لم يكمل الإمام تسليمه من صلاته جيداً، نهض صبي من الصف الثاني ووقف بجوار الامام، لم يتعد العاشرة من عمره، يبدو عليه أنه من أسرة كانت ميسورة الحال، مظهره دليل على ذلك، بشرة الطفل وهيئته، يلبس نظارة تبدو طبية، تناسق الألوان في لبسه تدل على أن أسرته تهتم بمثل تلك التفاصيل. وقف الطفل أمام المصلين، تحدث بصوت متقطع، أنا جائع، خواتي جائعات، تغدينا خبزاً أخذناه من الشارع، أقسم مرات عدة.. أنه يقول الحقيقة، بغض النظر عن ذلك، لكنه خاطب الحضور من أعماقه، لغة جسده كانت أيضا شاهدة على صدقه.. هكذا رأيته وربما غيري رأى ذلك.
تحدث الطفل وصمت المصلون كأنه قام فيهم خطيباً، أو كما أن المسجد خالٍ إلا منه، أثناء حديثه كان يتلفت يمنة ويسرة، كان فكه الأسفل يتمايل وشفته السفلى تبرز للأمام قبل أن ينفجر باكيا بعد أن شرح معاناته وأسرته، ثم جلس ووضع يداه على وجهه.
"حسبنا الله ونعم الوكيل" قال بعضهم، "لا حول ولا قوة إلا بالله" تمتم بها آخرون، تأثر المصلون بالموقف، بعضهم ذرفت عيناه أو امتلأتا بالدمع، لكن سرعان ما كان يخفيها أو يطرق وجهه نحو الأرض لكي لا ينتبه من بجواره أنه بكى، فالرجولة عندنا ربما تعني أن تكون بلا إحساس، أن تعيش كجذع شجرة أو جلمود صخر، لا تهتم بما يحدث أمامك، حتى مشاعرنا لم تعد كما خلقت، ونستخدمها في أدق التفاصيل لم نعد نجيد حتى المشاعر.
البعض منا يعتبر أن دموع الرجل عورة يجب أن تستتر خلف جلباب الرجولة وخمار الحزم والشدة، تصادفنا مواقف عديدة يندى لها الجبين، مواقف إنسانية وما أكثرها خاصة في مثل هذه الظروف، نعبر عنها بالحزن والأسى، نعبر عنها بدموعنا أيضا.
ربما أن البكاء هو الوحيد الذي يجمع بين الحزن والمتعة الداخلية، وهو "النقص" الوحيد أيضا الذي يذكرنا بكمالنا وإنسانيتنا، البكاء متعة لا تقبل التأجيل.
الرجل الذي يتأثر وتدمع عيناه يصفه المجتمع بالنقص، مواقف تبكي الصخر، في بلد يموت أبنائه يوميا بالعشرات، يموتون بالحروب، والجوع، بالأوبئة، بالثارات، بالغرق، بالاغتيالات، بحوادث الطرقات، بالاختطافات، بالموت تحت التعذيب، بالموت بالألغام والقصف، يترصده الموت من كل مكان.
مجتمع غلب عليه سمات التوحش والفضاضة واستمرأ الموت والاقتتال والعنف، يرى دموع الرجل نقص ومدعاة للمسخرة وعدم الكفاءة، ولكنه في الحقيقة الغباء والجهل بحقيقة الإنسان.