ليس بالضرورة أن تكون الإشارة إلى دولة الحوثيين في العنوان يقصد بها (لا قدر الله) عندما يسيطرون على صنعاء وكل اليمن أو ما تيسر منه. لا.. الأمر ليس كذلك، ولا هو بالهدف السهل، ودون ذلك ستخوض مليشيات الحوثيين بحاراً من الدماء وتلالاً من الجماجم.. وهم غير متأكدين حتى الآن من هوية الجهة المنتصرة، ولا من هوية الجماجم والجثث التي ستتناثر في كل مكان، وإن كانوا يراهنون على تكرير ما حدث في دماج وحاشد وعمران! فكرة هذا المقال طرأت في ذهني بعد رصد عدد من الممارسات الحوثية: عسكرياً ومذهبياً ومدنياً.. ومن تأمل عدد كبير من الصور لأتباع الحوثي المقاتلين منهم والمعتصمين السلميين (!!).. وهي ممارسات علنية موثقة؛ لأن القوم – في مناطق سيطرتهم وليس خارجها- لا يخفون قناعاتهم ولا يدارون كما يفعل ممثلوهم في صنعاء ومنزل.. ومنزل! فمن الواضح أننا أمام طالبان شيعية تناظر طالبان السنة المعروفة في أفغانستان؛ أو جيش الإخوان الذي قاتل مع الملك السعودي عبد العزيز في فترة تأسيس المملكة مطلع القرن العشرين الميلادي الماضي؛ وقد قلنا ذلك أكثر من مرة.. فهناك تشابه في الحالات الثلاث لكن الأنموذج الطالباني هو الأكثر استدعاء لقربه زمنياً في أذهان الناس! **** رغم القواسم المشتركة العديدة بين الحالتين الدينيتين الطالبانية والحوثية؛ إلا أن ثمة جانباً كان الحوثيون أكثر حظاً فيه من نظرائهم الأفغان، ونقصد بها حالة التعاطف السياسي، والدعممة الفكرية التي واجه عامة اليسار اليمني بها ظهور الحركة الحوثية؛ رغم مضمونها الديني بل المذهبي المتزمت، وتاريخ العداء القديم بينهما المغموس بالدم في سنوات الستينيات إبان الصراع العسكري بين الجمهوريين والملكيين.. ولا تفسير لهذه الحالة – إن استثنينا تكتيك: حجر يضرب حجراً- إلا أن الطرفين: اليساري والإمامي وجدا منذ الثمانينيات وحتى الآن أن تناقضهما الأساسي هو مع تيار الإسلام السياسي السني الذي يمثله في اليمن التجمع اليمني للإصلاح.. ومن أجل مواجهة هذا الخطر الوجودي بالنسبة لهما - أو المنافس القوي فكرياً وشعبياً- اطرحوا تناقضاتهم البينية، وعضّوا بالنواجذ على كل ما يغضبهم من بعض ولو كان يمس الأصول الفكرية لهذا الطرف أو ذاك! لاحظوا – على سبيل فتح الشهية للمتابعة- التناقض الغريب في مواقف الطرفين مما حدث نهاية التسعينيات مع روايتي "صنعاء مدينة مفتوحة"، و"قوارب جبلية".. ومثلهما رواية "الرهينة".. ففي الحالة الأولى نأى التيار الإمامي الديني المذهبي بنفسه عن الجدل الحاد الذي دار بعد نشر الرواية في صحيفة رسمية بسبب ورود عبارة فيها مس بالذات الإلهية وصف الله تعالى بأنه ظالم (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً).. أما في الحالتين الأخريين؛ فقد تصدت رموز إعلامية من التيار الإمامي بحماس لما فيها من تعريضات موجعة مست أوتاراً مذهبية، وخاضت ضدها معركة كانت الذات الإلهية أولى بها إن صحت الغيرة الدينية على المقدسات.. وفي المقابل فإن بعض اليسار الذي خاض معركة صليبية دفاعاً عما قيل إنه حرية التعبير في حالة "صنعاء مدينة مفتوحة" بلع لسانه، ولم يجد أن حرية التعبير تلزمه أيضاً حماية لها أن يخوض معركة صليبية؛ أو حتى على نمط معارك الجيوش العربية؛ ضد الفاشية.. الدينية! **** من نافلة القول إن جملة الآراء السياسية والفكرية التي عرضها حسين الحوثي في ملازمه، وصارت مرجعية أساسية للحوثيين؛ تتناقض تماماً مع ما كان شائعاً أنه صار مرجعية لليسار والليبراليين.. وطالعوا إن شئتم مواقفه التحقيرية تجاه الأقليات الدينية، وحتى تجاه المسلمين المخالفين له مذهبياً، والخيار الديمقراطي، والانتخابات (التي يمكن أن تأتي بيهودي ليحكم اليمن!) والتي لم تلقَ أي نقاش يفندها.. ولا نقول رفضاً ومواجهة تشنّع وتحرّض عليها.. ومن آخر ما لفت نظري من تلكم الآراء استنكار الحوثي رفض الاحتفال بيوم القدس الذي اقترحه الخميني مقابل الاحتفال بأعياد اقترحها اليهود النصارى مثل عيد الأم، وعيد العمال، ورأس السنة الميلادية! وهي بالمناسبة نفس الآراء التي تبناها إسلاميون من الضفة السنية ولاقوا بسببها حملات تشنيع وتسفيه وتحريض يساري ما تزال قائمة حتى اليوم!
وعلى النمط نفسه يمكن أن نلاحظ اضطراد هذه المواقف من الطرفين تجاه بعضهما في مسائل عديدة؛ برزت إلى العلن بعد سيطرة الحوثيين على أجزاء من البلاد، وإقامة سلطة سياسية خاصة بهم خارج نطاق الدولة. وتحت شعارات دينية ومذهبية قحة، ووفق ممارسات متطرفة ومن النوع الذي لا يحدث إلا من منظمات متشددة مثل القاعدة وداعش وطالبان بالطبع.. والأكثر دلالة أنه من النوع الذي كان وما يزال يثير كل أصناف اليسار والعلمانيين الليبراليين، ويهيج جنونهم تجاه الإسلاميين السنة إن صدرت عنهم أو نسبت إلى بعضهم زوراً وبهتاناً! وقد ذكرنا مرة مثالاً صارخاً على ذلك هو سكوت الفئات المذكورة على ترديد عبارة "اللعنة على اليهود" في صرخة الحوثيين المعروفة؛ في الوقت الذي ظلوا طوال سنوات يثيرون الدنيا ولا يقعدونها انتقاداً وتسفيهاً للدعاء التقليدي في خطب الجمعة في المساجد أن يهلك الله اليهود والنصارى.. وهي مسألة كانت من أساسيات التناولات المتكررة في الصحافة عن التطرف الديني، رغم الفارق الكبير بين من يرددها يومياً وفقاً لأجندة حزبية سياسية تحمل السلاح، وبين من يقولها ثوانٍ في مسجد! **** ذاك زمن انتهى.. ونحن الآن في مرحلة أكثر دقة مع استمرار محاولات التمدد الحوثي إلى درجة الالتفاف على صنعاء من داخلها وخارجها، والتحالف مع جماعة المخلوع علي صالح؛ أو العدو الذي كان يقال - يسارياً- إنه أس البلاء في البلاد.. ويبدو أن هناك ما يمكن وصفه بأنه صحوة يسارية؛ وإن كانت متأخرة بعض الشيء؛ تجاه الخطر الذي تمثله الخيارات السياسية والدينية للحوثيين على أنماط حياة من يخالفهم مذهبياً وسياسياً.. كما بينت تجربة العام الأخير!
ومن المؤكد أن الفئات اليسارية، والليبرالية، والوطنية غير المتحزبة المؤمنة بسبتمبر الثورة؛ ستكون هي الأكثر تضرراً من هيمنة الحوثيين وربما بأكثر مما سيحدث لأتباع الجماعات الإسلامية الأخرى، فهؤلاء سيجدون من يقول لهم: "اكتشفوا القواسم الدينية المشتركة مع الحوثيين، ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة فعلى الأقل ما زلتم في ظل دولة إسلامية!" وعلى طريقة ما حدث في إيران تجاه اليسار الذي كان متحالفاً مع التيار الخميني (يمكن مراجعة مقال الأخ فتحي أبو النصر: كيف بلع الخميني يسار إيران!) فالتجربة سوف تتكرر بكل تأكيد.. حتى لو رضي هؤلاء بما تيسر من شرعنة وجودهم على الطريقة المعروفة في صعدة (أي يكونون أسود مفارش.. أو يسار مفارش وديكورات!). سنسرد سريعاً بعضاً مما كان عامة اليسار والليبراليين يقيمون الدنيا من أجله؛ قبل أن يأتي زمن غضوا الطرف عنها، وقد نراهم قريباً يبلعون ألسنتهم في دولة الحوثيين.. إن لم نفاجأ بأنهم تحولوا دراويش في ظلها.. يشاركون في شتم اليهود والنصارى، والدعاء عليهم ولعنهم في التلفاز الرسمي، وفي صدارة الصحف الحكومية.. فضلاً عن المطالبة بإدماج مفردات الصرخة في المنهاج الدراسي! وقطعاً لن يستطيع أحد أن يعيد ذكر رواية "صنعاء مدينة مفتوحة" فضلاً عن إعادة نشرها.. ومثلها "الرهينة" و"قوارب جبلية"، وكل الإنتاج الأدبي الذي أنتجته مرحلة سبتمبر وأكتوبر ضد الإمامة.. وهناك أيضاً الأغاني الوطنية التي ستخضع لعملية تنقية شرسة مما يمس الإمامة والأئمة، وستصير أناشيد أيوب وغيره من البدع الضلالات.. أما الأغاني العاطفية فقولوا عليها: باي.. باي! والذين واللاتي كانوا وكنّ يشمئزون من أناشيد الجهاد والجنان سيجدون أنفسهم مضطرين لحفظها وترديدها ولو للاستعانة بها في المذاكرة مع الأولاد! وستصير عبارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله والمجاهدون من ثوابت الفكر والإعلام.. ولن يخلو مقال ولا حديث منها.. وهي التي كان مجرد ذكرها يستدعي طالبان، وجماعات المطاوعة في السعودية! الموسيقى والطرب بالتأكيد ستكون أولى ضحايا سياسة "شيلني وأشيلك".. وصحيح أن كثيراً من المطربين يستحقون المنع بسب رداءة أصواتهم؛ لكن حتى الفن الجميل ومنه السياسي والاجتماعي سيكون عرضة للمطاردة والمصادرة.. ولا سيما أن المرجعيات المذهبية للحوثيين تعد الغناء والموسيقى من المحرمات، وعلى نفس طريقة ومبررات التوجه السلفي! دور السينما التي صدع البعض رؤوس اليمنيين حزناً عليها؛ سوف يكون التفكير فيها من المحرمات القطعية! ومثلها سينتهي زمن محلات بيع الأقراص المدمجة.. ولن تزف عروس ولا عريس إلا وفق الأناشيد المعتمدة رسمياً! وستتحقق لأول مرة أمنية كثيرين أن يتم تطهير الفنادق والمتنزهات السياحية من الموبقات: رقصاً وشراباً وتسلية دون خشية التعرض لتسونامي صحفي يندد بمن يسيء للسياحة كما كان يحدث أيام المخلوع، ويطلعوا دين أبو المحتج (الله أعلم ماذا سيكون موقف ابن شقيق المخلوع القطب البارز في حركة السياحة!).
الحجاب وليس السفور فقط سيصير بدعة ضلالة.. وسيفرض النقاب على الطريقة التقليدية على المجتمع النسائي.. واللاتي كنّ يتهجمن على الحجاب سيبكين دماً عليه رافعات شعار: سلام الله على الحجاب.. وعلى أيام الحزمي.. وعارف الصبري والعديني! ومن باب أولى فإن الاختلاط والتردد على المحلات والمولات سيصير من الماضي البغيض.. وقد تضطر بعض الناشتات لأداء عمرة وحجة تكفيراً عن مطالبتهن يوماً باختلاط الرجال والنساء في المسيرات.. دون أن ينسوا في المناسك أن يقلن: - سلام الله على.. الفرقة أولى مدرع!