لم يبصر الشاعر اليمني عبدالله البردوني، شيئاً مما أجرته الأقدار في عالمنا هذا، وربما لو كان حيا، لما رأى اجتياح الحوثي لصنعاء عابراً بها من “سجن إلى سجن ومن منفى إلى منفى” فالبردّوني لم يعرف طريقه إلى النور، لكنه عرف طريقا آخر إلى عالمه الداخلي، وهي طريق تطوّق اليمن كلها، من ليل صنعائها الأدجى، إلى موتها القادم من صعدة. حين كان اليمنيون والعرب يشاهدون أمس إحكام الحوثيين لقبضتهم على صنعاء، وقضائهم على ما تبقى من ثورة، أفرغتها التسويات من مضامينها، فزعوا إلى البردّوني، يقرأون في شعره انكساراتهم، ويتسلّون عن يمن المليشيات والواقع المر، بيمن الحلم والخيال الشعري. مقطوعات وقصائد مثل “الغزو من الداخل” و”صنعاء الموت والميلاد” و”أبو تمام وعروبة اليوم” بدت لليمنيين وكأنها قيلت اليوم، لتصف واقعهم، كأن ليالي اليمن المدبرة تقلّدت البردّوني، كما تقلّدت ليالي بغداد وحلب، سلفه “المتنبي”، وأباحت خطوبها فنه، فهي تنشد أشعاره دماً ورصاصاً، لا كلمات عاجزة، مستطيعة ب”التأويل” فقط، وقلّ من يعلم تأويلها! لم يقتصر اليمنيون على هذا، بل مدّوا نبوءة البردّوني من التجريد، إلى التفاصيل الحدثية، فتناقلوا قصيدة منسوبة إليه، مطلعها: إذا ارتدت صعدة عمران ممسية غداً ستدخل صنعا مطلع الفجر وقالوا إن البردوني تنبّأ فيها بوقائع الأمس، حتى إنه عيّن الرئيس منصور هادي باسمه! حين قال: قال ابن نخلة هذا ثم وشوشني متى سيحكم “هاديكم” من القصر؟ لكنّ قليلاً من التأمل يكفي لإدراك غربة النص عن فن البردوني، حتى وإن حاول محاكاة نبوءاته، وهو ما أكده الإعلامي اليمني عدنان باسويد، إذ يقول “سبق وقرأنا شعر البردّوني سواء عن طريق الإطلاع المباشر، أو الدراسة، ومن ثم فشعره جزل، وبليغ، أما هذه القصيدة فهي جميلة، ومن شاعر مبدع، لكنها لا تصل إلى مستوى البردّوني”. وأضاف باسويد “بعد البحث وجدنا أنها للشاعر اليمني الشاب زين العابدين الضبيبي، وأتت كحلم قال إن البردّوني ألهما إياها فيه، فنسجها على هذا المنوال”. ويبدو أن هناك ما يسوّغ لليمنيين هذا الاستحضار لشاعرهم الضرير، فإلى جانب عبقريته التي عوّضت عماه الفيزيائي، عاش البردّوني بين عامي 1929 و1999 في حقبة كهذه، التبست فيها الشعارات بالواقع. عاصر الإماميين، والاشتراكيين، والوحدويين، ولم يجد خير اليمن عندهم. كان يرى في حربهم الفساد، وفي سلمهم شقاقاً منتظراً، لهذا فهم مستعمرون من الداخل لا أكثر، يستبيحون الحمى، وينسحبون إذا تصدى لهم مستعمر الخارج. ومع خيباته السياسية، انكفأ البردوني إلى مواطنيه، يبحث عن اليمني الهامشي، اليمني المصفّى الذي يبعث من آخر الموت، فيهمي كفجأة الغيب، ويزحف كالبراكين، ويتألف من كل قلب، ويكلف بالناس لا بهواه، مبشراً به لعل اليمنيين ينقبون عنه في أنفسهم، ويعرضون عن أمراء الحرب والسلاح، لكن يبدو أن أحداث الأمس وما سيعقبها، خيبة جديدة للبردوني من أمراء اليمن، فهم ما زالوا يصرّون على تكذيبه، لأنهم يحتكمون إلى ظواهر الأشياء التي لا يبصرها، ويحتكم هو إلى بواطنها، التي يعمون عنها، ويراها هو، ويتيقن مآلاتها عياناً من دون حجاب الفن الشفيف! (صحيفة عكاظ)