[1] كانت خلاصة الحلقة الأولى من هذه القراءة في توصيف الزحف الحوثي من صعدة إلى صنعاء؛ أن الحوثيين لم يكونوا يمتلكون مبررا شرعيا (وفق مذهبهم الهادوي) ولا مبررا دستوريا وقانونيا (وفق مبادىء الدولة التي يعترفون بشرعيتها، ويتعاملون معها علنا) لإثارة كل هذه المعارك الحربية والصدامات المسلحة مع من يصفونهم بالدواعش والتكفيريين والفاسدين؛ وصولا إلى تبرير تحشيدهم لجموع مسلحة (تأكد إسهام الرئيس السابق علي صالح فيها بالمقاتلين والأسلحة المنهوبة من الدولة) على مداخل صنعاء وداخلها؛ بحجة الاحتجاج السلمي على قرار إلغاء دعم المشتقات النفطية الذي أصدره الرئيس عبد ربه هادي، والمطالبة بإقالة الحكومة وتنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار.. فلا هم الدولة، ولا هم تحت قيادة إمام قائم أو مدع لها من حقه (وفق المذهب) تغيير المنكر بالقوة ولو أدى إلى سفك الدماء.. ولا هم أعلنوا الخروج المسلح لإسقاط الحاكم الظالم؛ بل كانوا للمفارقة الغريبة على وفاق مع الحاكم ومقرين بشرعيته، ولم يتعرضوا له بسوء حتى وصلوا إلى جوار بيته! وهي الحقيقة التي تجعل من كل تحركاتهم تعديا على مهام الرئيس الذي يقرون بشرعيته، وتجعلهم بغاة أو متمردين، ولا سيما أنه هو صاحب قرار الجرعة، وهو وحده الذي يمتلك القوة الدستورية والمادية لتنفيذ المخرجات، وتغيير الحكومة كان أمرا متفقا عليه، والمتحفظون فقط أرادوا قبل التغيير الاتفاق على الحكومة الجيدة ضمانا لعدم حدوث فراغ سياسي كما حادث اليوم!
[2]
ووفقا لما ردده الإعلام الحوثي وإعلام علي صالح المؤيد له؛ فإن الهدف من احتجاجاتهم السلمية (!) هو إسقاط الحكومة، وإلغاء الجرعة، وتنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني (التي لم يوقعوا عليها وفقا لقيادي في الحزب الاشتراكي!).. وبأي مقياس مذهبي وسياسي فإن هذه الأهداف لا تصلح – أولا- لتشكيل أساس لثورة تغيير شاملة مشروعة كما حدث في الثورة الشبابية الشعبية ضد علي صالح، وهي فقط تتشابه مع حركات الاحتجاج الشعبية التي عرفتها المنطقة العربية في البحرين، وعمان، والأردن، والسودان، الجرائر، وموريتانيا، والعراق، ولبنان لتحقيق أهداف جزئية لا ترقى إلى مستوى أهداف ثورات الربيع العربي الشاملة (بصرف النظر عن عدم تحققها) التي هدفت إلى إسقاط الأنظمة القديمة نهائيا.
وثانيا؛ لأن الأهداف المعلنة لاعتصامات الحوثيين وأتباع علي صالح لم تكن محل خلاف كبير، وسرعان ما تم تقديم حلول معقولة لها، وهي نفسها تقريبا التي آلت إليها الأمور بعد اقتحام صنعاء، وحتى لو كانت محل خلاف كبير لما كانت سببا مشروعا للخروج المسلح ومحاصرة العاصمة؛ لأنها مما تحتمل الخلاف حولها في كل أنظمة العالم.. ومن ثم فإنها لا تصلح أن تكون سببا لإثارة حروب دموية باسم الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقصى ما يسمح به هو الاعتصام السلمي مع تجنب إثارة أي مشاكل تؤدي إلى إراقة الدماء والصدامات المسلحة تحت أي مبرر.. ويقينا أن الحوثيين أنفسهم في صعدة وعمران لن يسمحوا لأي كان أن يفعل ضدهم ما فعلوه هم في صنعاء, ولو كان المبرر أكبر من مجرد الاحتجاج على جرعة سعرية.. كأن تكون احتجاجا على فرض هيمنة جماعة واحدة وإقصاء الآخرين، وفرض خياراتهم المذهبية والسياسية، أو المطالبة بإبعاد الفاسدين الذين لا شك أن لهم وجودا في مناطق سيطرة الحوثيين فهم ليسوا كلهم ملائكة، ونظن أن ممارساتهم في النهب والفيد والاعتداء على الحرمات في صنعاء دليل على ذلك!
[3]
لو عاد القاريء الكريم إلى ما أوردناه في الحلقة الأولى عن شروط الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق المذهب الهادوي؛ فسوف يجد أن احتجاجات الحوثيين السلمية زعما، وتحركاتهم العسكرية على حد سواء لم تلتزم بشروط الجهاد ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ربما باستثناء شرط واحد هو جواز الاستعانة بالفاسدين والظلمة الذي تحقق بتحالفهم مع جماعة علي صالح في الاعتصامات ثم في الاجتياح العسكري لصنعاء، وكان جزاؤهم أنهم أعفوا من الملاحقة بوصفهم رواد الفساد وقتلة أنصار الله كما كان الإعلام الحوثي يصفهم!
وأما صلة عملهم بمبدأ المعروف والنهي عن المنكر بشروطه المذهبية عندهم؛ فهي تفتقد لعدد مهم منها؛ فعلى سبيل المثال فإن موضوع الاعتصامات ضد الجرعة، وإقالة الحكومة، وتنفيذ مخرجات الحوار لم تكن متفقة مع الشروط إطلاقا، وتعالوا الآن لمقارنة سريعة بين الأهداف المعلنة والممارسات العملية وبين هذه الشروط التي هي حجة عليهم:
1- [أنه فرض كفاية]: [وصف قياديون حوثيون الرافضين لاحتجاجاتهم المسلحة ضد الجرعة بأنه رضا بالفساد وتأييد للفاسدين، وقال أحدهم (الصماد) إنهم يصيرون بذلك فاسدين وقتلة مثل اليهود في عهد الرسالة الذين وصفهم القرآن بأنهم قتلة الأنبياء رغم أنهم لم يقتلوا الأنبياء ولكنهم رضوا عن الفعل.. وهذا التوصيف الجزافي للمؤيدين المزعومين حمل تهديدا مبطنا سرعان ما نفذوه في تفجير الصدامات المسلحة؛ بحجة أن الفاسدين هم الذين تعدوا عليهم في رئاسة الوزراء وحزيز وصولا إلى قرية القابل التي فجرت معارك دموية، ثم اقتحام صنعاء والسيطرة على مؤسسات الدولة، واقتحام البيوت والمؤسسات الخاصة القرآنية، والخيرية، والتعليمية، والإعلامية بتهمة.. مساندة الفساد والفاسدين!].
2- [ولا يجوز في المختلف فيه]: [ من المؤكد أن الخلاف حول الجرعة، وإقالة الحكومة، وتنفيذ مخرجات الحوار ليس خلافا حول أصول الدين، ولا هو خلاف حول أسس الدولة التي لا يجوز الخلاف حولها أو التفريط فيها، والتي تسلب السلطة شرعيتها وتجيز الخروج عليها مثل: الشورى، وحكم الشعب، والحكم الرشيد، والهوية الإسلامية للدولة.. إلخ ما هو معروف من ذلك.. والثابت أن الرئاسة اليمنية المقر بشرعيتها من الجميع وافقت على تعديل قرارها برفع الدعم إلى حد كبير، وتوافقت معظم القوى السياسية على مبادرة سياسية معقولة للخروج من حالة الاحتقان في الشارع.. ومع ذلك أصر الحوثيون وأتباع علي صالح على الاستمرار في تأزيم البلاد، ودفعها إلى هاوية الحرب الأهلية، وعدم الالتزام بسلمية اعتصاماتهم من خلال الاحتكاك بالأمن والجيش، ومحاصرة وزارات مهمة الأمر الذي حول سلميتهم إلى بارود ديناميت سرعان ما انفجر فوق الجميع!].
3- [وألا يؤدي إلى منكر مثله كإخلال بواجب أو فعل قبيح أو إلى ما هو أنكر منه]: [ أدت الاحتجاجات باسم الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى ارتكاب منكرات أكبر بكثير من المنكرات التي ادعوا خروجهم لإزالتها؛ فقد سفكت دماء آلاف المسلمين: قتلى وجرحى، وهدمت منازلهم، وانتهكت محارمهم وخصوصياتهم، ونهبت ممتلكاتهم وممتلكات الدولة بمئات الملايين من قبل من قالوا إنهم خرجوا ضد اللصوص! وشاع الرعب الفوضى التي اعترف بعض الحوثيين بها.. وعاشت البلاد على شفا حرب أهلية حقيقية.. والأسوأ أنها فتحت المجال الآن لتمزيق البلاد إلى عدة أوطان تحت مبررات رفض هيمنة الحوثيين ومشروعهم المذهبي، وعودة نظام علي صالح، والانقلاب على مخرجات مؤتمر الحوار.. وهي دعاوى ستجد دعما إقليميا ودوليا: كما هو ملحوظ في دعاوى الانفصال في جنوب الوطن.. وهناك بالتأكيد من سينادي بفصل مناطق أخرى مثل مأرب والجوف والبيضاء، وتعز وإب، وحضرموت، والمهرة على وقع الفوضى الحادثة بفعل سيطرة الحوثيين وأتباع علي صالح على صنعاء، وفرضهم شروطهم في كيفية إدارة الدولة، وتعديل مخرجات الحوار الوطني التي لم يوافقوا عليها مثل تقسيم الأقاليم.. بالإضافة إلى ما يتهدد اليمن من حرب دموية بين القاعدة والحوثيين!
ولو تأملنا الخارطة اليمنية اليوم فسوف نجد أن انفصال مناطق شاسعة منها أسهل بكثير من إخراج الحوثيين من العاصمة بل من المدارس والمؤسسات التي يسيطرون عليها، وأسرع من كتابة مقال أو إلقاء خطبة عصماء عن ضرر الجرعة! .. وبمعنى آخر فما الذي يمنع قوات الجيش والأمن، والقوى الشعبية السياسية والقبلية في المهرة أو حضرموت أو الجنوب كله أو تعز وإب أو غيرها أن تعلن التمرد والعصيان على السلطة المركزية تحت أي مبرر.. أو تسيطر على مناطقها على الطريقة الحوثية دون إعلان الانفصال، وتديرها لحسابها كما هو الحال في صعدة وعمران.. وتعلن شروطها لأي ترتيبات لإدارة الدولة؟ وبالطبع ستجد من يدعمها من الداخل والخارج تحت مبررات طائفية وسياسة وتاريخية!].
3- [ويكفي في الأمر بالمعروف الأمر به وليس الضرب عليه، وفي النهي عن المنكر يقدم الأخف فالأخف]: [لم تقتصر الاعتصامات الحوثية الصالحية على المطالب السلمية والأخف من الممارسات؛ بل صاحبتها مظاهر مسلحة، وتأجيج للعداوات والكراهية، وشحن قتالي ضد الجيش والأمن والرافضين، وتهديد باستخدام القوة عب�'ر عنه المرتضى المحطوري عندما هدد بأن عدم الاستجابة لمطالب المعتصمين ستكون نتيجته: إما قاتل أو مقتول.. وهذا كلام فقيه معمم فكيف بالعسكريين والعامة والغوغاء المدججين بالسلاح؟].
4- [ولا يجوز تجييش جيش لدفع المنكر من آحاد الناس بل هو للإمام لأنه يؤدي إلى تهييج الفتن والضلال]. [ وقد سلف أنه مما لا يختلف عليه أن الحوثيين لم يكونوا تحت قيادة إمام قائم ولا مدعيا، ولا خرجوا لإسقاط الحاكم الظالم، ولا هم الدولة؛ مما ينفي عنهم صفة المجاهدين، وعن زحفهم صفة الجهاد المشروع! وتكفي الحالة التي آلت إليها أمور البلاد حتى نعرف معنى الفتن والضلال!].
[4]
خلاصة الكلام أن الحوثيين وأتباع صالح كان يمكنهم رفض ما يريدون سلميا بصرف النظر عن مصداقيتهم، والتعبير عن معارضتهم بعيدا عن الفوضى والمظاهر المسلحة، والتهديد بالحرب الأهلية(يا قاتل يا مقتول)، ولو بالتحالف مع الفاسدين والقتلة؛ ولو استمرت اعتصاماتهم السلمية فترة طويلة كما حدث في الثورة الشبابية الشعبية ضد علي صالح ؛ وخاصة أنهم جزء من الدولة بمشاركتهم في مؤتمر الحوار، ولا ينفون شرعيتها، وقبول الجميع بهم كمكون سياسي له حق المشاركة في هيئات الدولة.. لكنهم رضوا كل ذلك وحولوها إلى معارك دموية تحت نفس مبرراتهم في دماج وعمران مما نتناوله بالنقد مستقبلا.