لم تدهمنا الفاجعة دون سابق اشارات، لكنه كان نبأ قاسيا وموجعا جدا خبر نعي الدكتور محمد محسن الظاهري رئيس نقابة أعضاء هيئة التدريس ومساعديهم بجامعة صنعاء واستاذ العلوم السياسية في جامعة صنعاء والرئيس الدوري الاسبق للمجلس الاعلى لنقابات هيئات تدريس الجامعات اليمنية، فقد كنا نرجو له الشفاء وتجاوز المحنة ونأمل في عودته رحمة الله عليه، لكنها الآجال والقدر المحتوم. يرحل عنا الدكتور محمد الظاهري والبلاد كلها في أمس الحاجة إليه وإلى أمثاله وليس فقط نحن في جامعة صنعاء باعتباره ك رئيس نقابة شجاع نذر نفسه لخدمة زملائه الأكاديميين ومطالبا بحقوقهم المشروعة ومضحيا بوقته وجهده وصحته ومتصديا لكل المظالم التي طالتهم. جمعتني بأخينا وزميلنا الدكتور الظاهري محطات كثيرة وعلاقة شخصية وأخوية تعرفت منها على شخصه ومعدنه وأحواله ، خصوصا السنوات الاخيرة القاسية التي مرت بالبلاد ولا تزال اثر عودة الامامة، وهي الفترة التي صادفت الاقدار أن تضعنا قبل وصول الكارثة إلى صنعاء في واجهة العمل النقابي هو كرئيس لنقابة هيئة التدريس وأنا معه كأمين عام. خلال فترته وقبلها أيضا في الدورة السابقة منذ 2008م التي اختير فيها أمينا عاما للنقابة أشهد ومعي كل الزملاء ذوي الانصاف أن فقيدنا الراحل جعل من النقابة بيتا وسكنا لا يغادره إن تطلب الامر إلا في الساعات الأخيرة من الليل وخلق له من الهيئة الادارية للنقابة اسرة صنع بين أفرادها الانسجام والتعاون والتفاعل لخدمة الهيئة التدريسية والسعي لتصحيح مسار الجامعة والوقوف بحزم ضد أي مخالفات أكاديمية وإدارية خارج إطار قانون الجامعات كهدف اصيل من أهداف النقابة التي كانت ولا تزال أهم واثقل النقابات اليمنية التي تجمع أهم عقول البلاد ومفكريها والعلماء في كل الحقول. كان الظاهري يؤمن أن العمل النقابي هو الوجه الاخر للعمل الإداري ويتحرك في مواقفه من قناعته هذه، وبحكم عضوياته في مجالس الجامعة الاعلى والاكاديمي والدراسات العليا كممثل نقابي لزملائه كان صوته ظاهرا وقويا ، نزيها وصاحب موقف حازم ضد أي مخالفة لايحابي ولا يجامل ولا يستغل. خلال معايشتي له منذ أن كان أمين عام النقابة في الدورة النقابية لعام 2008 ثم فوزه مجددا بموقع رئاسة النقابة مطلع 2014 التي خلفته فيها بموقع الامين العام، شهدت العديد من مواقفه ولمست تفانيه وتضحياته وجوانب شخصيته الفريدة الشجاعة النزيهة. كان رحمه الله أكثرنا عملا ونشاطا وفي المقابل كان اكثرنا زهدا في أموال النقابة لدرجة رفضه استلام المكافئات النقابية المقررة في النظام الأساسي للنقابة، بل كان غالبا يتنازل عنها لبقية زملائه في الهيئة الإدارية ويحرم نفسه رغم حاجته الماسة للمال وظروفه التي كنت مطلعا عليها وقريبا من حياته ومعيشته الأسرية كانت حياة تقشف يشعر بلذتها ويتصالح معها. من مواقف الدكتور محمد الاخيرة رحمه الله في التضحية من أجل زملائه والانتصار لهم أذكر بعض منها، فعندما اعتقلت ميلشيات الحوثي الزميل الدكتور عبد المجيد المخلافي استاذ الإدارة العامة والنظم السياسية المقارنة الذي كان أيضا زميل تخصص وقسم للفقيد الظاهري وهو في طريقه لحضور مؤتمر علمي في العاصمة الأردنية عمان قاد الدكتور محمد الظاهري وقفات وفعاليات احتجاجية شجاعة داخل الجامعة مطالبا بإطلاق سراحه في وقت كان الكل يدرك فيه معنى الوقوف بوجه الهمجية الحوثية. تم الاعتداء عليه إثر مواقفه تلك وملاحقة الذين وقفوا معه لدرجة أن بعض زميلاتنا لاحقوهن تهديدا واعتداء إلى مكاتبهن، واعتقل فعلا مع مجموعة من الزملاء المشاركين في الفعالية التضامنية، تجنبا للتصعيد افرجت الميلشيا في نفس اليوم عن الموقوفين عدا الدكتور الظاهري والدكتور عبدالله الفقيه بل رفض الظاهري مغادرة السجن الا بعد خروج كل زملائه الموقوفين على ذمة الفعالية وظل معتقلا لمدة 15 يوم كان فعلا عند كلمته لم يغادر سجنه الا بعد الافراج عن الجميع. من مواقفه النبيلة، حين قررت الحكومة الشرعية البدء بصرف رواتب موظفي الدولة بعد تخلي ميلشيات الامر الواقع عن واجبها وبدأت بصرف رواتب لبعض أعضاء هيئات التدريس وتواصل به بعض زملائه ورفاقه ليعرضوا عليه خدمتهم له في معاملة صرف راتبه الزهيد اصلا ليواجه به بعض التزاماته وظروفه القاسية، لكنه رفض بإصرار رغم حاجته إليه مشترطا أن يتم صرف رواتب كل الزملاء ويكون واحدا منهم وليس استثناء. اضطرت غالبية الكوادر والقيادات لمغادرة صنعاء التي ظلت تضيق يوما بعد آخر بفعل ممارسات الميلشيات، كنت وزملاء كثيرون ممن غادرناها كرها لا رغبة، لكن زميلنا الظاهري رحمه الله كان مصرا على البقاء رغم كل المخاطر في جامعته ونقابته وسط من تبقى من تلاميذه وزملائه بلا أمان ولا ضمان ولا راتب. بفعل السرطان المرض العضال الذي هجم عليه وداهمه فجأة، اضطر زميلنا العزيز الدكتور محمد الظاهري لمغادرة صنعاء أملا في العافية وبحثا عن اسبابها غير المتوفرة في صنعاء، وظل طيلة سنوات علاجه يعيش الصمت والوجع ويتلقى العلاج راجيا العودة لم يطرق باب أحد بل وكثيرا ما كان لا يرغب في استقبال بعض ممن يحاولون تقديمهم التعاون معه والوقوف في محنته. نعم كان يفعل كل ذلك عفة لا استغناء، وصبرا لا ترفا، فظروفه نعلمها جميعا ولولا بعض الاصرار من محبيه واسرته الكريمة واولاده الذين أحسن تربيتهم ورباهم على الاعتماد على الذات ما كان قدر حتى على مواجهة تكاليف العلاج والغربة والاقامة فيها. غادرنا الدكتور الظاهري في ذروة نشاطه وقبل أوانه بكثير، كم كانت البلاد بحاجة إليه، لكنها أقدار الله وآجاله واختباراته لنا في هذا الظرف بالغ القسوة التي تمر به البلاد، وعزاؤنا الوحيد هو السير على ما كان عليه من مبدأ ونزاهة والاستفادة من سيرته وارثه وابحاثه الهامة في فهم اليمن ومجتمعها وحل مشاكلها، وأملنا كبير في أن له اولادا نجباء سيحفظون إرث ابيهم وسمعته العطرة ويحققون لهم وللبلاد ما يستحقون وما رباهم عليه وما كان يطمح إليه من حياة كريمة وعدالة. كنقابي من موقعي كأمين عام للنقابة أشاطر كل اسرته والزملاء التعازي والألم والمواساة والحزن في آن واحد، لا يسعني الا ان اشكر كل من وقفوا معه في محنته وأصروا على عدم خذلانه وفي مقدمتهم سفيرنا لدى جمهورية تركيا سعادة اللواء محمد صالح طريق والاخت الاستاذة توكل كرمان التي بادرت يوم انشغل وغاب الكثير، وأملي من الزملاء في النقابة والنقابات ان نستمر في حمل راية الحلم والواجب الذي حملناه سويا مع فقيدنا الظاهري رحمة الله تغشاه والوفاء له. أسأل الله لفقيدنا الرحمة ولأهله واسرته وطلبته ومحبيه الصبر والسلوان، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. د. عبدالحميد عبدالله البكري أستاذ التاريخ المعاصر أمين عام نقابة هيئة التدريس ومساعديهم بجامعة صنعاء