يُدار العالم اليوم بمفاهيم ونظريات "الإدارة المبنية على الدلائل والبراهين", "الإدارة من أجل نتائج مستدامة", ولما تزل إداراتنا بالمبادئ القائمة على المساعدات والهبات, الارتجال والاستعجال. القائمة على نظرية "مصائب قوم عند قوم فوائد" وعلى نظرية الاستعمار "فرِّق تسُدْ"، وعلى تراث "أنا ومن بعدي الطوفان" والآن على قاعدة "المبادرة الخليجية وآليتهاالمزمنة, والدول العشر الراعية", واللي ما يشتري يتفرج على رأي أحبتنا المصريين!. يدار العالم بقاعدة "الرجل المناسب في المكان المناسب", ولما يزل لدينا "الفهلوي" أو "المحسوب" المناسب في أي مكان فهو مناسب. إذ أي شخص سيكون مناسباً لأي مكان طالما ليس المطلوب منه التخطيط السليم, والنتائج المستدامة الفاعلة, وفتح آفاق للترقي والتطور. فالمقياس الوحيد لتقييم أي إداري في اليمن هو شعار "مشي حالك". وأفضل منه من يعمل لمبدأ اسرق لك ولرئيسك (في العمل طبعاً) ولجهالك! وهذا ما أوصلنا إلى وضيعة عنق الزجاجة!
تعالوا نتذكر أول كلمات الرئيس (الهادي): "أنا وباسندوة نريد أن نختم حياتنا السياسية ختاماً مشرفاً", واللازمة اللاحقة: " لقد جئت لمهمة استثنائية في فترة استثنائية". لكننا نتلفت فلا نرى إلا المتسولين والفقراء والمساكين وقد ازدادوا, والمتزاحمين المتمصلحين والمتقاتلين والمتعصبين والغاضبين قد تكاثروا. والأزمات وقد ازدادت أضعافاً مضاعفة.
أزعم أنه أيما قائد سيحكم هذه البلد فإنه لن يستطيع المراوحة بعيداً عن تلكم النتائج المريعة, السبب أن ذلكم هو "نظام إدارة اليمن" والذي تلخصه كلمة واحدة: "اللا نظام" الذي رسخه السابقون في عقولنا الباطنة من غير أن ندري, أو لسنا نقول بالمقابل أن "أمريكا" التي نلعنها هي دولة نظام وقانون وأنه مهما جاء من يحكمها فإنه لن ينقص ولن يزيد, فللإدارة الأمريكية نظام قوي وقانوني وعادل هو من يسيرها (لا أتحدث هنا عن الإدارة الأمريكية مع القضايا العربية. ذلك موضع آخر)!
ولكن هل هناك حل؟ هل هناك أمل للفكاك من حالة "فوضى اللا نظام"! ألا يستطيع الرئيس هادي بالفعل الحصول على الختام المشرف أم أن "القطار يفوته"؟ أقول، وعلى الله التوكل والاعتماد: بلى يستطيع. وبأيسر ما يكون, وبأقصر طريق, وأحسن نظام إداري قابل للتطبيق وبأسرع مما تتصرون! "الإدارة بالمعروف" لو تتذكرون!
نعم لا يوجد مسمى"هذا المبدأ" في اي دستور في العالم, فنطلب من لجنة كتابة الدستور أن "تستنسخه" لنا من أي الدساتير العالمية.. هذا المبدأ موجود في كثير من سور القرآن, وهو كدستور للحكام موجود في سورة الشورى (وياللصدفة فما أحوجنا لشورى حقيقية), وتقول بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر والعاقبة للمتقين".
نعم,إنه مبدأ الإدارة بالمعروف! سيقول قائل: وما هذا المعروف؟ المعروف يا سادة هو أصول كل علم, وآداب كل معاملة, وقانون الحقوق والواجبات. المعروف بالنسبة لآداب الحاكم والمحكومين, يبدأ من مفهوم الطاعة والعدالة، ولا ينتهي عند مفاهيم التسامح والقناعة. تجده في المقولة العصرية لتفسير العلاقة بين الحاكم والمحكوم "إذعان مقابل إشباع".. إذعان الرعية وطاعتهم مقابل لإشباع الحاكم احتياجاتهم وتوفيرها وحفظ كرامتهم المواطنية. تجدونه في الكلمة الخالدة للخليفة أبي بكر" أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم" لكن "المعروف"اليوم أصبح إذعاناً مقابل تجويع وإهانة! المعرف أن تأخذ يد ورأس كل مجرم وكل مخرب للكهرباء والنفط وللخدمات, وليس أن تعتقل شباناً أحراراً مخلصين منذ 2011 بتهم خيالية, وتطلق سراح المخربين بل وتدفع لهم التعويضات والهبات, فأنّى هذا!
المعروف أن تجبي الزكاة أو الضرائب أو الجمارك, وتؤخذ من الأغنياء وتعطى الفقراء. لكن المتعارف عليه الآن العكس, من الفقراء إلى الأغنياء. المعروف- يا سادة- إنه إذا كان فلان إبن مسؤول ما, فإنه يعامل باحترام من احترام أبيه, لكن المتعارف عليه الآن أنه يأخذ من صلاحيات أبيه, ويستغل صلاحياته. المعروف ألا تستسهل الدولة, فتفرض على الناس المساكين "الجرعات"من غير حزمة إقتصادية وإدارية متكاملة تعين المسكين, وتدعم المتضرر, وتقطع رأس الفاسد. المعروف ألا يخرج الناس بهذة الأعداد الكبيرة للتسول في المساجد وفي الطرقات وفي المؤسسات وعند الإشارات, بل أن تقوم الدولة ممثلة بوزارة الشؤون الاجتماعية والأوقاف بدراسة أسباب كل حالة. أن تقوم الدولة بحل مشكلة التسول بناءً على هذه الدراسة, لكن المتعارف عليه أن الوزراء يقومون بمتابعة مستحقاتهم وبدلات سفرهم ومقابلاتهم مع الهيئات والمنظمات المانحة , أكثر من اهتمامهم ببحث الأسباب والحلول لهذه المشاكل.
المعروف دستور تلخصة الآيات القرآنية الكريمة التي كررت هذه الكلمة,في كثير من آيات المعاملات والحقوق. المعروف ة ليس مطلوباً من الرئيس هادي أن يطبقه فقط, بل نحن قبله, ويفسر دورنا – ببساطة- هذا الحديث العجيب والكاشف الذي صحح إسناده الشيخ شعيب الأرناؤوط: في رواية عند أحمد من حديث أبي جري الهجيمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنا قوم من أهل البادية فعلمنا شيئاً ينفعنا الله تبارك وتعالى به، قال: «لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وتسبيل الإزار فإنه من الخيلاء، والخيلاء لا يحبها الله عز وجل، وإن امرؤ سبّك بما يعلم فيك فلا تسبه بما تعلم فيه، فإن أجره لك ووباله على من قال».
وقبله ما راوه مسلم في صحيحه, من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلْق». ألا يذكركم هذان الحديثان بمدى العبوس الذي يلاقى به بعضنا بعضاً. بمستوى التحندق والمشاتمة والتنابز: "يا إصلاحي.. يا حوثي.. يا دحباشي يا..." ألم نكتفِ بعد؟ انظروا كيف صرنا فرجةً ومضحكةً لليهود الملاعين, وللمسلمين المخلصين على حد سواء!
الإدارة بالمعروف، يا سيادة الرئيس، هي ما يريده أنصار الحوثي والإصلاحيون والاشتراكيون بل وحتى عديمي الدين, لأنها تضمن العدالة والمساواة, والنهي عن المنكر والفساد, الذي يملأ مؤسساتنا وهيئتنا الحكومية والخاصة بما لا يخفى عليك. وبصدق, ستحصل على الختام المشرف الذي تبحث عنه في الدنيا, والبعث المشرف بين يدي الله يوم القيامة. وببساطة ستقطع الطريق على جميع من يصفون بعضهم بعضاً بالمزايدين بالدين, من الحوثيين والسلفيين والإصلاحيين وغيرهم من القاعديين المتطرفين. إنك لو راجعت تاريح الأمة الإسلامية فستجد أنها وجدت خيريتها في هذا المبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
الموضوع لا يحتاج كما قلت لا للجان ولا لمؤتمرات, ولا لقوانين, ولا لمزايدة...بل يحتاج لنية وصدق وعزم. طبعاً قبل ذلك الاستعانة وطلب السداد من الله – جل جلاله- المعين الهادي إلى سواء السبيل.