لا أريد أن أدخل في تنظير أكاديمي عن العلمانية وتاريخها وتعريفها، فلسنا بهذا الصدد. لكن ما يلزمنا في هذه العجالة أن نعرف أن العلمانية كانت ضرورة في الغرب، إزاء الكنيسة ودين كنسي ورجال كهنوت ورجال دين وإكليروس أفسدوا الحياة الغربية في أوروبا، وآسيا الأوربية، أقصد بها روسيا، وجعلت الحياة جحيماً لا يطاق. فقد حكمت الكنيسة وتحكمت وأحكمت حلقات الظلم على رقاب الناس وحاكمت العلماء وأحرقتهم بالنار، وما نجا غاليليو غاليلي من مصيره الجهنمي الدنيوي سنة 1600 وما بعدها بقليل إلا لسنه الكبيرة، لكنه فرض عليه الإقامة الجبرية في منزله حتى الموت، ولا مجال للدخول في التفاصيل، فكل ما جرى لكوبرنيكس أو غاليليو وغيرهم، إنما هو حقائق علمية كانوا روداها وأول مكتشفيها، سواء كان ذلك القول بكروية الأرض أو دورانها حول الشمس أو نفي أن الأرض مركز الكون، أو أي حقيقة علمية ناصعة من هذا القبيل. قلت لا مجال للتفصيل فهذا الحديث يطول ويطول، ولكن باختصار ما سميت القرون الوسطى قرون الظلم والظلام إلا لأن الكنيسة كانت متسيدة فيها مسيطرة مهيمنة، وخنقت الخلق وضيقت سبل عيشهم وتفكيرهم، ومن اتهم بالسحر فالحرق مصيره المؤكد، وهذا أسهل اتهام وأقل داع كفيل بإلصاقه بأي أحد. وتدخلت الكنيسة في القضاء، بل كان هو أداتها وذراعها في بسط هيمنتها وسيطرتها على الناس، وكان القضاة أفسد الخلق، وأفسدوا الحياة فوق فسادها. وكم أزهقت من أرواح على أيدي هذا القضاء الفاسد، ولن نتحدث عن صكوك الغفران، ولا الامتيازات التي أعطاها هؤلاء لأنفسهم، ولن نتكلم عن تأله البابوات ولا كيف جعلوا الدين سلماً وتبعاً وخادماً للأمراء الفاسدين. ولا كيف جرى تحالف شيطاني بين مصدري القوة والسلطة والنفوذ: الدين والسياسة، كل هذا لا نريد الخوض فيه ولا الدخول في معمعته، فهو حديث يطول من ناحية والعائد منه قليل. لكل هذا انتفضت أوروبا على تغول الكنيسة والسلطة السياسية وحق لها، وما كان لها أن تنهض إلا بكسر القيد الذي قيدت به الكنيسة أيديها وعقولها وغلَّتها عن الحركة! لكن ما دهانا نحن في العالم الإسلامي حتى نعتقد أن «العلمانية هي الحل» كما يطرزون ويزخرفون تقليداً أعمى بلا روية ولا فكر رشيد؟ هل صادر الدين الإسلامي على العقل وحجر عليه أن ينظر أم أمره بذلك، واعتبر «التفكير فريضة إسلامية» كما قال العقاد في كتابه المعنون بهذا العنوان، وقال: «قل انظروا ماذا في السموات والأرض» وقال: «قل سيروا في الأرض فانظروا..» «أفلا ينظرون..» بل إن بعض أو جل علماء العقيدة لا يقبلون بالتقليد في العقيدة، بل لا بد من أن تقوم العقيدة على الدليل القائم بدوره على التفكر والتدبر والنظر. فلماذا إذاً نعامل الإسلام كمعاملة المسيحيين أو النصارى الدين المسيحي؟ لماذا المساواة بينهما مع أن الفارق بينهما كما بين السماء والأرض؟ أقصد بالدين المسيحي الذي عبثت به يد البشر، لا الدين الحق الذي أنزل على عيسى عليه السلام. إن ما يدور في العالم العربي والإسلامي إنما هو محض تقليد وتبعية إن أحسنا الظن، أو عمالة وتنفيذ مخطط إن أسأنا الظن، ويكفي هذا قدحاً في مواقف العلمانية والعلمانيين. ويكفي العلمانية سوء ذكر وسوء طالع أن أول من ابتدعها في العالم الإسلامي، وفرضها على مجتمعه وشعبه بالحديد والنار والقسر والقهر والإجبار مصطفى كمال أتاتورك اليهودي الدونمي من يهود سالونيك باليونان! ويكفي العلمانية سوءاً وشؤماً أنها في التطبيق العملي منذ ثلاثة أرباع قرن، ولم تقد مجتمعاتها إلا إلى مزيد من الفقر والدكتاتورية والخراب، ويكفيها نكداً وغماً أنها عمقت التبعية للغرب، فما غادرنا المستعمر الغربي إلا بعد أن اطمأن إلى أن تركته من العلمانية بأيد أمينة! والعلمانية العربية بالمناسبة، إذ تجاوزنا أنها وصفة الغرب المفروضة علينا بالإجبار والعنت والقهر والنار، فهي محروسة بعين الاستعمار، لا يقبل عنها بديلاً مهما كلف الثمن أو غلت الأسعار! أما رأيتم إلى تجربة الجزائر عندما نجح الإسلاميون في صناديق الانتخابات، وهي الوصفة السحرية لدين الديمقراطية التي يدين بها الغرب، ولا يرتضي عنها بديلاً، فإن هذا الغرب وفرنسا تحديداً هددت إن كنتم تذكرون بإعادة احتلال الجزائر، إذا استمر الأمر وتسلم المسلمون السلطة! لقد جرى علمنة العالم العربي والإسلامي بصورة نتمنى معها أن لو طبقت في مجتمعاتنا علمانية الغرب على ما هي عليه من نقائص! فقد كان القذافي يستتيب من كان يطلق لحيته، وإلا فهو معرض للسجن وما هو أكثر وأكبر من السجن. وهل كان القذافي إلا علمانياً لا دينياً ملحداً يحارب الله ويتطاول على قرآنه؟ وهل كان بنعلي (هكذا) إلا علمانياً والحبيب من قبله، ولقد حدثني من عمل في قصر الحبيب أن مسبة الرب تعالى الله والإسلام والرسول كانت على لسانه كالترنيمة يترنم بها. وهل كان هذان النعلان إلا علمانيين مغاليين في علمانيتهما وعمالتهما للغرب؟ وهل كان عبد الكريم قاسم الشيعي الشيوعي إلا علمانياً مغالياً كذلك؟ وهل كان حافظ الأسد وابنه الفشار إلا علمانيين مغاليين حاربا الإسلام بكل ما أوتيا من قوة، ومعهما الغرب العلماني وروسيا العلمانية؟ وهل كان مبارك إلا علمانياً كارهاً لدين الإسلام محاداً له محارباً بكل ما أوتي من إمكانات، والغرب كان ظهيراً له؟ ما لكم كيف تحكمون؟ وهل حكام الإمارات الآن إلا كذلك؟ وهل مجلاتهم إلا كذلك وقنوات كل دول النفط؟! والآن تتوج العلمانية مكارمها أو مكارهها بما يحصل في بلدان «الربيع العربي» من انقلاب على الثورة أو ثورة مضادة للثورة وعلى الثورة. وهل تتسلح هذه القوى المعروفة المربط إلا بالكذب والإشاعة والبلطجة والعنف؟ لماذا ترفضون الاحتكام إلى الشعب وإلى الصناديق؟ وأنتم أصلاً ترفضون الاحتكام إلى شرع الله فما الحكم إذاً؟ هل أنتم الخصم والحكم؟ ومن أنتم وما أنتم لولا الدعم الغربي المطلق المفتوح لكم؟ هل لو سحب عنكم الغطاء يكون لكم وزن؟ ولماذا تستعينون بفلول مراكز القوى من زمن مبارك العميل؟ ألا يديركم في مصر خلية إدارة الأزمة المكونة من يهود إسرائليين وأمريكان؟ من يضخ لكم الأموال من دول الخليج التابعة لأمريكا وتبثون الإشاعات أن الإسلام وصفة أمريكية؟ وأسمع من إحدى المحطات التابعة للنظام السوري أن أمريكا تريد دولة دينية إسلامية في سوريا! وهي تخوف العالم وبعض القوى المحلية بمثل هذا الكلام. إن جناية العلمانية والعلمانيين طيلة ثلاثة أرباع القرن تهون أمام محاولات إفساد «الربيع العربي» وتحويله إلى خريف متساقط الثمرات والأوراق منعدم النضرة والقدرة والخضرة، أقول هذا أخطر من ثلاثة أرباع القرن من الجناية على مجتمعنا. هل كان العسكر الذين دمروا تركيا إلا علمانيين؟ وهل كان برويز مشرف الذي دمر باكستان إلا علمانياً؟ وهل كان رموز منظمة التحرير التي تعمل الآن على الإيقاع الإسرائيلي إلا علمانيين؟ وسلوا ياسر عبد ياسر والزمرة هل هم قوى دينية ظلامية، أم قوى علمانية تنويرية بزعمهم تتبع المحتل وتخدم المحتل؟ إذا استقر الوضع في مصر وكشفت الأوراق، سنكتشف حجم جناية هؤلاء على مصر طيلة العقود الفائتة. دعوا الشعب ينعتق من ربقتكم، كفوا عن فرض هيمنتكم، كفوا عن تفردكم بالسلطة، كفوا عن المقولة القذرة نحن أو الطوفان، إما أن نديرها وإما أن ندمرها. آن التحرر من أضراب بشار والبرادعي و»عمرو ليفني».. دعوا الشعب العربي ينهض ويصلح فسادكم، آن أن تنصرفوا.