صديقي الذي كان نزيهاً يسهر على قراءة القانون ليتقن مهنته، وينام مطمئناً لنزاهته فقط.. النزاهة يا عزيزي ليست في مجرد الامتناع عن أكل السحت، أو أخذ الرشاوى من المتخاصمين، بل هي خلاصة قيم لا ينبغي أن تتماهى فيما يخالفها بالمطلق. ترك القانون والنضال والمشروع الكبير والحرص على حقوق الناس التي يفصل فيها والامتلاء بشظف العيش.. تخلى عن الإحساس بالنشوة وهو يقرأ – مهووساً - جريدة الثوري، التي كانت تنافح بقوة تخلف وقبح نظام صالح.. وأصبح ثائراً.. ذهب نظام صالح فأصبح الرجل ثائراً على طريقته الخاصة وكثير من أقرانه.. وارتهن إلى قوة مسلّحة تنفذ أحكامها على الناس دون حكم سوى ما تمليه عليها أجندتها، وتورّط هو في خطاب تحريضي عنصري، ليس من شأنه قتل الناس بطريقة بربرية همجية فقط، بل وقتل الدولة، في معظم أركانها.
وأحد أهم الضحايا الذين يؤسس لقتلهم سريرياً أو اصابتهم بعاهات مستديمة بخطابه ذاك وبالأدوات التي يدعمها هو النظام القانون، وظيفته ومصدر رزقه، ورسالته الانسانية العظيمة، هو خليفة الله في أرضه في هذه المهمة، لكنه أبى إلا أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.. عمل كهذا لا يمت بصلة إلى شيء اسمه القانون ولا النزاهة، ولا الاشتراكية، ولا الانسانية ولا التقدمية ولا المدنية. لا يكفي أن تكون نظيف اليد في مهنتك، أن تنتظر مكافأة نظير ذلك، في زمن الفساد. الفاسدون والمتملقون والوصوليون هم أكثر الناس تسلقاً وحظوة بالمكاسب من المهنيين والشرفاء، ليس ذلك مبرراً أن تنسلخ من قيمك لتشارك في زفة ازهاق الدولة، وأبنائها، أو ترويعهم، مستقوياً بجحافل الموت.. لكن أملاً يبدو مشرقاً من خلف أكوام جثث الناس، الذين يعنى الرجل بضمان عدم قتلهم إلا بالحق.. ربما ينتظر أن يكافأ على تاريخه المهني النظيف، والنظيف فعلاً، بامتيازات قد يجلبها مشروع عنف ودم، بقدر ما تدمر قذائفه المدن، وتحرق الأبرياء، بقدر ما تحفز شظاياها الاحلام الانتهازية في نفوس يئست من مشروع الحياة والحضارة، وأيقظها مشروع الموت.. مشروع ينتهك القانون، بل يعدمه، ويقضي على شكليات الدولة، مع كل خطوة تخطوها أو منطقة تخيم فيها، أو تحكمها.
اتحسر عليه كثيراً.. أخي الذي كان مدنياً صار مسعر حرب بصفة قانونية، يرقص على أشلاء العباد، وحطام الدولة. وضع نفسه في المكان الذي كان أبعد من أن أتخيل أن له موقعاً فيه.. يبدو فهمه للقانون والنزاهة على طريقة الترجمة الحرفية، لا تتعدى النص.. سينصف الرجل على نزاهته، وسيجد له مكافأة مغرية تليق بكل ذلك العنف الطافح من بين صفحات القانون، سيكافأ على انقاض دولة تحترق، وإنسان يسكن المقابر. تهانينا يا صديقي هذه الخاتمة التي لا تليق بمسيرتك مهما بدت غير ذلك..