زهرة، امرأة ريفية متزوجة منذ 34 عاماً. مدة طويلة، لكنها لم تكن كافية لتعيش زهرة إلى جوار زوجها أكثر من ست سنوات. كانت من زوجات الانتظار، وتشبه كثيرات من نساء قريتها اللاتي يترقبن عودة أزواجهن من بلاد الغربة مرة في العام لا تزيد عن شهر أو شهرين. هذه المرة طالت غربة زوجها حاتم أكثر من سنة، وفي تلك الليلة التي بدت لها كئيبة وثقيلة، لجأت إلى ما تجيده النساء المؤمنات؛ صلت العشاء ودعت بما تحفظ من أدعية، وفي الحقيقة هي لا تحفظ سوى دعاء وحيد، لكنه طويل وبسيط، تجمع فيه ابنها وبنتها الوحيدين وزوجها الغائب، مسحت بيدها على وجهها، كما هي عادة أبيها حين يصل إلى ختام دعائه، ونهضت من فوق سجادة الصلاة بعد أن حسمت أمرها، إنها فعلاً أدت أربع ركعات، فقد كانت في الأيام الأخيرة تسرح في صلاتها ثم لا تعرف كم من الركعات أقامت في الفريضة الواحدة، وشرعت ترتب بقلق مبهم فراشها تأهباً للنوم عندما باغتتها نغمة الموبايل إلى جوارها، سألت وهي تستعد للترحيب بصوت زوجها الغائب منذ أكثر من عام: من معي؟ ليأتي صوت شقيق زوجها متهدجاً باكياً: "يازهرة: حاتم مات". شعرت بالبرد يصعد من قدميها. قالت بصوت غائب والمكان يدور بها بعنف: "ماقلت ماهِن؟" أجابها البكاء والنشيج فحسب.. وقبل منتصف الليل بقليل كانت عمتي زهرة تشق سكون الليل في تلك القرية البعيدة بصرخة حارقة: ياحاااااااااااتم.. توفي حاتم بحادث دهس في مكةالمكرمة بداية الأسبوع الماضي، ودفن في الليلة التالية للحادث، مخلفاً وراءه زوجته زهرة التي ستصبح بعد هذا اليوم أرملة، وابن وابنه وحيدين كان يعاملهما بدلال زائد ويصر دائماً أن يتعامل معهما كطفلين رغم زواج الأول وخطبة الثانية. كان محقاً، فقد انتظرهما ما يزيد عن 15 سنة بعد زواجه قبل أن يرزقه الله بهما. نزل الخبر على الجميع كالصاعقة، حاداً ومفاجئاً. أدخل الابن في مكه والزوجة والبنت في القرية إلى المستشفى، ووضعت نساء القرية أكفهن على صدورهن، فأغلب رجال القرية مغتربون، وقبل أشهر توفي عمر من القرية المجاورة في المدينةالمنورة في حادث شجار، وقبل ذلك كان علوان علي يسقط ميتاً بأزمة قلبية في شوارع مكة، فيصلى عليهم ويدفنون دون أن تتمكن الزوجة أو الابناء من إلقاء نظرة أخيرة على فقيدهم. في الواقع، فإن نصف سكان القرية تقريباً مغتربون خارج الحدود اليمنية، وجزء من النصف المتبقي يصارع على الحدود، ليلحق بالآخرين، والبقية إما مغتربون داخل الوطن، أو معلمون ومزارعون وتجار دكاكين صغيرة في سوق القرية، لكن الحقيقة التي يظهر أن الجميع قد تصالح معها: إن أغلب نساء هذه القرية ورجالها لا يعيشون حياة طبيعية أبداً، حتى لتبدو الغربة وكأنها لعنة مرسلة يتوارثها الأبناء عن الآباء بفرح وطيب خاطر، فمن يكون موعوداً بالفيزا يستطيع أن يستدين من نصف دكاكين السوق وربع "المقوتين" بكل سهولة، وعندما يتمكن من العمل بعد ترتيبات الإقامة يستطيع الاستدانة من الجميع. كان حاتم يكره أن يستدين، لكنه كان شغوفاً بشراء الأرض و"الرعوية" وشراء الجنابي، حتى أنه في المرة الأخيرة التي اشترى فيها جنبية، كان على استعداد أن يرمي إليك بنصف حزمة القات التي أمامه إن زدت على كلامه واستطعت أن تبرز جانباً أصيلاً من تلك الجنبيه. كان يعتقد أنه بشراء الأرض والجنابي وزيادة البيت دوراً آخر أنه يعوض عن عمره الذي أنفق ثلاثة أرباعه في الغربة. ومع عمتي زهرة كان يفعل الشيئ نفسه، يغدق عليها بالهدايا والعلاج طمعاً في الشعور أنه إلى جوارها دوماً، لكن عمتي اليوم لا تستطيع بكل ما بين يديها منه، أن تستعيده من قبره حياً لتسلم عليه وتودعه ولو لدقائق. بل أن أشياءه التي كان يختارها بعناية، تحاصرها في كل ركن داخل البيت، وتمنعها عن نسيانه، ولذلك لا تزال حتى اليوم من بعد موته لا تستطيع أن تستوعب فجيعتها، وتغرق على الدوام في حالات إغماء لا تفيق منها إلا على أشياء زوجها التي ترسلها من جديد إلى غيبوبة ثانية. ابنها محمد، وشقيق زوجها حسن، وابن عمه الوحيد محمد، وشقيقاها عبده وأحمد، وأربعة من أبناء هذا الأخير، جميعهم متزوجون، ومغتربون عن نسائهم إلا شقيقي ماجد الذي لم يتزوج بعد من ابنتها، وأنا الذي أحاول أن تظل زوجتي إلى جواري في الغربة، وحين اقترب الموت منها إلى هذه الدرجة وغيب زوجها كنا جميعاً بعيدين عنها خارج الوطن عدا شقيقها (والدي) فقط، وعندما أردت تعزيتها سألتها بمنتهى الغباء: كيف حالك؟ من يسأل امرأة ترملت للتو عن حالها.! قالت ولا يزال بكاؤها ينسكب في إذني: "ما يعلم بحالي يا عبده إلا الله". ليست عمتي أول المترملات ولم تصل إلى الخمسين بعد، ويعرف القارئ قصصاً مشابهة لما يزيد عن 6 ملايين ونصف مغترب يمني في الخارج، تركوا نساءهم للانتظار وذهبوا يبحثون عن مأوى من الفقر وضيق الحال خارج الوطن، يعودون ليرجعوا من جديد، وبعضهم لا يعود أبداً، والبعض الآخر يعود ميتاً. كتبت عن "زهرة الدبع" قبل أسابيع، واليوم عن "زهرة عمر"، كأن التسميات خلقت لهن فحسب، ليذبلن في وقت مبكر، مجرد تسميات لنساء كثيرات، في قريتي والقرى المجاورة، وكل القرى الأخرى حتى الكبيرة منها كصنعاء، ففي كل قرية من هذا الوطن ألف زهرة وألف حاتم. كتب الشاعر المرحوم إبراهيم صادق على لسان مغترب يمني: لا تفزعي واغرورقت عيناه وانسابت بخديه الدموع ومضى زمانه لا يعي والذكريات تمر في عينيه آلاماً وجوع لا تفزعي واستبسلي زوجاه أني تارك هذي الربوع مادام في أرضي إمام يمتص عين الوضع والمرضعات ويزيح في عنف بصيصاً للشموع لا تفزعي المصدر أونلاين