كتب الله على بني اسرائيل أن يتيهوا في صحراء سيناء اربعين سنة، يرحلون بضعنهم نهارا، ويبيتون ليلاً، غير مدركين انهم عائدين الى نفس النقطة التي بدأوا منها، وهكذا استمرت معاناتهم أربعين عاماً مشقة وهوان.. ودوران في حلقة مفرغة بلا إدراك منهم لذلك.. ولكن تيه الإنسان التهامي، وان كان فرض عليه بلا جريمة اقترفها، الا أنه الأكثر تطلعا للحرية، والأشجع على رفض الظلم والجور، وذاك هو حال الأحرار في زمن العبيد.. حيث كانت ثورة الزرانيق ضد الظلم السلالي البغيض هي جريمة التهامي الحر، التي استحق بعدها أن يغيب في صحاري التيه عقودا تلو عقود، وتوارث إنفاذ العقوبة نظام تلو نظام، ابتداء من الملكية إلى النظام الجمهوري، ثم في ظل النظام الجمهوري الخليط الأخير الطائر بأجنحة ملكية.
ولازال التهامي ابن هذه الارض الطيبة، الغنية بثرواتها، لا يأكل إلا من بقلها وقثائها، وفومها وبصلها، ومن يضطهده يأكل من أرضه المن والسلوى، ومن طيبات رزقها زيادة في الإجحاف وإمعاناً بالإذلال.
واستمر يدور في نفس دائرة التيه، يستجدي من كل نظام، ويتلون معه، يبيت ليلاً، ويسير ويطبل له نهارا، ظناً منه انه يتقدم ويسير، وما يعلم انه يدور ويعود الى نقطة الصفر، متمثلاً حالة التيه في أوضح صورها، داخل تلك الدائرة المفرغة، التي تعيدك لنقطة البدء وأنت لا تشعر، وتوهمك بالتقدم الكاذب، واستمر الحال على هذا المنوال عقود بعد عقود، وتوارث الظلمة هذه الطريقة بالتعامل، مع تهامة الأرض والانسان أجيال تعقبها أجيال، متواصين بها ومشددين عليها، حتى جاءت ثورة فبراير المباركة، وكانت الأمل لكل مظلوم، ونبراس لكل تيه، أن هذه طريق الخروج.
ولكن الغريب أن يؤثر ذلك التهامي (بأغلبيته)، المضطهد في صحاري التيه المفروضة عليه، والأرض تثور من حوله إلا أن يبيت سابتاً في تلك الظروف الحالكة. وقد يكون مرجع ذلك الى المعاناة والقهر، الذي جعله غير واثق من أحد، وغير مكترث لأحد.
لكن الأدهى وغير المقبول، أنه بعد بزوغ فجر الحرية والتحرر، وقرب خروجه من صحراء التيه، وبزوغ النهار، نجد نفراً من بني تهامة، يتصدرون التصفيق والارتهان للظالم من جديد، بعد ان ظهر بأبشع صوره، سواء كان عائلي بغيض، متمثلاً بأسوأ ما دفعت به سنحان لليمن، او سلالي مقيت تصدره جبال مران لتستعبد به الناس.
وتأبى تلك الثلة لمصالح شخصية أنيه، إلا ان تعيد الإنسان التهامي الى صحراء التيه من جديد، ونفس الدائرة المفرغة، التي يغرر صاحبها على الآخرين أنها تسير قدما.. وهي تشده الى الوراء واقعاً وحقيقة.
ولكن الواقع يشير أن تلك الفئة المستفيدة، لن تستطيع ان ترجع عقارب الساعة للوراء، وقد لوحظ ذلك من خلال، عزوف مجمل أهالي وسكان تهامة عنهم.
لأن تهامة الارض والإنسان، قد استبان لها طريق الخروج من أرض التيه، وستدع السامري وضُلاله يتيهون كما يشاؤون هناك..
كيف لا، وقد أحال موسى والأحرار معه عجلهم المعبود حطاماً وهم ينظرون. وقد عاد موسى إليهم بالوصايا العشر، خارطةً لطريق مستقبلٍ مشرق.. فأنى يضلهم السامري بعد ذلك؟