بجهل كثيف يعتقد بعض البسطاء أن ما تعيشه اليمن اليوم إنما هو حصاد الثورة التي أطاحت بالرئيس صالح، دون محاولة التفكير جيدا في صحة ذلك من عدمه، وكيف أن بذرة ما تعيشه البلاد اليوم من تدهور قد غرست ونبتت في حوش الرئيس السابق، كل الأسماء والعناوين المرتبطة بالتطورات المؤسفة كانت في مجلد الرئيس السابق، والمشكلة الحقيقية هو عجز مرحلة الوفاق الانتقالية (التي نتجت كحل وسط بين استمرار الثورة وتوقفها) عن تصفية تلك المشكلات، لأسباب لا علاقة لها بالثورة أصلاً، إنما بشركاء الوفاق الذين لم يتخففوا من تراكمات الأزمة السياسية التي انتهت بالثورة، فضلا عن بعض المكوّنات -المرتبطة ببعض تلك المشكلات- التي وجدت في الأساس النظري لما بعد مرحلة الوفاق الانتقالية تهديدا لمستقبلها، فوق اعتبار ذلك الأساس النظري هشاً من قِبل أطراف وجهات معنية به وأخرى محايدة ومراقبة!. لاشك بأن طبيعة التغيير الذي كانت اليمن بحاجة إليه تصطدم بكثير من المصالح والمخاوف التي أسست أوضاع وأوجاع ما قبل الثورة، وبالتالي انسحب التغيير لصالح تلك المصالح والمخاوف التي هي اليوم تعيد توزيع تموضعها في مساحة الأوضاع والأوجاع بطريقة أنكى من السابق!.
وعليه فإن ما نعيشه اليوم واستدعاء عامة الناس لزمن "ما قبل الثورة" إنما هو محصلة لما قامت به "الثورة المضادة!، تلخيصاً لمعادلة أقول فيها (الأحداث التي تدفع إلى "النكاية بالثورة" هي في حقيقتها "ثورة مضادة")! (2) واحد من التحليلات السياسية للأحداث الأخيرة التي بدأتْ بسقوط العاصمة بيد الحوثيين ذهب إلى أن هناك تنسيقاً على المستويات "االرسمي والإقليمي والدولي" مع الحوثي لقيام الأخير بمواجهة تنظيم القاعدة في اليمن، ويمكنه على الطريق من القيام بمهمة متعلقة بتصفية حزب الإصلاح المحسوب على الإخوان المسلمين وحلفائه القبليين والعسكريين، ربما اعتمد مثل هذا التحليل على مجموعة من المُعطيات أحدها التجاهل الأميركي للتوّسع الحوثي، وثانيها الخطاب السياسي للحوثي الذي يندد بالقاعدة و"داعش" ويخوّف منهما، مغازلاً أميركا التي يلعنها في شعار جماعته، رغم أنه يتجاوز بذلك القاعدة إلى نعت مَن يقف في وجهه بأنه "داعشي" و "تكفيري"، والحقيقة يصعب استيعاب مثل هذا التحليل؛ لأن تجييش الحوثي ضد القاعدة يصب في مصلحة الأخير؛ ويتحوّل أغلب خصوم الحوثي إلى تأييد القاعدة، وربما سيُحدث ذلك تعاطفاً واصطفافاً شعبياً مع القاعدة على أساس مذهبي، وقد بدأتْ ملامح ذلك في بعض مناطق مأرب والبيضاء، كما يصعب استيعاب ذلك التحليل بالنظر إلى الطريقة التي طُبق بها مثل هذا الاتفاق، إلا إذا تجاوز الحوثي "الاتفاق" بحرق صورة الدولة ونهب سلاحها والقيام بمهامها، مما يستدعي استدراكا رسميا لإيقاف هذا التجاوز وهو ما لم يتم، فضلاً عن أن الحوثي لم يقترب حتى الآن من بعض المناطق الجنوبية والشرقية التي ظهر فيها تنظيم القاعدة.
كان يمكن تمرير "الاتفاق" المزعوم –في التحليل المذكور- مثلاً بتشكيل "لواء عسكري رسمي للحوثيين" وتوجيهه لمناطق المواجهات ضد القاعدة، على ما في ذلك من سلبيات وأخطاء مستقبلية في أكثرها، لكن أن يتم التمكين للحوثي بتلك الطريقة التي تسيء للدولة بل وتقدح في وطنية القيادة السياسية والعسكرية للبلاد، فهذا يعني أن الأمر يتجاوز ذلك التحليل إلى وجود لعبة قذرة لإغراق البلد في تصفية حسابات على أساس طائفي وجهوي!، بعيداً عن التحليل الذي يتهم الرئيس السابق في الضلوع بما حدث ويحدث من أجل خلط الأوراق وتصفية أهم خصومه، وتمهيداً لعودته للحكم شخصياً أو عائلياً!، وهو تحليل يمكن التعاطي معه في ضوء انحياز المحسوبين عليه في المؤتمر وغير المؤتمر إلى تحركات الحوثي، وهذا ما أظهرته الأحداث في بقية المحافظات مدعوماً بقيادات مؤتمرية وشخصيات معروفة بولائها للرئيس السابق!. (3) على اعتبار أن ما حدث في سبتمبر الماضي أسقط المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، فلا شك بأن أحداث أكتوبر الجاري أصابت "اتفاق السلم والشراكة الوطنية" في مقتل، بعد أن ولد ميتا عندما تم التوقيع عليه بالتزامن مع الاجتياح المسلح للعاصمة واسقاطها!. فالذين تحججوا بإسقاط الجرعة وقد سقطت قبل اجتياح العاصمة، وكذلك الحكومة، فضلا عن أن ما قاموا به لا يتفق مع مخرجات الحوار الوطني التي تحججوا بالمطالبة بتنفيذها، بما يعني أن ما جرى لا علاقة له بما تم رفعه من مبررات وشعارات، وأن ما حدث متصل بمشروع آخر يرى اليمنيون الآن ملامحه السيئة في سقوط الدولة وتموضع المليشيا، وفي تعزيز التفكك السياسي والجغرافي والمجتمعي!.
لم يعد هناك ما يبرر الوقوف موقف "المصدوم" لما حدث مع ما يتضح تباعا من ممارسات ونتائج ترفع من كلفة الموقف المأمول كلما مر الوقت بلا موقف يصنع اتفاقا جديدا يعيد الاعتبار لمكانة الدولة وللحمة الوطنية وللمسار الديمقراطي بلا احتراب ولا عنف ولا إقصاء.
مطلوب اتفاقية جديدة لمعالجة ما يحدث، وهذا لن يكون إلا إذا تشكل تيار جديد من الرافضين لكل ما جرى ويجري، تيار له ثقل جماهيري وأداء سياسي معتبر محلياً واقليمياً ودولياً.
المشكل أن التيار الافتراضي لهذه المهمة الوطنية البطولية كل مكوّن فيه يقول للآخر: تقدموا أنتم ونحن معكم!، دون أن يتقدم أحد!. هل ضعف الثقة بين تلك المكوّنات هو من يصنع هذا التردد القاتل?!. ثم أين شباب الثورة السلمية، وقد صارت ثورتهم مشجبا افتراضيا لما حدث منذ "تسييسها" باتفاقات انتقائية التطبيق وبما لم يخفف من الوجع الوطني؟!.