تسمية الأشياء بغير مسمياتها ومحاولة افتراض أن مقدمات حدث سوف تفرز نتائج مخالفة كلياً ليس سوى مساهمة في الكارثة. فاليمن لم ولن تبدأ مرحلة جديدة تحت مظلة الشراكة الوطنية بعد سقوط دولتها. هذا الواقع الجديد الذي يجب أن نتعامل معه دون مغالطة أو غفلة. لن أجادل الحوثيين وأنصارهم في هذرهم الثوري وهم يقومون بحماية رأس الفاسدين، علي عبد الله صالح، الذي شن عليهم الحروب الست ويفترض أنهم ثاروا ضده عام 2011؛ لكن مقدمة الحدث جلية بكل تفاصيلها. دولة سقطت مؤسساتها أمام ميلشيا، ولأنها ليست ثورة شعبية كما ثورة سبتمبر، تصرفت هذه القوة كميلشيا وعاثت بالمدينة فساداً نهباً وتفجيراً للمنازل، وأعمالاً انتقامية خالصة، مثل ما فعلوه بمستشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا، وكذلك عبثت بمؤسسات الدولة والمصالح العامة. هذا مفهوم، فثورة سبتمبر قامت لبناء دولة بأسس جديدة، وكانت أخلاق ثوار يتطلعون لمستقبل، وليس لانتقام أعمى تقوم به ميلشيا الحوثي وبإشراف مباشر من قياداتها التي تدعي فشل سيطرتها على الوضع. اتساع الحدث يكشف بوضوح أنه ليس عملا فرديا يعاكس عملا ثوريا قد يستهدف مصادرة ممتلكات أسرة حاكمة أو غيره، وفي النهاية هذا متوقع، فالميلشيا لن تستعير أخلاقا، وأخلاقها تظل أخلاق ميلشيا. اليمن لا تعيش مرحلة توازن قوى، بل تعيش مرحلة انهيار قوة الدولة، التي تنهب معسكرات جيشها وأسلحته، وفي حالة انهيار الدولة توازن القوى أو تغلب قوة على الآخرين لا يعني سوى الحرب الأهلية، ولا يمكن للبلد أن يذهب في طريق سواها. هذا أمر ليس فيه أي قدر من التنجيم أو التشاؤم؛ لكن المستقبل هو نتاج طبيعي لواقعنا، وليس قفزة في الهواء تعتقدها أمانينا. لذا الأمنية التي تفترض أن الحوثي سوف يتغير لكي يبقى في السلطة ويشرك الآخرين في القرار لأنه لا يمكن له الحكم إلا بمشاركة الآخرين ستظل أماني، وليس هناك أي ضربة حظ محتملة لتحقيقها. هذه أمنية قائمة على افتراض منطقي: إن الحوثي يمتلك القدرة على التفكير؛ وهذا أمر غير ممكن؛ لأن الحوثي مؤمن أنه وصل بمنطق التمكين الإلهي، وليس الشراكة، واستمد قوته من غياب الدولة ثم التوتر الطائفي ثم قوة السلاح المعززة بحماس واندفاع القوة الشابة. على أرض الواقع تجاوز الحوثي منطق الشراكة عندما أسقط مؤسسات الدولة، في وقت كان يستطيع الوصول لهذه الشراكة بدون إهانة رموز الدولة. الحوثي عملياً لا تعنيه الدولة، فهو ممتن لغيابها الذي أوجده، ولم يصل يوماً لإنجاز سياسي سوى بمنطق القوة، وليس الشراكة والعمل السياسي، فإذا كانت القوة أوصلته لرأس العاصمة اليمنية فلماذا يغير مساره؟ ما الذي يضطره لذلك؟ هل تضطره دولة بلا جيش لهذا؟ هل تضطره أحزاب بلا حول ولا قوة لهذا؟ هل يضطره حراك شعبي ثوري لهذا؟... لا شيء من هذا يضطره لذلك. المتهافتون يحلمون أن السلطة سوف تغير الحوثي وستضطره للعمل السياسي؛ لكن ينسون غرور الكرسي في اليمن عندما يصل إليه أشخاص من داخل مؤسسات الدولة، فما بالك بغرورها لمن يُكنّ الكثير من العداء لدولة حاربته عشرة أعوام حتى نجح في إهانتها. جماعة تؤمن بسيد يمتلك سلطة إلهية من خلال اتصاله بالسلالة المقدسة، كيف لها أن تجاري العصر أو الأحداث ومتغيراتها؟ جماعة وصلت بتمكين إلهي فما الذي يدفعها بعد النصر الإلهي أن تنزل للبشر ومنطقهم؟ الحوثي ينتمي للجماعات الدينية التي تخلط بين السياسي البشري والإلهي السماوي، بين ما هو قابل للخطأ والتقدير وما هو مقدس، تسبب مشاكل كثيرة عندما تعمل بالسياسة بمنطقها الإلهي، ونعجز جميعاً عن تفسير تصرفاتها والتنبؤ بأفعالها؛ لأنهم يمارسون السياسة بمنطق المقدس واللا عقل. لذا تفترض هذه الجماعات أي مشكلة تقع بها ابتلاء وليس خطأ منها يستحق المراجعة، وأي نصر هو تمكين إلهي وليس ظرفا بشريا له تبعاته ومسؤولياته، بل تتعامل معه بمنطق التبشير الذي لا أساس له بالواقع. هذا كله مشكلة حقيقية عندما تعمل هذا الجماعات كأحزاب ضمن أدوات مدنية وعمل سياسي وربما تصل للسلطة بانتخابات، بينما هي كارثة حقيقية عندما تصل هذه الجماعة للسلطة ضمن منطق القوة وبالعمل الميلشياوي الخالص بدون أي شكل من أشكال العمل السياسي. والفارق بين المشكلة والكارثة أن المشكلة لها حل ومعالجة ويمكن احتواء تداعياتها؛ لكن الكارثة ليس لها حل سوى مواجهتها وليس قبولها، بل رفضها حتى تسقط ونتعامل مع تداعياتها. كان بالإمكان تغيير الحوثي ضمن العمل السياسي بمفرداته السلمية، سواء مؤتمر حوار وطني أو انتخابات أو شراكة حكومية؛ لكن اليوم بعد وصوله بالقوة المسلحة التي يباركها الرب، فهذا مستحيل؛ لأن وصوله لذروة النصر بهذا الشكل سبب كاف لئلا يرى هناك ضرورة للتغير. خطاب عبد الملك الحوثي المخاتل، بعد توقيع ما يسمى بوثيقة الشراكة الوطنية، يبعث رسالة واضحة؛ فهو لم يتحدث عن استحقاق سياسي مطلوب منه لكي يهدئ مخاوف الناس، ويبدو كصاحب سلطة يدرك طبيعة مسؤولياتها واستحقاقاتها. لم يتحدث عن تسليم جيش أو شراكة وطنية، بل تحدث عن نصر من الله وشعب هو فقط يمثله. وكالعادة توعد وتهدد "داعشيين" وحزب الإصلاح الذي تنهب منازل أعضائه وممتلكاته بهمجية غير مسبوقة من أتباعه، بينما يلتزم الإصلاح حتى الآن ضبط النفس. خطاب الحوثي واضح؛ فهو لا يستوعب حتى الآن أنه يسيطر على عاصمة دولة فيها شعب متعدد الطوائف والاتجاهات يعاني من مختلف المشاكل الاقتصادية والسياسية. هو كالعادة مشغول بما يجيده وهي الحرب الطائفية، وبمنطقه الطائفي التمكين الإلهي الذي يفكر فيه، وليس بمنطق تقدير المصالح البشرية الذي يتوهم البعض أنه قد يفكر فيه. سوف تكون أول خطوة للحوثي هي الاستيلاء على أسلحة الجيش لمقاتلة المناطق القبلية الشرقية؛ لأنها الجزء السني الذي يخشاه من اليمن. فيما عدا ذلك يسهل السيطرة عليه، من ساحل وقرى ومدن يمن أسفل. وبمنطق التمكين الإلهي لن ينشغل الحوثي مطلقاً، وربما بأقل القليل من الجهد سوف يلتفت لاستحقاقات الشراكة الوطنية. وبمنطق السيد والأتباع الذي يحكم جماعة الحوثي واعتاد عليه سيدهم لن يقبلوا بشريك، بل بتابع، والأتباع في جماعة الحوثي درجات، والأحزاب اليمنية ورئيس الدولة المزعوم لن يكونوا سوى أتباع من درجة عاشرة. تصرفات الحوثي وخطاباته حتى الآن تتحكم بها نشوة النصر المشوبة بعدم التصديق وذهولهم من حجم التمكين الإلهي، وغريزة الانتقام والتشفي من أعداء وهميين ودولة نبذتهم عشرات السنوات ولم تنمِّ مناطقهم، ثم عشر سنوات من العداء والاقتتال. لهذا كله لا وجود لوثيقة الشراكة ومنطق السلطة الجديدة ومسؤولياتها أو أبسط مفاهيم الدولة في كل تصرفاتهم وخطاباتهم. الحوثي يتحمل اليوم ليس فقط مسؤولية تفوق قدراته، بل تفوق استيعابه؛ لكنه منشغل بغنائمه. هو لا يدرك أنه وصل لنصر ليس نتاج عظمة قوته وإنجازاته، بل عظمة الفراغ الذي تحرك فيه. وهذا النصر هش، فهو لا يحكم سوى صنعاء ومعها بعض مدن، واليمن كلها خارج سيطرته. وإذا كانت شرعية الدولة السابقة ضعيفة في مناطق واسعة من اليمن، فهي اليوم منعدمة الشرعية بل غير موجودة، لذا لا شيء يجبر ابن تعز أو عدن أن يقبل بحكم رئيس القوة الزيدية المسلحة الذي يحارب ظلاله الداعشية. تسمية الأمور بمسمياتها هي بداية لفهم الأمر ومعالجته. الدولة اليمنية سقطت. الميلشيا أسقطت الدولة. ميلشيا دخلت صنعاء ولا يمكن لها أن تخرج من صنعاء إلا كميلشيا. لا مجال لعودة الدولة من خلال وثيقة الشراكة، التي لن تخلق شراكة، ولن تنقذ اليمن من حرب أهلية صارت وشيكة ولا مجال لتفاديها؛ لكن هذه الوثيقة سوف تضفي شرعية زائفة وكاذبة لميلشيا كل من لا يتبعها هو "داعشي" يتوجب قتله. فلا تفعلوا بنا ذلك مجدداً. فلا يجوز لمثقف محترم أو سياسي نزيه التبشير بالعهد الجديد، وأن يطالب بالتجربة والمحاولة؛ لأن الكارثة لا يجوز المحاولة معها، بل يجب مواجهتها، وما عدا ذلك مشاركة في الجرم، ويكفي هذا البلد إهانة وخذلاناً.