كما كانت جمعة الكرامة يوماً مفصلياً في الثورة الشعبية الشبابية ضد نظام المخلوع علي صالح، ومصدر فخر وكرامة للشهداء؛ فكذلك يمكن القول إن الجدار الذي بناه البلاطجة؛ ودارت حوله المواجهة بينهم وبين الشباب الثائر؛ هو جدار الندامة بالنسبة للمخلوع ونظامه؛ إذ كان لابد من فضحية أخلاقية يرتكبها المخلوع حتى يبدأ العد التنازلي لوجوده في السلطة، فمن يومها بدأ النظام يتداعى تدريجياً: سياسياً وأخلاقياً، وانكشف عنه الغطاء الخارجي أو بالأصح نفضوا أيديهم منه حتى سقط رأسه وبعض جوانبه! ما قبل جمعة الكرامة؛ كان يمكن أن تنفع المخلوع أي خطوات تراجعية يمتص بها فوران الشارع اليمني.. لكن بعد أن تلطخت أياديهم بالدماء وبتلك الهمجية فقد كان لابد من أن يبدأ السقوط المريع؛ فالأمر لم يكن حادثاً فردياً ولا مناوشات حادة من هنا وهناك؛ بل كانت جريمة إبادة مدبرة بليل، وتداعى لها البلاطجة والمجرمون بإشراف المخلوع وأعوانه السياسيين والأمنيين! وكل مجريات ما حدث في ساعات الجريمة يؤكد سفالة المجرمين والحقد الأعمى الذي طغى على عقولهم وأفئدتهم، وجعلهم يستبيحون دماء المعتصمين والشباب بتلك الهمجية وذلك الجنون الأعمى الذي صوّر لهم أنه يمكن القضاء على حشود بمئات الآلاف، وإطفاء جذوة الغضب الشعبي بالقتل العشوائي وفق ما حدث ورآه الملايين حاضرين في الساحات أو عبر شاشات القنوات الفضائية!
******* كانت جريمة في غاية البشاعة، وأسوأ بشاعة مما حدث في حادثة التفجير في مسجد الرئاسة بعدها؛ ورغم أن كلتا الحادثتين وقعتا في وقت صلاة الجمعة أو بعدها؛ إلا أن جريمة جمعة الكرامة استهدفت شباباً في عمر الزهور عمداً وعن سابق تخطيط وترصد، واقترفها علانية ودون خوف من آلات تصوير أو توثيق بلاطجة جلبهم المخلوع ورجاله، وتم تسليحهم وتعبئتهم معنوياً ضد المعتصمين؛ سواءً من خلال خطابات عديدة للمخلوع دعاهم فيها علناً إلى حمل السلاح والدفاع عن أعراضهم وأنفسهم من بيت إلى بيت، وكأنه رئيس عصابة وليس رئيس دولة، وكذلك في إطار ما سمي باللجان الشعبية ومنظمة مناصري رئيس الجمهورية والشرعية الدستورية (!) التي أسسها المخلوع لمواجهة المد الشعبي ضده، وعلى الطريقة التي شرحها العميد يحيى الراعي رئيس مجلس النواب في الشريط المسرب للقائه مع رجال قبائل جلبهم من منطقته بحيث تبدو المعركة – على حد تعبيره- بين قبيلي وقبيلي والدولة تفرع. (كشفت رسالة مؤرخة في 12/3/2011 موجهة من وزير الداخلية السابق رشاد المصري إلى طارق محمد عبد الله صالح عن تفاصل عملية تسليم الأسلحة، وهي من ضمن وثائق القضية).
أما في حادثة مسجد الرئاسة فقد كان الغموض سيد الموقف، فالتفجير وقع في قلب دار الرئاسة حيث يسكن ويعمل المخلوع، وهو أكثر الأماكن تأميناً في البلاد، وكل المسؤولين عن الحماية والحرس الخاص هم من أقربائه وأبناء منطقته والمؤتمنين: حزبياً وقبلياً ومناطقياً.. ومن ثم فالحادث لا يتساوى أخلاقياً مع ما حدث من جريمة قتل علني في ساحة التغيير بأي حال من الأحوال!
(هذا طبعاً إذا استبعدنا الفرضية التي تقول إن التدبير الأصلي كان يستهدف قصف بعض أبرز الشخصيات المعارضة للمخلوع بصواريخ موجهة مرتبطة بشريحة كان مخططاً إيصالها بطريقة خادعة مع رجل أرسل ظاهرياً للتوسط؛ لكن تدخلت عوامل طارئة وأخّرت ذهاب الرجل الضحية، واضطراره للبقاء للصلاة مما تسبب في الخطأ الذي حدث؛ وعلى الطريقة نفسها التي حدث بها القصف الخاطىء الذي راح ضحيته الشيخ الشبواني!).
من نافلة القول إنه لم تظهر حتى الآن معلومات محايدة عما حدث بالتفصيل، وتم إخفاء جوانب مهمة ورئيسية منها، ولم يعرف أحد من تولى التحقيق؟ ومع من تم التحقيق أصلاً؟ ومن كتب التقرير النهائي؟ وكيف جرت كل هذه الأمور؟ وهل تمت في إطار قانوي سليم ونزيه أم على طريقة التحقيق المعروفة في الحوادث المماثلة التي كانت تحدث في عهد المخلوع؟ وبدلاً من ذلك نفذ المخلوع وأتباعه خطة إعلامية وسياسية لتضليل الرأي العام وصرف النظر عن دقائق ما حدث، وإعلان اتهامات ضد أشخاص وجهات بزعم أن التحقيقات أثبتت مسؤوليتها عن الحادث! ولا دلالة لذلك إلا ارتباك المخلوع وأتباعه ويأسهم من إقناع الآخرين بروايتهم مما اضطرهم إلى ذلك كنوع من خلط الأوراق وإثارة البلبلة والخواطر، وقطع الطريق - من وجهة نظرهم- أو استباقاً لأي رفض من القضاء لروايتهم للأحداث، ولعل هذا يفسر رفضهم لسير مجرى نظر القضية في المحكمة وتعطيلها، وتفضيلهم استغلالها إعلامياً وسياسياً، وتحويلها إلى هولوكست على الطريقة الصهيونية؛ بدعوى عدم حيادية القاضي، وللتغطية على جريمتهم في جمعة الكرامة وفي غيرها من المناطق التي ارتكبت فيها قوات المخلوع جرائم ضد المواطنين العزل!
وبعض الروايات التي أدلى بها من كانوا هناك زادت الأمر غموضاً، وخاصة فيما يتعلق بما حدث في المسجد، وبالحالة الصحية للمخلوع بعد الحادث، فقد تضاربت المعلومات بين ما قاله هو مع ما قاله آخرون.. وتناثرت اتهامات العكفة بين أمريكا، وتنظيم القاعدة، والإصلاح، وآل الأحمر، واللواء علي محسن! واختلفت حتى الرواية حول أداة التفجير وهل كانت صاروخاً جاء من الجو أم تفجيراً داخلياً بواسطة عبوات. وفي الحالتين فقد كانت هناك ملاحظات انتقادية لهما من خلال معاينة الآثار المفترضة!
واكتشفنا للمرة الأولى المكانة التي تحتلها ذكرى جمعة أول رجب في الفكر المؤتمري، فقد بدا وكأن القوم كان يمكن أن يتسامحوا عما حدث لولا أنه وقع في صلاة الجمعة.. وفي جمعة رجب بالذات!
••• لا أريد أن يبدو من كلامي تشفياً من أي درجة؛ لكن كيف غاب عن المخلوع وأتباعه – وهم دراويش جمعة رجب!- ان هناك رباً واحداً لنا ولهم.. وأنه لن يرضى بأي حال عن جريمة قتل شباب مسلمين عزل كانوا أيضاً يصلون الجمعة مثلهم.. ومع ذلك لم ترحمهم رصاصات صالح وأعوانه.. ولمدة ثلاث ساعات استمر القنص والنصع (على حد تعبير المخلوع) في رؤوس الشباب وأعناقهم وصدورهم دون خوف من الله ودون تقدير لجمعة ولا شعبان؟
تورط المخلوع في تبرئة القتلة، واتهام أهالي الحي بأنهم هم الذين ارتكبوا المذبحة دفاعاً عن أنفسهم! وتورط في محاولة إخفاء ما حدث بالادعاء أن اليمنيين كلهم يجيدون النصع الدقيق لصرف التهمة عن القتلة المحترفين! وتورط في توجيه وزارة الداخلية بالكف عن ملاحقة المتهمين الرئيسيين في الجريمة؛ بل تم تعيين أحدهم في منصب أمني بعدها! وتورط في محاولة تحريف التحقيقات من خلال عزل النائب العام السابق والمجيء بآخر تحوطه الشكوك من كل جانب! ورغم كل ذلك فالجميع: القتلة والشهداء والمحرضين سوف يقفون بين يدي الله في يوم لا نائب عام فيه ولا حرس خاص ولا إعلام مزيّف.. يوم الحاكم فيه هو الديّان.. والشهود فيه: جلد المخلوع ويداه وأجزاء جسمه كلها.. يوم ليس مثل جمعة رجب بالتأكيد بل هو أشد هولاً وفزعاً!
ويومها سوف يتأكد القتلة أن ذلك الجدار كان جدار الندامة.. ونسأل الله أن يروا بأعينهم أن تلك الجمعة كانت جمعة الكرامة للشهداء الأبرياء وجمعة الفضيحة لهم!