هاهي أيام العشر الأوائل من ذي الحجة تشرق عليكم بنورها، وتظللكم بعظيم أجرها، وتغمركم بواسع فضلها، أفضل أيام العام على الإطلاق إنها باختصار (أيام المتجر الرابح لبضاعة العمل الصالح) .ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العشر!، ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء) أخرجه البخاري . أرباح العمل الصالح في الدنيا واسعة ومنافعه غامرة. حسنُ رعاية الله، جزاء للعمل الصالح ففي الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه)) رواه البخاري . . المودَّةُ في قلوب المؤمنين، جزاء للعمل الصالح: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَٰنُ وُدّاً)[مريم:96]. . الذكر الحسن جزاءٌ للعمل الصالح، (وَءاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا) [العنكبوت:27]، أي: جمع الله تعالى لإبراهيم عليه السلام بين سعادة الدنيا الموصولة بسعادة الآخرة فكان له في الدنيا الرزق الواسع الهنيء، والمنزل الرحب، والمورد العذب، والثناء الجميل، والذكر الحسن، وكل أحد يحبه ويتولاه. . العمل الصالح يحمل مفاهيم واسعة ومسالك مختلفة وطرقاً متنوعة ليس كما يفهمه الناس ويحصرونه في أضيق أبوابه. إنه لا يقتصر على عبادات معينة ومجالات محددة، بل هو ميدان واسع ومفهوم شامل، فمن بنى مسجداً أو أنشأ مدرسة أو أقام مستشفى أو أشاد مصنعاً ليسدّ حاجة الأمة فإنه يكون بذلك قد عمل صالحاً، وله بذلك أجر. من واسى فقيراً وكفل يتيماً، من عاد مريضاً وأنقذ غريقاً وساعد بائساً وأنظر معسراً وأرشد ضالاً فقد عمل صالحاً، قال عليه الصلاة والسلام: (كل معروف صدقة) أخرجه البخاري كل عملٍ ينتفع به الآخرون مأجور صاحبُه عليه وهو من الصالحات، الإحسان إلى البهائم عمل صالح، ورجل سقى كلباً فشكر الله له سعيه فغفر له. إنظار المعسرين، التخفيف عنهم عمل صالح. غرس الأشجار، إماطة الأذى عن طريق الناس عمل صالح. الخدمة العامة للمجتمع وصيانة مرافق المسلمين العامة عملٌ صالح بالنية الصادقة، قال صلى الله عليه وسلم: (مرّ رجل بغصْن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحِّين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة) أخرجه البخاري ومسلم، على المرء أن لا يحقر المعروف، وأن لا يحقر عمل الخير مهما صغر، فالله يجازي على وزن الذرة من الخير، (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة:7]، وفي الحديث: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) أخرجه مسلم. وإذا قعَدت بالعبد قلةُ ذات اليد، وكان يملك نفساً توَّاقة للعمل الصالح فتح الله له من ميادين الخير حسب طاقته، ففي حلقة نقاشية عقدت في المدينة النبوية استمع المناقشون من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (على كل مسلم صدقة)، فقال بعضهم: يا نبي الله، فمن لم يجد؟! قال: (يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق)، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: (يُعين ذا الحاجة الملهوف)، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: ((فليعمل بالمعروف، وليمسك عن الشر فإنها له صدقة) أخرجه مسلم . وكل من يؤدِّي رسالةً لأمته فهو في عمل صالح، الكاتب بقلمه الصالح المصلح، والطبيب بأدويته النافعة، والباحث في معمله، والفلاح في مزرعته، والمعلم بين يدي طلابه، والمسؤول يؤدي ما اؤتمن عليه. . لقد خلق الله الخلقَ لعبادته وطاعتِه، ولكنّه سبحانه قسم حظوظَهم فيها، وفاوت بينهم في الاجتهاداتِ فيها، فمِنهم من كتبه مصلِّيًا قانتًا، ومنهم من كتبه متصدِّقًا محسنًا، ومنهم من كتبه صائمًا، ومنهم من كتبه مجاهدًا. يفتحُ لهم من أبوابِ الطاعات المطلوبات من نوافل العباداتِ وفروض الكفايات ما يتنافس فيه المتنافسون ويتمايَز به المتسابقون. فمن كان حظُّه في طاعةٍ أكثرَ كان منزلته في الجنّة أرفع. حدث أبو هريرة رضي الله عنه بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم يوماً قال: (من أنفَق زوجين من شيءٍ من الأشياء في سبيلِ الله دُعِي من أبواب الجنة: يا عبد الله، هذا خيرٌ، فمن كان من أهلِ الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومن كان من أهلِ الجهاد دُعِي من بابِ الجِهاد، ومَن كَان من أهل الصّدقة دُعي من بابِ الصدقةِ، ومن كان مِن أهل الصيام دُعِي من باب الصيام وباب الريان)، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما على هذا الذي يُدعَى من تلك الأبواب من ضرورة قال: هل يُدعَى منها كلِّها أحدٌ يا رسول الله؟ قال: (نعم، وأرجو أن تكونَ منهم يا أبا بكر) أخرجه البخاري . واسمعوا إلى رسالة عبدالله العُمري العابد الزاهد التي بعث بها إلى الإمام مالك في قصة لا تبلى جدتها يحضُّه فيها على العُزلةِ والعمَل المنفرد، فكتب إليه الإمام مالك رحمه الله: "إنَّ الله قسم الأعمالَ كما قسم الأرزاق، فرُبّ رجلٍ فُتِح له في الصلاة ولم يفتَح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقةِ ولم يفتَح له في الصوم"، قال مالك: "ونشرُ العلم من أفضلِ أعمال البرّ، وقد رضيتُ بما فُتح لي فيه، وما أظنّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكونَ كلانا على برٍّ وخير" . وعبدالله بن المبارك شاهد على ذلك راء بعينه فقال: "ما رأيتُ أحدًا ارتفع مثل مالك، ليس له كثيرُ صلاة ولا صيامٍ إلا أن تكونَ له سريرة" ويستدرك على ذلك الإمامُ الذهبيّ رحمه الله فيقول: "ما كان عليه مالك من العلمِ ونشره أفضلُ من نوافل الصلاة والصومِ لمن أراد به وجه الله" . طُرق الخير كثيرة، وأبواب العملِ الصالح مشرَعَة، وقد قال أهل العلم: إنّ أعمالَ البرّ لا تُفتح كلُّها للإنسان الواحدِ في الغالب، إن فتِح له في شيء منها لم يكن له في غيرها، وقد يفتَح لقليلٍ من الناس أبوابٌ متعدِّدة. وقد كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين من شِدّة حُبِّهم للخير وحرصهم على العمل الصالح يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الأعمال أفضَل؟ ويسألونه: أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ لأنّهم يعلمون أنّ الإنسانَ ليس في وسعِه ولا في طاقَته أن يأتيَ بجميع الأعمال. وقد كان جوابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم متعدِّدًا في أوقاتٍ مختلفة وفي أحوال مختَلفة أيضًا، وقد بيّن أهل العلم -رحمهم الله- الحكمةَ في تعدُّد إجاباتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم واختلافها فقالوا: إنّ ذلك من أجل اختلافِ أحوال السائلين واختلافِ أوقاتهم، فأعلَمَ كلَّ سائل بما يحتاج إليه، أو بما له رغبةٌ فيه، أو بما هو لائق به ومناسبٌ له. وتأمّل يارعاك الله هذه الطائفةَ من إجابات النبيِّ صلى الله عليه وسلم: فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها)، قال: ثمّ أيّ؟ قال: (بر الوالدين)، قال: ثمّ أيّ؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)، قال: حدَّثني بهنّ ولو استزدتُه لزادني. متفق عليه واللفظ للبخاري .
. وفي مسند أحمدَ من حديث ماعز رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: (إيمان بالله وحدَه، ثمّ الجهاد، ثم حجَّة برَّة تفضُل سائرَ العمل كما بين مطلع الشمس ومغربها). وفي سنن النسائي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: ((عليك بالصوم، فإنه لا عِدل له)). وعند أحمد ومسلم من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل؟ قال: (( إيمانٌ بالله، وجهاد في سبيله))، وعن زرارة بن أوفى رضي الله عنه أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل: أيّ العمل أفضل؟ قال: ((الحالُّ المرتحِل))، قيل: وما الحالّ المرتحِل؟ قال: ((صاحبُ القرآن؛ يضرِب من أوّل القرآن إلى آخره، ومن آخرِه إلى أوله، كلّما حلَّ ارتحَل)) أخرجه الدارمي في سننه وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: ((أدوَمُها وإن قلّ))، أخرجه البخاري. وعن معاذ رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال: ((أن تموتَ ولسانُك رطبٌ بذكر الله)) أخرجه ابن حبان في صحيحه. وحينما قال الفقراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ذهَب أهل الدّثور بالأجور، يصلّون كما نصلِّي ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضول أموالهم، ظنَّ الفقراء أنْ لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرَهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ جميعَ أنواع فعل المعروف والإحسان صدقة. إنَّ طرق الخير كثيرة، وأبواب العملِ الصالح واسِعة، بل إنّ العمل الواحدَ يتفاوت الفضلُ فيه بحسَب ما يمنَح الله عبدَه فيه من قوّة اليمين وصِدق الإخلاص وزَكاة النفس وتحقيق التوكّل. وإذا كان الأمرُ كذلك فانظروا رحمكم الله فيما يفتح الله على عباده من ألوان الطاعاتِ وصنوفِ العبادات وأنواعِ الاجتهادات وطُرق المسابقات إلى الخيرات، فتجدون من يفتَح الله عليه في القرآن الكريم والعنايةِ به وتلاوته قيامًا وقعودًا وعلى جنبه، في الصلاة وغير الصلاة، في الليل وفي النهار. ومن الناس من يفتح الله عليه في العِلم أو في باب من أبوابه من التوحيد والحديث والفقه والتفسير، كما يفتَح لآخرين في علومٍ أخرى من اللغة والتاريخ والسِّيَر والعلوم التجريبية. ومنهم من يُحسن التدريس، ومنهم من يحسِن الوعظ والتذكير، ومنهم من يشتغِل بالجمع والتأليف. ومِن عباد الله من يفتَح الله عليه في الصلاة، فهي شغلُه الشاغل، وهي قرّة عينه من الليل والنهار، في خشوعٍ وطولِ قنوت وتضرُّع. وآخر يفتح الله عليه في صيام النوافل، فيكثر من الصيام في أيّامه المستحبّة من الاثنين والخميس وأيام البيض ويصوم يومًا ويفطر يومًا، فيطيق في ذلك ما لا يطيقه غيره. بينما ترى آخرين قد خصَّهم الله عزّ وجلّ بمزيدٍ من برّ الوالدين وصِلة الأرحام وتفقُّد الأقارب وزيارتهم والسؤال عنهم وبرّهم وصِلتهم والإحسان إليهم من غير انتظارِ مكافأة ومحاسبة. ومنهم من يُفتح له في مساعدةِ المحتاجين وإغاثةِ الملهوفين، فيسعى على الأرملةِ والمسكين والغُرَباء والفقراء، لا يملّ من جمع التبرّعات وطَرق أبوابِ الأغنياء والدخول على المحسنين وإيصال الخير للمستحقِّين، في عملٍ متواصِل في تفريجِ الكروب وسدِّ الديون وكفالةِ الأيتام ورعايتِهم ومواساتِهم وتعليمِهم والمحافظةِ عليهم. ويفتح الله على أقوام في بناء المساجدِ وإنشاء الأوقاف، وقد أدركوا ما فتَح الله به في وقتنا الحاضر من أبوابِ في العلاج والتطبيبِ وتأمين الدّواء والأجهزة الطبيّة، مع ما فشا من ابتلاءٍ في أمراض مزمنة وإعاقات مستديمة وغلاءٍ في الأدوية والأدوات الطبّيّة. وآخرون يفتح الله لهم في الاحتساب بالأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر والصبرِ على الأذى فيه، فيطيقُ في ذلك ما لا يطيق غيره. وفي الناس من يُفتح له في بابِ الشفاعة والإصلاح بين الناس، فيفكّ أسيرًا، ويحقن دمًا، ويدفع مكروهًا، ويحِقّ حقًّا، ويمنع باطلاً ويحجز ظلمًا، يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، ((لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا))[النساء:114]. العمل الصالح واسعُ الميادين شامل المفاهيم، ينتظم أعمالَ القلوب والجوارحِ من الأقوال والأعمال والمقاصد في الظاهر والباطن والمواهبِ والملكات، من أعمالٍ خاصّة وعامّة، فرديّة وجماعية، في إكرام الضيف وعيادةِ المريض واتّباع الجنائز وإجابة الداعي ونُصرة المظلوم ومواساةِ الفقير وسقيِ الماء وتفريج الكروب وإنظار المعسر وإرشاد الضالّ وإيجاد فرَص العمل، وإنَّ لكم في البهائم لأجرًا، ومن زرع زرعًا أو غرس غرسًا فأكل منه إنسانٌ أو طير أو بهيمة كان له به أجر، ومن جهّز غازيًا فقد غزا. ويكون الفتح في العمَل بمحبّته والإكثارِ منه والإحسان فيه ومزيد الرغبةِ فيه والاجتهادِ فيه والإقبال عليه، ومن أكثر من شيءٍ عُرف به. فتنافسوا رحمكم الله في أعمالِ البرّ، ولتكن هِممُكم عالية، فإنّ ثمّة أقوامًا يُدْعَوْن من كلّ أبواب الجنّة تعظيمًا لهم وتكريمًا لكثرة صيامهم وصلاتِهم وأفعالهم الخيِّرة، فيخيَّرون ليدخلوا من أيّ أبواب الجنّة شاؤوا، فلتكن الهِمَم عالية في المسابقة إلى الخيرات والمنافسة في الأعمال الصالحة. ) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) [الزلزلة:6-8].