كان المشروع الفيدرالي الذي وضع اليمن أخيرا في ستة أقاليم اتحادية، إعلانا صريحا واعترافا متأخراً بالأزمة التي عاشها اليمن منذ عقود تحت وطأة مركزية الدولة التي لا تعترف باختلاف مكونات مجتمعها وتنوعه وعدم تجانسه. المشروع ربما يحاول أن يقول إن الإقرار ببعض الاستقلالية للمكونات في أن تحكم نفسها بنفسها، والفشل في وصف اختلافاتها وتنوعاتها على أنها "ضد الوطن والوطنية"، يعدّان خيارا أفضل من انفصالها وتفكك الدولة وتمزيق أوصالها تحت طائلة استمرار الاحتراب الداخلي. هذا ما فشل في إدراكه صدام حسين في عراق الأمس، ويكاد يفشل فيه نوري المالكي في عراق اليوم. قبل أيام، نشرت "التايمز" تحليلا كتبه روجر بويز، قال فيه إن "تفكيك سورية" قد يكون الحل الأمثل، أو الأقل ضررا الآن "إذ يجب أن يُسمح للدول الفاشلة بأن تتفكك؛ فالإبقاء على تماسكها ربما يؤدي إلى تراكم الكراهية في النفوس"! الاستبداد السياسي ومركزية الحكم أفرغا طاقة التسامح والتعايش التي كانت المكونات الاجتماعية في كثير من الدول العربية تتوافر عليها تجاه بعضها بعضا. والإخفاق في تقديم نموذج أو نماذج عفيّة لإدارة توزيع الثروة والسلطة بشكل عادل، قلب تنوع المكونات وثراء المجتمعات العربية إلى حالة من الاحتراب الذي بدأ صامتا وتدريجيا، ثم أخذ يتنامى كلما تنامى الاستبداد السياسي وانسداد الإصلاح في هذا المجتمعات، وكلما تنامت معهما القبضة المركزية التي كانت تسحب يوماً فيوماً من رصيد تعايش المجتمعات وتسامحها واعتدالها. وهنا تُستعاد عبارة "المجتمعات الممسوكة لا المتماسكة". فالمجتمعات المتماسكة هي نتاج التوزيع العادل للثروة والسلطة، وبغير ذلك ستكون "ممسوكة"، وبالتالي مرشحة للتشظي والاحتراب وربما التفكك. الخطر اليوم في اليمن أن يكون الوعي الذي أنتج الفيدرالية خيارا عابرا، غير قائم في صميمه على الاعتراف بالتنوع وفشل تحالف الاستبداد السياسي مع استبداد القبيلة. الخطر في أن لا يكون هناك إقرار بمخاطر التهميش والإقصاء وغياب العدالة في إدارة الثروة والسلطة. لقد تجنبت تونس الخيار الدموي في إدارة خلافاتها السياسية حول الدستور والحكومة حين التفتتْ "النهضة" في لحظة صحو سياسيّ، وتحت ضغط الفعاليات المدنية، إلى أن تجنب الانتحار السياسي والتماهي مع مآلات تجربة "إخوان" مصر، إنما يكمن في الانتباه لخطر الإقصاء والاستبداد بالسلطة تحت أي ذريعة، حتى لو كانت انتخابية. في اليمن، لم تكن المصيبة فقط في شكل الحكم الذي أرساه علي عبدالله صالح، بل كذلك في تهميش "حاشد" لباقي القبائل عبر التحالف التاريخي مع السلطة و"الإخوان". وتمتد المصيبة أيضا في قبول مجتمع الشمال تهميش مجتمع الجنوب وإفقاره، وأيضا في رضا قبيلة بكيل، حديثا، أن تؤمّن حاضنة اجتماعية لتنظيم "القاعدة"، في سبيل مواجهة الحوثيين وصدهم عن مناطق نفوذها (أي بكيل). بمعنى آخر، إن مبدأ التسامح والتعايش بين المكونات المختلفة ليس مجرد مسألة ثقافية وشعورية. بل إن خبرة "الثورات العربية" الجديدة تقول إن البعد التنموي أساسيّ في إنتاج التسامح الاجتماعي والتعايش والقبول بالآخر المختلف. هذا الكلام كيف يُصرف في الحالة اليمنية، حين نعلم أن من سلبيات المشروع الفيدرالي الجديد التي ينبغي أن تُعالج ويعاد فيها النظر، أنّ ذاك أنشأ أقاليم بلا موارد وإمكانات اقتصادية (صعدة - عمران - صنعاء - ذمار)، في مقابل إقليم تتكدس فيه الثروة والخيرات (حضرموت - شبوة - المهرة - جزيرة سقطرى)؟ على القائمين على المشروع الوليد أنْ يُبددوا مخاوفنا من أن تكون هذه وصفة لاستمرار الاحتراب تحت وطأة الاعتلال التنموي، يساندها في ذلك، مثلا، أن يتم إنشاء إقليم مكدّس سكانيا (إقليم الجند: تعز - إب)، في مقابل آخر يشكو قلة البشر فيه (إقليم سبأ: مأرب - الجوف - البيضاء).