أحداث اليوم تخط كتب التاريخ مستقبلًا، لكن من يدوّن هذه الأحداث؟ في زمن الصورة والصوت، لم يعد التاريخ يُكتب في دفاتر المؤرخين، بل يُبث في نشرات الأخبار، ويُصاغ على منصات الإعلام. وهنا لا بد أن نسأل أنفسنا، هل أصبح الإعلام الأصفر الذي يفبْرِك أحداث اليوم هو من سيكتب التاريخ غدًا؟ لقد عرف الغرب هذا النوع من الصحافة الصفراء في نهايات القرن التاسع عشر، بعد أن أثار مسلسل اسمه الطفل الأصفر ضجة واسعة في إحدى صحف نيويورك. لم تكن القصة مجرد تسلية، بل كانت محمّلة بإيحاءات سياسية وفضائح أخلاقية واجتماعية، تتعلق بأسرار السياسيين ورجال الأعمال، وتُقدَّم بأسلوب تضخيمي خالٍ من الدقة والمصداقية، يميل إلى التهويل والتلفيق والإشاعات المثيرة ولذلك، أُسميت الصحف التي تسير على هذا النهج بالصُحف الصفراء.
اليوم، لا نحتاج إلى ترجمة هذا المفهوم إلى لغتنا، فقد أصبح لدينا إعلام أصفر يتحدث لغتنا ويفتك بنسيج مجتمعنا، لا سيما في الجنوب. إعلام بات جزءًا من معضلتنا الوطنية، يسهم في صناعة العبث والاضطراب، بدلًا من أن يكون رافعة للوعي والنضج العام.
منصات إعلامية، مطبوعة كانت أم رقمية، وأخرى على وسائل التواصل، تقتات على الابتزاز والتشهير واختلاق القصص الملفقة، ليس بدافع الصحافة الاستقصائية أو محاربة الفساد، بل لخدمة مشاريع سياسية ضيقة، وجهات نافذة تملك المال أو الجاه أو القدرة على التوظيف.
لا بأس أن تمتلك الصحف موقفًا سياسيًا، فذلك من صلب العمل الإعلامي الحر. لكن الخطير هو عندما يتحوّل الإعلام إلى أداة مناطقية وقبلية وضيعة، تُدار بأقلام تدّعي المهنية، بينما هي لا تفعل إلا نشر الكراهية، وتعميق الانقسامات، وزرع الفتنة. وللأسف، يفعلون ذلك بدعوى الاستقلالية، وهي منها براء.
هكذا سُخّر الإعلام الأصفر الجديد لخدمة نخبة من المتنفذين سياسيًا واقتصاديًا (من يدفع)، يخوضون عبره معاركهم القذرة ضد خصومهم، في ظل ضعف الإعلام الوطني الجنوبي، الذي لم يستطع حتى اليوم مجاراة الآلة الإعلامية التابعة لسلطتي الشرعية الفاسدة والميليشيات الحوثية.
إن خطورة هذا الإعلام لا تكمن فقط في ما ينشره، بل في الأثر التراكمي الذي يخلّفه في وجدان الناس، حين يضلل ويفرق ويشوه. ولأن التاريخ لا يكتبه المنتصرون فقط، بل يُدوّن بأثر الواقع ومالاته، فإن هؤلاء الإعلاميين سيجدون أسماءهم إن استمروا على هذا الدرب في صفحات الطابور الخامس، أولئك الذين خاصموا شعبهم، وحاربوا قضاياه تحت غطاء المهنية الزائفة.
يقول الله تعالى: ((من كان يريد العزة فلله العزة جميعًا، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور)).
الإعلام ليس مهنةً للارتزاق، بل رسالة. ومن يخونها، يخون وطنه قبل أن يخون قلمه.