كان الهدف الكبير ماثلا أمامهم بكل وضوح ، و كانت المهمة بحاجة لِهمَم ترتقي إلى مستوى الهدف، عندما نادى فيهم موسى عليه السلام :" يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة". و لما كان القوم ليسوا بمستوى الهدف، و لا بقدر المهمة، و لا أن ما دُعوا له محط اهتمامهم ؛ فقد رد كبارهم..؟!! و هل لهذه النوعية كبار ؟ نعم .. إن لذوي الهمم الصغيرة كبار على شاكلتهم . فكان ردهم : إنا لن ندخلها.. ففيها قوم جبارون ، ثم إن ما دعوتنا إليه لا يعنينا ؛ إن لنا مطالبنا، و لنا طموحاتنا ! إنا لن نصبر على طعام واحد ! و راحوا يعلنون قائمة مطالبهم : أين البقل و أين القثاء؟ و أين الفوم و العدس؟!
حين تتقاصر الهمم تبرز التفاهة، و تُستبدل الأهداف . و هنا تجلت التفاهة بأوضح صورها، حيث أهلها يدورون حول ذواتهم ، و شهواتهم . و غياب هممهم هنا، يتناسب مع التفاهة التي يحبون ؛ لأنها لا تُحمّلهم تبعة ، و لا تُلقي عليهم مسؤولية . ثم إن الحديث عن تحرير، و عن مواجهة، و عن حرب، هذا ليس محطّ تفكيرهم ، و لا طموحهم ، و ما يشغلهم ، هو : أين البقل؟ و أين القثاء؟ أما التحرير ؛ فاذهب أنت وربك فقاتلا ..!!
الانكفاء عن خطوط التماس إلى أَسِرّة النعاس، و الاهتمام بقرع المرافع على حساب المواقع، عمل سخيف، و سفه مستطير.
لم يكن في قوم موسى أحد من فئة البسطاء في مظاهرهم، العظماء في مواقفهم مَن يصرخ في وجه كبرائهم المُثبِّطين ، و المُخذِّلين ؛ لأن بيئتهم التي تربوا عليها ، و ألفوها كانت التفاهة ، فكان جل اهتمامهم الحصول على البقل و القثّاء و العدس ! حتى إنهم لم يستنكفوا عن عبادة العجل، حين دعاهم السامري لعبادته !
مصيبة و أي مصيبة، أن تقوم مجموعة، أو فئة لتفرض أمراً على حساب الأولويات الكبرى ، ناهيك عن أن يكون الحديث عن توافه هدفها تطبيع المجتمع لتناسي أهدافه العظيمة.
الإباء ، و الشموخ، و وضوح الهدف يمثله صف صادق يؤمن بفكرة ، و يتميز برسالة ، و نوعية تعيش لهدف ؛ ترَسَّخ فيها الجد ، و تسامى عندها الطموح و الغايات.
"أشيروا علَيَّ أيها الناس" ! كان هذا في مكان آخر، و زمن آخر و في قوم آخرين ، قالها الرسول الكريم و قد استنفرت قريش خيلها و رَجِلها تَجَبُّرا و كبرا و إذا هم يشيرون بإجماع على المواجهة و النزال ، حتى إن أحدهم ليقول : لن نقول لك كما قال بنوا إسرائيل لموسى إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، و لكنا نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ..!!
مواقف التفاهة تبحث عن بطولة بلا كلفة، و لا يكون فيها تبعة، و ليس فيها مواجهة، و لا مقاومة، و إنما فيها البقل و القثاء، و الفوم، و العدس، و عملا استعراضيا لا يعرضها لحَر الصيف ، و لا لزمهرير الشتاء.
العامة من البسطاء في مجتمع الإباء ، و الجد و الأهداف السامية، أكثر وعيا، و ألمح ذكاء بمسافات كبيرة من أن تنقاد لمواقف التفاهة مهما كان مكر السامري فضلا عن أن تستذلها الأغراض (القثّائية) و غاياتها الغثائية.
البسطاء في البيئة الجادة، لا تلهيهم تجارة و لا بيع، يحملون أهدافا سامية، يمثلون دائما المدد الفاعل للأهداف الكبيرة ( إنا معكما مقاتلون).
عندما انتصر المسلمون في معركة نهاوند التي أسقطت نهائيا امبراطورية فارس ؛ كتب حذيفة بن اليمان الذي خلف النعمان بن مقرن في قيادة المعركة بعد استشهاد النعمان كتب يُعْلم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بما منحهم الله من فتح عظيم، و يذكر له أسماء القيادات التي استشهدت ثم يقول: و أناس لا تعرفهم يا أمير المؤمنين. فقال عمر: و ماذا تنفعهم معرفة عمر إن كان الله يعرفهم !
هؤلاء البسطاء الذين لا يعرفهم عمر، كبار عند الله عز و علا ؛ لأنهم كانوا كبارا في مواقفهم ، و جهادهم . و البسطاء الأباة في كل زمان ومكان مغمورون عند البشر، مشهورون عند الله عز و جل، و هم الرقم الصحيح في المجتمعات الجادة، و المواقف ذات الأهداف السامية العليا، لهم نصيب وافر من عزة النفس، و نكران الذات ؛ و لذلك ترى البسطاء يَنفَضّون، و يبتعدون عمن يُروّجون لمواقف التفاهة، و أغراض التفاهة ، كما هو شأن كل الأحرار دائما ، و البسطاء الأباة ، في المجتمع الأبي هم الحرية ، و عمق الأحرار ، و قاعدة ، و سند المواقف الكبيرة، و الأهداف العظيمة.
إن المجتمع الحر الأبي بكل فئاته، يصبح المجتمع البطل الذي يتسامى برسالته و أهدافه، و يرفض الانقياد لمواقف التفاهة و الغثائية. إن الأحرار صقور تحلق في سماء الحرية، لا في الأقفاص، أو في قيود الدولار ، و لا يأبه الأحرار لأولئك الذين يغرقون في معركة البقل و العدس ، أو يهتفون : إجعل لنا إلٓها .. و لو عجل له خوار ..!!
لقد كان التخلص من الإمامة و الاستعمار هدفا من أهداف ثورة السادس و العشرين من سبتمبر 1962 التي تتربص بها بقايا الإمامة، و الذي يجب معه إسقاط هذا التربص الإمامي، وترك الانشغال بالتفاهات عن واجب التحرير.
رحم الله شوقي: فَلَتسمعنّ بكل أرض داعيا يدعو إلى الكذاب أو لسجاح
و لَتَشهدنَّ بكل أرض فتنةً فيها يُباع الدين بيع سَمَاح
يفتي على ذهب المُعزّ و سيفه و هوى النفوس وحقدها المِلْحَاح