الأحزاب والمكوّنات السياسية تدعو المجلس الرئاسي إلى حماية مؤسسات الدولة وتحمل مسؤولياته الوطنية    المدير التنفيذي للجمعية اليمنية للإعلام الرياضي بشير سنان يكرم الزملاء المصوّرين الصحفيين الذين شاركوا في تغطية بطولات كبرى أُقيمت في دولة قطر عام 2025    الصحفي المتخصص بالإعلام الاقتصادي نجيب إسماعيل نجيب العدوفي ..    الصحفي المتخصص بالإعلام الاقتصادي نجيب إسماعيل نجيب العدوفي ..    المرتضى: تم التوقيع على اتفاق انتشال وتسليم الجثامين من كل الجبهات والمناطق    ذمار.. مقتل مواطن برصاص راجع إثر اشتباك عائلي مع نجله    النائب العام يأمر بالتحقيق في اكتشاف محطات تكرير مخالفة بالخشعة    الجزائر تفتتح مشوارها بأمم إفريقيا بفوز ساحق على السودان"    فتح ذمار يفوز على فريق 22 مايو واتحاد حضرموت يعتلي صدارة المجموعة الثالثة في دوري الدرجة الثانية    مجلس الأمن يطالب بالإفراج الفوري عن موظفي الأمم المتحدة المحتجزين لدى سلطة صنعاء    علماء وخطباء المحويت يدعون لنصرة القرآن وفلسطين    تعود لاكثر من 300 عام : اكتشاف قبور اثرية وتحديد هويتها في ذمار    ضبط محطات غير قانونية لتكرير المشتقات النفطية في الخشعة بحضرموت    مؤسسة الاتصالات تكرم أصحاب قصص النجاح من المعاقين ذوي الهمم    شباب عبس يتجاوز حسيني لحج في تجمع الحديدة وشباب البيضاء يتجاوز وحدة حضرموت في تجمع لودر    القاعدة تضع السعودية والإمارات في مرمى العداء وتستحضر حديثًا لتبرير العنف في أبين وشبوة    تحذيرات للمزارعين مما سيحدث الليلة وغدا ..!    الشيخ أمين البرعي يعزي محافظ الحديدة اللواء عبدالله عطيفي في وفاة عمه احمد عطيفي    شبوة تنصب الواسط في خيمة الجنوب    الدولار يتجه نحو أسوأ أداء سنوي له منذ أكثر من 20 عاما    الرئيس الزُبيدي: نثمن دور الإمارات التنموي والإنساني    مصلحة الجمارك تؤيد خطوات الرئيس الزُبيدي لإعلان دولة الجنوب    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل في مشروع سد حسان بمحافظة أبين    لملس يتفقد سير أعمال تأهيل مكتب التعليم الفني بالعاصمة عدن    أبناء العمري وأسرة شهيد الواجب عبدالحكيم فاضل أحمد فريد العمري يشكرون رئيس انتقالي لحج على مواساته    سوريا.. قوة إسرائيلية تتوغل بريف درعا وتعتقل شابين    الحديدة تدشن فعاليات جمعة رجب بلقاء موسع يجمع العلماء والقيادات    هيئة الزكاة تدشن برامج صحية واجتماعية جديدة في صعدة    السلطة المحلية بمحافظة لحج تعلن دعمها الكامل لقرارات الرئيس عيدروس الزبيدي واستعادة دولة الجنوب    "أهازيج البراعم".. إصدار شعري جديد للأطفال يصدر في صنعاء    رئيس مجلس الشورى يعزي في وفاة الدكتور "بامشموس"    هدوء في البورصات الأوروبية بمناسبة العطلات بعد سلسلة مستويات قياسية    دور الهيئة النسائية في ترسيخ قيم "جمعة رجب" وحماية المجتمع من طمس الهوية    تحذير طبي برودة القدمين المستمرة تنذر بأمراض خطيرة    سياسي عماني: خيبة أمل الشرعية من بيان مجلس الأمن.. بيان صحفي لا قرار ملزم ولا نصر سياسي    تضامن حضرموت يواجه مساء اليوم النهضة العماني في كأس الخليج للأندية    حوادث الطيران وضحاياها في 2025    اختتام دورة تدريبية لفرسان التنمية في مديريتي الملاجم وردمان في محافظة البيضاء    تونس تضرب أوغندا بثلاثية    إغلاق مطار سقطرى وإلغاء رحلة قادمة من أبوظبي    قراءة أدبية وسياسية لنص "الحب الخائب يكتب للريح" ل"أحمد سيف حاشد"    البنك المركزي يوقف تراخيص فروع شركات صرافة بعدن ومأرب    خطوة إنسانية تخفف المعاناة.. السعودية ترحب باتفاق تبادل الأسرى والمحتجزين    الفواكه المجففة تمنح الطاقة والدفء في الشتاء    هيئة الآثار: نقوش سبأ القديمة تتعرض للاقتلاع والتهريب    تكريم الفائزات ببطولة الرماية المفتوحة في صنعاء    مستشار الرئيس الاماراتي : حق تقرير المصير في الجنوب إرادة أهله وليس الإمارات    فقيد الوطن و الساحه الفنية الشاعر سالم أحمد بامطرف    هيئة المواصفات والمقاييس تحذر من منتج حليب أطفال ملوث ببكتيريا خطرة    صلاح ومرموش يقودان منتخب مصر لإحباط مفاجأة زيمبابوي    الخارجية الروسية: روسيا تؤكد تضامنها مع فنزويلا على خلفية التصعيد في البحر الكاريبي    فنان تشكيلي يتلقى إشعاراً بإخلاء مسكنه في صنعاء ويعرض لوحاته للبيع    تحذيرات طبية من خطورة تجمعات مياه المجاري في عدد من الأحياء بمدينة إب    مرض الفشل الكلوي (33)    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    تحرير حضرموت: اللطمة التي أفقدت قوى الاحتلال صوابها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في جذور «أزمة صعدة».. حصاد عقودٍ من استنفار الهوية الطائفية
نشر في المنتصف يوم 10 - 12 - 2012

يمكن النظر إلى استقرار الوجود الديموغرافي للزيدية كمذهب، وتذبذُبِه كسلطة سياسية، بوصفه واحداً من أوضح معالم تحوُّلات القرون الممتدة بين البدايات الأولى لتأسيس دولة الأئمة الزيديين، انطلاقاً من صعدة، على يد الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي [توفي سنة 298ه]، وحتى قيام ثورة سبتمبر 1962م، التي أطاحت بحاكمية بيت حميدالدين كآخر تمظهرات الإمامة الزيدية. في الخارطة المذهبية استحال التدافع في اليمن، ومنذ وقتٍ مبكر، إلى تقابل المذهبين الزيدي والشافعي، واتخذ حضورُ كلٍّ منهما تمفصلاً ديموغرافياً على قدرٍ من الوضوح والتمايز. والتعبير ب «التقابل» لا يستلزم التساوي بالتأكيد؛ فالشافعي أوفر حظاً إنْ من حيث ارتفاع منسوب أتباعه أو اتّساع رقعة تواجده. كما أنّ تقاسم الشافعية والزيدية للخارطة المذهبية لا يعني خلوّها من غيرهما.
وعلى خلاف الزيدية كمذهب لم يتوفر للزيدية، كحاكمية سياسية، الثبات على سلطة يستوعب نفوذُها جغرافية المذهب. ففي حالات عديدة لم يكن ما يتحقق من حاكمية الإمامة الزيدية يخرج عن مستويات محدودة من السلطة، منها ما لا تسري فيها سلطة الإمام إلا على القريةَ التي أعلن منها نفسه إماماً، سواء كان هناك من يُنافسه في قرية أخرى، أو لم يكن هناك منافسٌ له. فإذا كان هذا حال سلطة الإمامة الزيدية على جغرافية مذهبها نفسه، فإنها في ما سوى ذلك أبعد عن الثبات، أما أنها قد تجاوزت جغرافيتها إلى مناطق حضور الشافعية فصحيح، ولكنْ في حالات قليلة.
يحسُن في هذا المدخل التأكيد على أمرين هما:
أولاً: إنّ استقرار ديموغرافية المذهب الزيدي، كمحصلة لتحوُّلات التاريخ المُشار إليه، على المساحة التي تشمل – من بين ما تشمل - صعدة وصنعاء وحجة وعمران وذمار، يستلزم الربط بين التجليات الراهنة لمُشْكِل «صعدة» والتحوُّلات الديموغرافية التي رافقت اليمن الجمهوري، لاسيما ما يتّصل منها بتحوُّلات التركيبة المذهبية التي استجدّت في جغرافية الزيدية، و«صعدة» بالخصوص.
ثانياً: إنّ خلوّ الزيدية كمذهب من حاكمية سياسية، إثر الإطاحة بالإمامة المتوكلية، لم يكن ليستلزم، بالضرورة، تراجع المذهب وانحسار وجوده بذلك المستوى الذي أسفرتْ عنه العقود القليلة الماضية، إذ بذات القدر الذي لم يكن من شأن امتداد السلطة الزيدية على جغرافية المذهب الشافعي أنْ تُوَطِّن الزيدية كمذهب في غير جغرافيته، فإنّ ارتفاع حاكمية الإمامة الزيدية من جغرافية المذهب نفسه لا يعني الإذن بتلاشيه، إلا إذا نظرنا إلى المذهب الزيدي وحاكمية الإمامة الزيدية بوصفهما متلازمَين. وذلك غير دقيق؛ فتاريخ المذهب الزيدي في اليمن يتوافر على شواهد تُعيد استمراره – بنسبةٍ معينة - إلى عوامل كامنة فيه، من حيث هو فرقة كلامية ومذهب فقهي.
ولكن ما المهمّ في التأكيد على هكذا أمور؟ لعلّ في ثنايا السطور اللاحقة ما يصب في محاولة الإجابة على هذا السؤال.
الوجدان المذهبي والجمهورية الجاذبة!
لقد تأثّر حضور المذهب الزيدي سلباً بتحوُّل السلطة في اليمن، في ستينيات القرن العشرين، من الإمامة، ذات المرجعية الزيدية، إلى النظام الجمهوري. صحيح أنّ الثورة التي طوَتْ نظام الإمامة لم تستهدف في جوهرها الزيدية كمذهب، غير أن مسلك البعض في اليمن الجمهوري لم يكن يُفرِّق بين نظام الإمامة الزيدية والمذهب الزيدي. هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى فقد قُوبِل التحوُّل إلى الجمهورية بتوجّسٍ في أوساط المشتغلين على تَدارُس علوم المذهب الزيدي؛ كون مرجعية النظام الجمهوري تقوم على مخالفة النظرية السياسية الزيدية/ الهادوية، وهي لدى المؤمنين بها في مرتبة الأصل الديني، بما يعني افتقاد الحاكمية السياسية - التي لا تستند إليها - للشرعية الدينية. ومن الطبيعي، والحال هذه، ألّا تكون النظرية السياسية الزيدية/ الهادوية محلّ ترحيب الحاكم؛ طالما وهي فاعلة في تشكيل نظرة المؤمنين بها إليه وإلى نظامه.
واضحٌ إذن أنّ ثمة علاقة بين ما يمكن التعبير عنه بعدم اطمئنان النظام إلى العديد من الأوساط العلمائية الزيدية، وبين استحضار هذه الأوساط للنظرية السياسية الهادوية، والاتّكاء عليها في الموقف من النظام الجمهوري، وعدم هضمه واستساغته. (والنظرية السياسية الهادوية تقوم، في واحدٍ من أهمّ أركانها، على حصْر الإمامة/ الرئاسة في ذرية الحسن والحسين رضي الله عنهما). ففيما لم يكن ينظر النظام إلى تلك الأوساط إلا من زاوية اتّصالها بالمرجعيات العقدية المؤسِّسة لنظام الإمامة لم تكن تلك الأوساط تنظر إليه، هي الأخرى، إلا من زاوية انفصاله عن ما هي لديها من شروط استحقاق الإمامة. والتعبير ب «الأوساط العلمائية الزيدية» ينصرف في هذه التناولة إلى «صعدة» على وجه الخصوص، لا على أساس أنّ شواهد ومصاديق تلك العلاقة/ المعادلة لا تتجلى – على امتداد الوجود الديموغرافي للزيدية – إلا فيها، وإنّما لأنّ القياس إليها، من حيث كونها معقل الزيدية، أكمل وأشمل.
بدا من الصعب، في ظلّ التراكمات التاريخية التي صنَعَتْ وجدانها، أن تتنازل الأوساط الدينية في «صعدة» بسهولة عن الاعتقاد بصحة النظرية السياسية الهادوية، ووجوب الاحتكام إليها كمرجعية يتخلّق في ضوئها النظام السياسي. غير أنّ هذا لم يكن يمنع الكثير منها من التعاطي مع النظام الجمهوري كأمرٍ واقع لا مندوحة عن التسليم به. وقد كان يمكن للنظام، في الفترة اللاحقة للتسوية التي أنهتْ احتراب الجمهوريين والملكيين مطلع سبعينيات القرن الماضي، المراهنة على حضور الدولة، بمرجعيتها الجمهورية، لزحزحة الوجدان الجمعي الزيدي، في صعدة بالخصوص، عن اعتقاد دينية الأفكار المؤسِّسة لنظام الإمامة الزيدية، وفي نفس الوقت الأخذ به للإمساك بما هي من ثوابت وقيم «الجمهورية» التي تجعله، في معرض المقارنة بينها ونظام الإمامة، يختار الجمهورية بوعي مَنْ تأكّد له أفضليتها.. فما الذي حدث؟
لم تكن «صعدة»، بالقياس إلى تراخي الجمهورية عن إدراك غاياتها، هي الاستثناء، فالنموذج الجمهوري الجاذب لم يتحقق بالقضاء على الإمامة المتوكلية، بقدر ما أنتج صيغاً من الحاكميات والأنظمة كانت فيها «الجمهورية» هي القيمة الغائبة، والمعطى المفقود. وبالنظر إلى تخلّف منظومة الحكم، طيلة خمسة عقود مضت، عن توطين الدولة كقيمة كلية مرجعية تتحقق فيها للجميع موجبات تَشَارُك الانتماء إليها، من البديهي أنْ تخوض السلطة الفاقدة للمشروع الوطني في مسلكياتٍ كان من شأنها توفير مسوغات انكفاء الهويات الطائفية/ المذهبية، والقبلية، والفئوية، على ذاتها، وإضعاف الشعور لديها بالحاجة إلى الانفتاح على الرابطة الكلية في شكل مقدمات الدولة الوليدة.
هنا تأتي خصوصية صعدة في العهد الجمهوري، لا بكونها وجوداً ديموغرافياً يكاد يكون مغلقاً على الزيدية فحسب، وإنما أيضاً – وهو الأهم – لما عليه وجدان أناسها، لاسيما المشتغلين بالمعرفة الدينية، من تَشَبُّع بالفكر السياسي الذي يؤصِّل لإمامةٍ قام العهد الجمهوري على أنقاضها. على أنّ هذا التضادّ بين مرجعية النظام الجمهوري والوجدان الديني/ المذهبي في صعدة، وإن كان يستلزم تبادل النفور بينهما، إلا أنّه لا يعفي منظومة الحكم من مسئولية إذكائه بدلاً من ترويضه واستدراجه. بمعنى أنّ خصوصية الوجدان الديني في صعدة، المتشبِّع نظرياً بالأفكار الناظمة للإمامة كأصلٍ ديني، كان يتطلّب من المنظومة الحاكمة التعاطي معه بحساسية شديدة، لا تُهيئ له مسوغات الارتهان إلى المرتكزات التاريخية والتراثية التي ديّنتْ الإمامة في وجدانه، بل تجتذبه وبتمهّل بعيداً عنها.
إحلال السلفية.. التسهيل والاستسهال
في هذا السياق لم يكن تعزيز – وليس استنبات – وجود «السلفية» في «صعدة» إلا واحداً من المسارات التي صَدَرَ فيها النظام بوحيٍ من تضادّ مرجعيته مع الفكر السياسي الزيدي/ الهادوي في شكل نظام الحكم وطرائق الوصول إليه. والتعبير ب«تعزيز الوجود السلفي» يراعي حقيقة أن استنبات «السلفية» في «صعدة» نتاج عوامل عديدة، منها ما هو ذاتي يخصّ مؤسسها الشيخ مقبل بن هادي الوادعي [تُوفِّي في 30 ربيع الآخر 1422ه/22 يوليو 2001م] وقد ساهمَتْ الزيدية، كمذهب ديني وظاهرة اجتماعية، في إيجاده، وذلك هو التمايز على أساس النَسَب الذي يجعل الهاشميين في مرتبة متقدمة على غيرهم. فإلى هذا العامل يعود جانبٌ من اتّجاه الوادعي إلى «السلفية» ووجود نفسه فيها، ومن ثم استقدامها من المملكة العربية السعودية، حيث كان يدرس، إلى قريته «دماج» [8 كم إلى الجنوب من مدينة صعدة]. ومن العوامل ما هو خارجي يرتبط بسعي المملكة السعودية إلى تصدير طريقتها الدينية الرسمية «الوهابية».
وعلى أيّة حال فقد أثار استقدام السلفية إلى «صعدة» حفيظة الأوساط الدينية الزيدية، لاسيما مع تنامي نشاط الشيخ مقبل الوادعي في ثمانينيات القرن الماضي. ولم تجد هذه الأوساط في الوجود السلفي إلا استهدافاً للمذهب الزيدي في عقر داره. ومن يومها اتّخَذَ التدافع بين الطرفين حالة الضديّة المطلقة؛ فبين سعي السلفيين إلى تأكيد حضورهم في «صعدة» وتداعي الزيود على شعور أن «صعدة» خاصّتهم وحدهم، انفتح السجال بين الفريقين على مديات واسعة، استلزمت تحولاً في الاشتغال الديني لدى الزيدية بما يُلَبّي اشتراطات التصدّي للمنافس الطارئ. وفي تلك الفترة خَرَجَ النشاط الديني لدى الزيدية عن مجرّد تدارُس المعارف الفقهية والأصولية واللغوية في ما يعرف بال «هِجَر» إلى أشكال أخرى تحمّس لها المشتغلون على تدارس العلوم الدينية من الشباب، وتضمّنت زيارات متبادلة بين منتسبي حلقات الدروس في جوامع مختلفة، علاوة على عَقْدِ الندوات الخطابية، والتباري الثقافي، وصولاً إلى إقامة الدورات الصيفية..
في زمنٍ قياسي استطاعت السلفية النفاذ إلى عمق قلعة الزيدية الحصينة، وكسرت احتكار المذهب الزيدي للمجتمع المحلي في «صعدة». وغنيّ عن القول إنّ الإسناد الخارجي، ولو لم يكن إلا في شكل المال المتدفق من المملكة السعودية، وكذلك التسهيل الداخلي، ولو لم يكن إلا في شكل استحسان النظام لما يترتّب على الوجود السلفي في قلب الزيدية من ضمان استغراق كل منهما في صراعه مع الآخر، قد حفزّا في الوعي الديني الزيدي الهوية الطائفية/ المذهبية، وقفزا بها إلى الواجهة، باعتبار أن المدّ السلفي يستهدف الزيدية في بنيتها الأساسية، ومن ثم فإنها في مواجهته تخوض معركة الدفاع عن وجودها، والحفاظ على هويتها.
لقد تولّد عن إحضار السلفية إلى صعدة، وتعزيز تمدُّدِها فيها، تكريس عوامل ومسوغات إيغال الأوساط الدينية الزيدية هنالك في استحضار المرتكزات التاريخية والتراثية للهوية الزيدية/ الهادوية، بما فيها بالتأكيد الإمامة، وما يتعلق بها من مسائل لها حكمُها كأصلٍ ديني. وبصرف النظر عن ما إذا كان للنظام في تعاطيه مع هذا الملف حينها حساباته الوطنية المجردة، أم كان الأمر غير ذلك، فالصحيح أنّ السعي إلى زحزحة «صعدة»عن مربع الوجدان المتشَبِّع بالفكرة المؤسِّسة للإمامة الزيدية، من خلال إحلال السلفية فيها والتضييق على أوساطها الدينية، أسفر عن نتائج عكسية، إذ ساعد ليس فقط على استعادة الأوساط الدينية الزيدية لزخم الصدور عن الهوية المذهبية/ الطائفية كمرجعية مُقدَّمَة على أية رابطة جغرافية أو سياسية أو جيوسياسية..، وإنما الذهاب بعيداً للتلاقي مع مرجعية هوياتية يجمعها بها المسمى العام كشيعة، وذلك على نحو ما يجمع سلفية مقبل الوادعي ب «الوهابية» السعودية في العنوان العام.
من العنوان المحلي إلى العابر للحدود
في الأثناء كانت «الثورة الإسلامية الإيرانية» بقيادة الإمام الخميني قد نجحت في إقامة نظام ولاية الفقيه بمرجعية شيعية على المذهب الجعفري الاثني عشري. هكذا تزامن وقوف إيران الخميني على قدميها، بوصفها الدولة الشيعية الوحيدة، مع استشعار الأوساط الزيدية في «صعدة» لما رأوه في الوجود السلفي خطراً يتهدد هويتهم المذهبية: الزيدية أولاً، والشيعية ثانياً. وهنا ينبغي الإشارة إلى ما بين الزيدية والجعفرية، كفرقتين شيعيتين، من تضادّ فكري وتاريخي ما كان يمكن طيّه بسهولة لولا شعور الأوساط الزيدية في «صعدة» بالغبن - والحديث عن ثمانينيات القرن الماضي - جرّاء مزاحمتها في وجودها التاريخي بهوية مذهبية جديدة لا تعدو كونها امتداداً ل «الوهابية» السعودية، وبتساهلٍ وتسهيلٍ من النظام في الداخل، كونها لاقت هوى في نفسه، وتجاوبت مع سياسته القائمة على اللعب بالمتناقضات.
هكذا إذن، وبدلاً من استدراج صعدة إلى السياق الوطني، تحت يافطة الهوية اليمنية، تمّ استفزاز الهوية الطائفية/ المذهبية للمحافظة، ووضْعها في حالة استنفار دائم قبالة الهوية السلفية الطارئة، التي أمدّتْ الهوية الزيدية/ الهادوية بأسباب التداعي على المحددات الناظمة للخصوصية المذهبية، ليس على مستوى الأصول الكلية للمذهب، وإنما الفروع أيضاً. وطالما أصبح الصدور عن الهوية المذهبية/ الطائفية مُقدّماً على غيره، ولم يجد أصحاب هذه الهوية، على امتداد الوجود الجيوسياسي القابعين على جزءٍ منه، إلا هويات طائفية يرون فيها تهديداً لهم، فضلاً عن توافرِها على إسناد خارجي ومباركة داخلية، فإنّ اتجاه هذه الهوية الطائفية إلى الاستئناس بأخرى طائفية، خارج الحدود، حتى وإنْ لم يجمعها بها إلا المسمّى العام، لهو أمرٌ طبيعي الوقوع، بالقياس إلى توافر شروطه الموضوعيّة، كما هو الحال بالنسبة لانشداد الهوية الزيدية في «صعدة» إلى «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» بجامع التشيّع. ومن ثمّ فإنّ اللائمة يُفترض أنّ تقع، بالدرجة الأولى، على الذين وفّروا أسباب ودواعي هذا الانزياح.
ولعلّه من المفيد هنا لفت الانتباه إلى أنّ الحالة التي أسفرتْ عن عبور الأوساط الدينية في صعدة بالهوية الطائفية من العنوان المحلي (الزيدية) إلى العنوان العابر للحدود (الشيعة)، منذ ثمانينيات القرن الماضي، ليست استثنائية وفريدة في تاريخ اليمن الحديث والمعاصر. ثمة بالتأكيد حالات عديدة، القاسم المشترك بينها استحضار العنوان الهوياتي العابر للحدود والصدور عنه، إنْ مع إبقاء العنوان المحلي أو تغييبه بالمطلق. ولا يقتصر الأمر على العناوين الطائفية الدينية، وإنما يتّسع لما هو في مقامها من العناوين الأيديولوجية.. واكتفاءً بالعناوين الهوياتية الطائفية الدينية قد يصح التمثيل بما ترتّب على اتّخاذ الهوية الزيدية، في ظلّ امتداد حاكميتها السياسية (الإمامة) على ديموغرافية الهوية الشافعية، من ظهور الهوية الزيدية كحاكمة، والهوية الشافعية كمحكومة. ففي مثل هذه الحالة التي أصبحت معها الهوية الزيدية هي الهوية الرئيسية، لأنها الحاكمة، والهوية الشافعية هي الهوية الثانوية، لأنها المحكومة، كان من الطبيعي شعور الأخيرة بالاغتراب، ومن ثمّ اتّخاذها جانب الميل إلى الوجود العثماني في اليمن؛ والاستئناس إليه، من حيث كونه امتداداً للخلافة الإسلامية العثمانية «السنية».
هل «لو تُرِك القطا لنام»؟!
أخذاً بعين الاعتبار كون هذه التناولة لا تتغيا أكثر من رَسْم صورة عن الأسس، أو المنطلقات، الباعثة على تطاول أزمة صعدة، بما هي إشكالية هوياتية طائفية/ مذهبية في المقام الأول، فإنّ الاكتفاء بما سبق في تقريب هذه الصورة على كثيرٍ من الوجاهة؛ إذ لم يضيف عقد التسعينيات من القرن الماضي، والعقد الأول من الجاري، إلا شواهد وتجليات على أنّ استنفار الهوية الطائفية الزيدية يمضي ب «صعدة» إلى مربع القطيعة الكلية مع السياق الوطني.
خلال عقدٍ مضى، وبمقارنة ما كان عليه الحوثيون في أوّله وما انتهى إليه حالهم اليوم، يتأكّد أنّ الطابع الهوياتي في مُشْكِل «صعدة» هو عنوانها الرئيسي. في اشتغال حسين بدرالدين الحوثي - الذي يتلخَّص في ضرورة انتظام الزيدية على مرجعية (ولاية أمر) واحدة تتمثل في شخصٍ من (أهل البيت) بوصفه العَلَم الواجب التمسك به واستمداد الهداية منه – يتجلّى ما يمكن التعبير عنه بهاجس صياغة محددات نمطية للشخصية الزيدية، بحيث يكون لهذه المحددات القدرة الكافية لكي تخلق من أتباعها جماعة لها هويتها المائزة كلياً، في مواجهة الهويات الأخرى.
هل كان يمكن لسؤال الهوية الطائفية/ المذهبية أن يتخلّق في وعي حسين الحوثي، ومن ثمّ يُصار بهذا السؤال إلى مشروع يجد له حاملاً اجتماعياً على امتداد جغرافية المذهب الزيدي، لو لم يتمّ استنفار الهوية الزيدية/ الهادوية، ومدِّها بعوامل استدعاء فاعليتها التاريخية في وعي منتسبيها، من خلال وضْعها في حالة تجاذبٍ يومي مستمر مع هوية مضادة؟
قديماً قالت العرب: «لو تُرِك القطا لنام». أما في حالة «صعدة» فصحيح أنّ استحضار السلفية، وإنْ حفّز الزيدية التقليدية لاستفراغ طاقتها في الحفاظ على وجودها، ودرء اقتطاع المزيد من ديموغرافيتها لصالح المنافس الطارئ، إلا أنّ صيرورة الهوية الزيدية/ الهادوية، في جانب كبيرٍ منها، إلى ما أصبحت عليه جماعة الحوثي، لهو بمثابة تحوُّلٍ أكبر مِنْ أنْ يتم إرجاعه إلى الضدية الزيدية السلفية، على إثر حضور الأخيرة إلى عقر دار الأولى. لكن هذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، استبعاد الدور السلفي في ما حدث، بقدر ما يعني نفي أن يكون العامل الوحيد.
ومن ثمّ فإنّ الربط بين غياب الدولة، وبقاء جذوة الفكرة المؤسِّسة للإمامة مشتعلة، مهمٌّ لفهم تمحور جماعة الحوثي حول مرجعية العَلَم/ وليّ الأمر (عبدالملك بدرالدين الحوثي حالياً). فهذه المرجعية التي تُخوله ليس الحاكمية أو السلطة الروحية فحسب، وإنما الولاية المطلقة، هي صيغة عملية تستعيد، بكيفية أو بأخرى، اتصال حاكمية الإمامة الزيدية/ الهادوية.
* كاتب وصحفي- [email protected]
من المحرر:
- الكاتب, إلى كونه صحافي ممارس وحاصل على إجازة دراسات عليا في الإعلام؛
باحث مكرس في قضايا الفكر الإسلامي والإنساني, مرجعية علمية في قضية صعدة.
قدم ونشر العديد من المساهمات والبحوث القيمة في مجاله.
ويعكف على إنجاز المادة العلمية لأكثر من كتاب ودراسة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.