لا يعلم الآباء شيئاً عن ذلك الشعور الدافق الذي يحتوي مشاعر الأبناء وهم يستظلون دون رعايتهم المورقة بالحب والحنان والعطف والتوجيه المستمر. بل قد لا يعلمون شيئاً عن مشاعرهم وهم يستلذون بالسير معهم أو الجلوس إلى جوارهم أو حمل أسمائهم لصيق أسمائهم، مشاعر القوة والفخر والاعتزاز والأمن والطمأنينة، تلك هي كل ما يسكن قلوب الأبناء وهم يرفلون بثياب الرخاء في كنف آبائهم تكسر ضحكاتهم سكون المساء ويستقبل الصباح صهيل نداءاتهم المترفة بالبراءة والمرح وتلف الشوارع خطواتهم الواثقة بأثير الأبوة أينما وقعت أقدامهم وحلّت خطواتهم، لكن هذا لا يحدث مع أولئك الذين سلبتهم الأقدار هذا الحصن البشري، وسرقت منهم الأيام هذا الصرح الإنساني، واختطف منهم الموت هذه القيمة الاجتماعية الثمينة. يصبح الانكسار صاحباً والذل رفيقاً والإحساس بالنقص صديقاً دائماً، فلم يعد هناك من يدلل بين يديه تلك الطيور الصغيرة المغردة بمواويل الأمل، ولم يعد في الأرض من يحمل الصخر على كتفيه ليطعم أفواهاً جائعة، الناس بين من يكتفي بإلقاء نظرة شفقة ومن يرمي فضول أبنائه بين يدي أبناء بلا عائل ومنهم من ينهر ويزجر ويدفعه الشيطان إلى السخرية من صغار فقدوا أهم ما يمكن أن يملك بشر في مثل سنهم الصغيرة.. من الناس من يستخدمهم للعمل، فيدفعهم لحمل الثقيل والخوض فيما يخوض سواهم ممن ملكوا مفاتح العافية ولم يملكها أطفال في مثل سنهم أو بنيتهم.. ومن الناس من غشيت قلوبهم بعض الرحمة فقدموا لهم ما يجود به كريم فقير وما يعجز عن تقديمه غني بخيل، والناس بين هذا وذاك في أمر فطره وناموس، لكن اليتيم يستطيع عبر حواسه أن يدرك الأطهار والأشرار، فيا أيها الآباء، يا من لا زال في مقدوركم أن تربوا وتدللوا أبناءكم، و يا من لم ينظر إليكم الموت نظرته الأولى والأخيرة، لا تحرموا أبناءكم متعة الجلوس إليكم والحديث معكم والارتواء من أحضانكم التي ربما افتقدوها غذاً أو بعد غد، أو لربما عجزتم في لمحة بصر وإرادة قدر، لا تعلمون شيئاً عن طفل يمضي نهاره ويقضي ليله في خدمة المبتلين بقسوة القلوب وتحجر الحواس، فأغرسوا في أطفالكم القيم والمبادئ التي تعينهم على احتمال مصاعب الحياة سواءً بقيتم إلى جوارهم أو تركتموهم فرادى تتصدع سماءات قلوبهم ألماً وحسرة.. أيها الآباء المتخاذلون عن إشباع أبنائهم حناناً وعطفاً، متى ستكون لكم تلك اليد الحانية وقد جعلتم أبناءكم يتامى وأنتم ترفلون بثياب الحياة؟!.. لا أدعوكم إلا لتخيل تلك اللحظات التي يقف فيها أبناؤكم يتامى أمام مجتمع كل ما يفعله أن يجعل اليُتم “ بضم الياء وتسكين التاء” أداة للكسب والاستجداء والعبث بمشاعر من استطاع ومن لم يستطع، أيها الآباء المتخاذلون عن أداء وظيفة الأبوة ، لا أدعوكم إلا لزيارة دور الأيتام لتتعرفوا عن قرب على ما يمكن أن يكون عليه حال أبنائكم بعد أن تتركوهم ضحايا لجوع المشاعر الأبوية وعطش الأحاسيس الإنسانية في زمن كل شيء فيه موجود إلا الإنسانية وكل شيء فيه حاضر إلا الحب وكل شيء فيه غائب إلا القسوة والغلظة والفضاضة، تخيلوا يوم تغادرون أبواب الحياة محمولين على النعوش وأبناؤكم يبكون يوماً تشرق فيه الشمس ولا تملأ أصواتكم الديار، تخيلوا يداً تصفع وقدماً تركل وعيناً تزدري وصغاراً أنستهم الأيام كلمة “ بابا” وما أجمل وألذ وأطيب أبناءكم أغلظ مواثيق الحياة وأقوى قيود المسؤولية فلا تحرموهم اليوم من ابتسامة أو نصيحة أو لمسة حانية، لا تدفعوهم للبحث عن هذا لدى آخرين ربما أضمرت جوارحهم الشر وبرعت باكتساء الخير وليس لهؤلاء الصغار فطنة كافية للتمييز بين أثواب الشر البالية وأثواب الخير التي تستر وتخفي وتحول دون شيوع الفساد، كونوا أثواب ستر وعافية وحب يرتديها أبناؤكم اليوم وغداً.