يطل علينا "اليوم العالمي للغة العربية" لا ليكون مجرد مناسبةٍ عابرة في تقويم الأيام، بل ليطرح سؤال الوجود والانتماء على مائدة الوعي العربي المعاصر. إننا أمام لغةٍ ليست ككل اللغات؛ فهي التي صمدت في وجه عوادي الزمن لأكثر من ألف وستمائة عام، لا بفضل سياسةٍ أو قوة مادية، بل لأن الله جل جلاله اصطفاها لتكون وعاءً لكلامه الخالد، ولسانًا لخاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم. حِمى القرآن.. لولا الوحي لاندثر اللسان إن المتأمل في تاريخنا الحديث يدرك حقيقةً مفزعة؛ فلو لم يكن القرآن الكريم عربيًا مبينًا، ولو لم يكن المصطفى صلى الله عليه وسلم عربيًا، لكانت هذه اللغة اليوم أثرًا بعد عين. لقد تعرضت أمتنا لمخططات استعمارية ممنهجة، من "وعد بلفور" إلى "سايكس بيكو"، كانت تهدف في جوهرها إلى مسخ الهوية واجتثاث الجذور. إن بقاء العربية اليوم هو معجزة إلهية مرتبطة ببقاء الدين، ولكن المحزن أن "العقل العربي" المعاصر بات يمارس نوعًا من الانتحار الثقافي، حيث يرى في تطعيم حديثه بكلمات أعجمية مظهرًا من مظاهر الرقي والحداثة، وهو في الحقيقة لا يعكس إلا استلابًا حضاريًا وتبعيةً مهينة، في وقتٍ نرى فيه أممًا أخرى تُحيي لغاتٍ كانت قد طواها النسيان اعتزازًا بكيانها. من سمو الفصحى إلى ركاكة العامية لقد امتدت يد التهاون لتمسَّ جوهر الأدب والشعر، ذلك الميدان الذي كان تاريخيًا ديوان العرب ومبعث فخرهم. واليوم، نرى انحسارًا لبيان الفصحى ورصانتها أمام موجات "العامية البلهاء" والشعر الدارج الركيك. إن الاحتفاء بالعامية وتحويلها إلى لغةٍ للمحافل الرسمية هو جناية في حق التاريخ، وتفريط في ميراثٍ أدبي لم يعهد فيه العرب قائدًا أو زعيمًا يروّج لغير اللسان الفصيح. هذا التآكل الثقافي يهدد بانفصال الأجيال عن بلاغة القرآن وفخامة التراث. فاجعة الأسماء: غربةٌ في عقر الدار ولعلّ أشدّ مظاهر هذا الانسلاخ إيلامًا تظهر في "هوية الأسماء". لقد غدونا نرى تهافتًا من الآباء والأمهات على اقتناص أسماءٍ وافدة من وراء البحار، تُستقى من المسلسلات والأفلام دون وعيٍ بمصدرها أو فقهٍ لمعناها. أين نحن من الأسماء العربية والإسلامية الأصيلة التي تحمل في طياتها المجد والسمو؟ أين الاعتزاز بأسماءٍ مثل: * محمد، وأحمد، ومحمود، وحسن، وحسين (تيمناً بآل بيت النبوة). * عبد الله، وعبد الرحمن، وعمر، وعلي، وعثمان. * خديجة، وفاطمة، وعائشة، وزينب، وصفية. إن استبدال هذه الدرر بأسماء هجينة لا دلالة لها في سياقنا الثقافي، هو عملية "استنساخ مشوّه" تعكس ذوبان الهوية. إن الاسم ليس مجرد نداء، بل هو أول سطر في كتاب انتماء الطفل لأمته. وإن العودة إلى الأسماء البسيطة ذات الجذور العربية، مهما بلغت بساطتها، لهي أكرم وأشرف من الجري خلف مسميات أعجمية فارغة من الروح والمعنى. الخاتمة: العربية عقيدةٌ وانتماء إن اللغة العربية ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي هُويّتنا، ومصدر إلهامنا، وحصن عقيدتنا. إن الحفاظ عليها وقواعدها وبيانها هو حفاظٌ على الوجود العربي والإسلامي ذاته. فلنحذر من ذلك اليوم الذي نستيقظ فيه وقد انسلخنا من لغتنا كما ينسلخ السهم من الرمية، ولنجعل من اعتزازنا بلسان الضاد فعلًا يوميًا يبدأ من اختيار أسماء أبنائنا، وينتهي بتمكين الفصحى في عقولنا وقلوبنا.