد أن أشهر الطغاة والسفاحين كانوا علمانيين أو لا دينيين معادين للدين عداء صليبياً بمعنى الكلمة! فلم تحجزهم علمانيتهم عن الإرهاب وقتل الملايين، وتنظيم المذابح الجماعية لخصومهم في داخل بلدانهم أو أعدائهم خارجها! فهذا هتلر كان ملحداً كارهاً للدين محتقراً للمتدينين (أرجو ألا تجعله هذه الصفة محبوباً فجأة عند العلمانيين المتطرفين!) ومع ذلك فربما لا يوجد رجل في عصرنا أذاق البشرية الويلات مثل هتلر! ومثله الطاغية الشيوعي ستالين في روسيا السوفيتية.. والشيوعي بول بوت في كمبوديا والذي ما تزال جرائمه ومقابره الجماعية تكتشف حتى الآن، ومن كثرتها جعلوها في متحف خاص! ومن قبل هؤلاء ومن بعدهم فهؤلاء زعماء الغرب الرأسمالي العلماني قتلوا من البشر منذ بدأوا مرحلة الاستعمار وحتى اليوم ما لا يقدر بشر أن يعدده ويحصيه من آسيا إلى أفريقيا إلى الأمريكيتين، وأبادوا شعوباً واضطهدوا أمماً وفرضوا عليها أديانهم قسراً، وبمكر الليل والنهار.. وبالمناسبة فإن مرحلة الاستعمار البشعة القديم منه والجديد هي إحدى مخرجات عصر التنوير الأوروبي التي صارت تعويذة يرددها كثيرون دون أن ينتبهوا إلى إجرامية منطلقاتها ومأساوية آثارها! وفي عالمنا العربي سوف نجد أن أكثر الأنظمة العلمانية كانت أنظمة قهر وقتل واستبداد.. وأن حكامها العلمانيين لم يفهموا من العلمانية (أو ربما هكذا أريد لهم!) إلا أنها عداء للدين، وحرب على مفاهيمه الأخلاقية خاصة، وكراهية للمتدينين أو دعاة إقامة الحياة على هدى الإسلام! ويعطينا الزعيمان التركي أتاتورك والتونس بورقيبة المثال الأدق على هؤلاء الحكام العلمانيين الذين لم تعصمهم علمانيتهم من الظلم والاستبداد واحتكار السلطة والثروة! وأمثالهما كثير.. وبدرجات متفاوتة.. لكن القاسم المشترك أنهم ناصبوا الدين العداء وفصلوه حقيقة عن الحياة والدولة، وجعلوها علمانية سافرة أحياناً ومبرقعة أحياناً أخرى.. وعملوا بدهاء وخبث على تنشئة أجيال لا تعرف شيئاً عن دينها.. وحتى عن عدد ركعات الصلاة أو التمييز بين الأذان والقرآن! (وهذه المعلومة الأخيرة ليست تشنيعاً؛ فقد سمعتها بنفسي من أحدهم في أول يوم من رمضان إحدى السنوات؛ فعندما استنكرت منه القول إن صلاة الظهر ركعتان.. فما كان منه إلا أن خبط مقدمة رأسه بكفه لائماً نفسه على جهله وهو يقول: أوه.. صحيح.. ثلاث ركعات! أما عدم التمييز بين الأذان والقرآن فحادثة وقعت لأحد الأخوة في تونس عندما شاهد عاملة الاستقبال في أحد الفنادق وهي تستمع باهتمام للمذياع الذي كان يبث الأذان، ورفضت إعطاءه مفتاح غرفته مناشدة إياه أن ينتظر احتراماً.. للقرآن؛ أو كما قالت وهي تشير للمذياع: حرام.. قرآن!).
••• لا يعني ما سلف أن الذين حكموا باسم الدين؛ أو أن الأنظمة التي تأسست على الدين؛ بريئون من العنف والقتل والاستبداد فلا أحد يقول هذا.. لكن الجميع كانوا في الهوى سواء.. والصراع على السلطة والدفاع عنها كان قاسماً مشتركاً.. بعضه صريح والآخر مفسر بالدين، وإن كانت الدقة تقتضي القول إن المبادىء الإسلامية تجعل من كل شيء من الحياة العادية نوعاً من العبادة إن كان المقصود به تحقيق أحكام الشارع الحكيم ومقاصد الشريعة الإسلامية.. ولعل هذا ما يجعل الآخرين يخطئون في تفسير الأمر، كما أنه في المقابل يعطي لأصحاب الأهواء من المسلمين فرصة لتغليف ادعاءاتهم بغطاء ديني.. لكن لأن الإسلام ليس فيه كهنوت فمن السهل فضح حقيقة التستر بالدين، ولذلك كان العلماء في مقدمة الحركات الإصلاحية والتجديدية على مر التاريخ! ما نريد قوله هنا إن الإسلام أكبر بما لا يقاس من مجرد كهنوت ديني.. أو دماء تسيل باسمه.. أو مظالم يرتكبها المنتسبون إليه.. ومن الظلم أن نجعل ديناً بكل ما فيه من عظمة عقائدية، وتشريعية، وأخلاقية يدفع ثمن أخطاء بعض منتسبيه، والمثير للمفارقة أن بعض الكارهين للمشروع الإسلامي لا يعلمون أنهم بأخطائهم وممارساتهم الفجة لا يختلفون كثيراً عمن يجرمونهم من القاعدة وداعش وغيرهم؛ عندما يتآمرون مثلاً على إسقاط سلطة منتخبة بنزاهة لمجرد أنهم إسلاميون، ويجهضون مساراً ديمقراطياً سلمياً لمصلحة مسار عسكري ديكتاتوري ولو أغرق البلاد في الدماء! وقبل يومين كانت إحدى القنوات المصرية المؤيدة للانقلاب العسكري تبث مقطعاً مصوراً لمن زعمت أنه مقاتل من داعش يعلن فيه تأييده لجماعة أنصار بيت المقدس المصرية، مؤكداً أن الجهاد والدم هو الحل! وبغض النظر عن صحة الفيديو؛ فإن ضيف البرنامج المخصص لإدانة الإسلاميين بدون تمييز؛ (ويدعى سمير غطاس) وصفته رئيس مركز دراسات استراتيجية؛ التقط الخيط وراح يندد بالإسلاميين، ويستشهد بالفيديو بأن الإسلاميين لا يفهمون سبيلاً للوصول إلى السلطة إلا عبر الدماء وليس – للمفاجأة!- عبر الديمقراطية و.. صناديق الانتخابات! كان سيكون أكبر عزاء للإخوان (الحزب الفائز بالأغلبية ويقبع قادته في السجن!).. ود. محمد مرسي (رئيس مصر المنتخب المخطوف من دار الرئاسة، والمعتقل في مكان مجهول!).. لو أن الناقمين على الإسلاميين سلوك طريق العنف سمحوا لهم بمشاهدة البرنامج، والاستماع لكلام مستر غطاس بسّاس الاستراتيجي.. وإكمالاً للجميل يسمحون لهم بأن يبصقوا على شاشة التلفاز!